آلان تورنج: ماذا تعرف عن الأب الروحي للحاسوب
آلان تورنج
الحرب العالمية الثانية، الألمان لا يمكن قهرهم، قوة عسكرية مفرطة وإنتاج عسكري لا متناهٍ من دبابات وغواصات وطائرات تغزو البر والبحر والجو. وفوق كل هذا شفرة اتصالات لا تُقهر تسمى الإنجما، والتي يشاع أنه وبسبب قوتها وثقة الضباط الألمان في عدم قدرة استخبارات الحلفاء على فك تشفيرها، تقاعسوا عن استخدام موجات راديوية سرية أحيانًا أثناء تبادل الرسائل والأوامر العسكرية باستخدام الشفرة؛ مما جعل الاستخبارات البريطانية تمتلك الكثير من الرسائل الألمانية العاجزين عن قراءتها.
كان المعتاد أثناء العمل المخابراتي أن يعتمد فك الشفرات على طرق عملية عسكرية استخباراتية غالبًا. لكن، كل هذه الطرق كان مصيرها الفشل. الألمان يحمون شفرتهم بشكل جيد جدًا، ويحمون جهاز التشفير بأرواحهم بالفعل، والطرق القديمة لن تجدي نفعًا؛ ولهذا قرر البريطانيون أن يتوجهوا هذه المرة للعلم، علماء الرياضيات والمنطق، أو كما يمكن أن أطلق عليهم: كهنة الأسرار. أسست بريطانيا مركزًا بحثيًّا سريًّا متخصصًا في علم الشفرة عينت فيها مجموعة من عباقرة علماء الرياضيات وقتها، وكان أحد هؤلاء هو آلان تورنج.
طفولة مضطربة
لأبوين إنجليزيين، ولد آلان عام 1912، وقضى فترة طفولته وشبابه بعيدًا عن والديه اللذين كانا في البعثة العسكرية البريطانية في الهند. وفي عام 1930 توفي أعز صديق ومُلهم له، كريستوفر موركوم Christopher Morcom، ليترك آلان غاضبًا بسبب وفاة صديقه العزيز، ليقرر بعدها أن يستمر في البحث في الفكرة الفلسفية الهامة، محاولة للبحث عن إجابة لحيرته عن العقل، وعلاقته بالمادة، وكيف أن الموت يحطم العلاقة بينهما.
درس آلان الرياضيات King’s College بجامعة كامبريدج ثم في جامعة برينستون والتي حصل فيها على درجة الدكتوراه، قبل أن يعود لكامبريدج لحضور محاضرات الفيلسوف عالم المنطق الشهير لودفيغ فتغنشتاين، وبعد ذلك بسنوات عالم الرياضيات ماكس نيومان Max Newman. خلال تلك الفترة قادته دراسته للرياضيات إلى مسارات متقاطعة مع الفيلسوف برتراند راسل وكذلك الرياضييْن دافيد هيلبرت وكورت جودل. قدم تورنج محاولته لحل معضلة هيلبرت فيما يعرف بآلة تورنج Turing machine. أسس تورنج بعمله هذا علوم الحاسب الآلي بشكلها الحديث، وما زلنا ندين له بالفضل في هذا.
آلة تورنج
آله تورنج هي تجربها ذهنية اخترعها تورنج محاولة لتقديم مفهوم الخوارزمية الآلية القادرة على العمل بشكل منطقي رياضي بدون تدخل بشري طبقًا لمدخلات وأوامر محددة مسبقًا، واخترع تورنج آلته الفكرية أثناء محاولته الإجابة على معضلة هيلبرت حولها، وتأثره بمبرهنة جودل. قدم تورنج أفكاره بشأن المعضلة والآلة عام 1936 للعالم نيومان. وبالتوازي، ظهرت فكرة عالم المنطق ألونزو تشرش Alonzo Church وتسمى «λ-calculus» «حسابات اللامدا» لتحمل حلًا متداخلًا مع ما قدمه تورنج. جردت هذه المصادفة تورنج من الاحتفال بإنجازه بشكل فردي، حيث ذكر عمل تشرش في ورقته البحثية On Computable Numbers with an application to the Entscheidungsproblem، فيما عرف بأطروحة تشرش-تورنج Church–Turing thesis. وتعتبر آلة تورنج النموذج المثالي للحسابات الخوارزمية الرياضية، حيث أنها قادرة على حل أي معضلة رياضية قابلة للحل، والأساس الرياضي لأي حاسوب حالي، ويعتبر أي حاسوب يعمل ما هو إلا نجاح جديد لتورنج.
يقول عنها تورنج في ورقة بعنوان آليات ذكية Intelligent Machinery عام 1948:
قاد عمل تورنج لإنتاج آلة تورنج العامة universal Turing machine، وهي محاكاة لعدد لا نهائي من آلات تورنج كل منها يطبق خوارزمية مختلفة. أو بطريقة أخرى؛ إيجاد طريقة لكتابة كل خوارزمية بطريقة الخطوات التي تؤديها آلته؛ ومن ثم إعطاؤه كأمر للآلة والتي ستحلله وتقوم بتنفيذه ذاتيًا. وبهذا يمكن اختصار آلات تورنج كلها في آلة واحدة عامة مع مجموعة من الأوامر والخطوات التي تمثل خوارزميات مختلفة، هذا هو الحاسوب ببساطة. قام تورنج بإنتاج كل هذا رياضيًا قبل ظهور أول حاسوب حقيقي، والذي أثبت أن الأسس العلمية لكل ما قاله تورنج صحيحة.
على الرغم من أن تورنج برهن بآلته خطأ معضلة هربرت، بإثباته عدم قدرة الرياضيات على حل جميع المشاكل، لكن المشاكل القابلة للحل فقط، إلا أن تورنج كان يركز في تفكيره على ما يستطيع بالفعل تحقيقه -لا عدم تحقيقه- باستخدام آلته الفكرية. وانطلاقًا من فكرة أن الآلات الميكانيكية ذات قدرات محدودة، بجانب بداية تطور التقنيات الرقمية على هامش الحرب العالمية الثانية، حاول تورنج تطبيق أفكاره رقميًا. وكان ما يحفز تورنج حقيقةً هو طموحه بأن يستطيع بناء آلة رقمية تعمل بنظريته «آلة تورنج العامة» تستطيع محاكاة العقل البشري. كان تورنج يأمل ويثق في قدرة التطور التقني على تحقيق أحلامه. قدم تورنج أبحاثه لمعامل الفيزياء الوطنية National Physical Laboratory بلندن، لكن لم يتم تنفيذ تصميماته وذلك بسبب ظروف الحرب وقتها التي تتطلب الحفاظ على سرية العلماء العاملين بمركز فك الشفرة، وكذلك بسبب وجود تصميم لحاسوب آخر مقدم من العالم فون نيومان، كان منافسا لتصميم تورنج. قدم تورنج أيضا ورقة بحثية لنفس المعمل -لكنها لم تنشر وقتها- عن فكرة الشبكات العصبوية Neural network، وقال وقتها أنها ستكون قادرة على تعليم نفسها بنفسها، ولهذا حديث قادم.
تورنج وشفرة الإنجما
تضاربت الأقاويل حول نسب فضل فك شفرة الرايخ أثناء الحرب، وهو الإنجاز الذي يقال أنه قلص من زمن الحرب عامين كاملين. لكن الأكيد أن تورنج أثناء عمله في الهيئة السرية بــ Bletchley Park المتخصصة في فك الشفرات الألمانية، مبني على عمل مبدئي لمجموعة من العلماء البولنديين، حيث كان عملهم نواة لفهم طريقة واحدة من طرق استخدام الشفرة من قبل الألمان. قام تورنج بتطوير تلك الطريقة وتعميمها بحيث تستطيع فك أي شفرة إنجما بمجرد تخمين بضعة كلمات منها. وطور تورنج خلال فترة الحرب العديد من طرق فك الشفرات الأكثر تعقيدًا أيضًا والتي كانت تستخدم من قبل الغواصات الألمانية، ونذكر منها طريقة (Banburismus) و (Turingery) و (Delilah). كما قام بالسفر لأمريكا أثناء فترة للحرب لنقل طرق فك الشفرة للجيش الأمريكي وكذلك للاطلاع على أحدث ما توصلوا إليه في هذا المجال. حكيت القصة كاملة في الفيلم الشهير The imitation game من بطولة بيندكت كامبرباتش.
لعبة التماهي
لن ينتهي حديثنا لو بدأنا نتحدث الآن عن مفهوم الوعي. لكن -وببساطة شديدة- لكي تكون ذكيًّا يجب أن تكون واعيًا، مدركًا لذاتك، ولك خصائصك النفسية والسلوكية والكلامية المختلفة والمميزة لكونك «أنت». هذا هو محور لعبة تورنج، أو اختبار تورنج، لعبة التماهي the imitation game.
تخطيط لاختبار تورنج
في ورقة بحثية عام 1950 بعنوان Computing Machinery and Intelligence لآلان تورنج أثناء عمله بقسم الحاسوب بجامعة مانشستر، قدم تورنج تساؤلاته حول قدرة آلة أو برنامج أو حاسوب على القيام بأفعال وتصرفات تدل على وجود ذكاء حقيقي ووعي خاص. ولمعرفة ذلك اقترح تورنج لعبة بين فردين أحدهما حاسوب ذكي، وبين محقق أو حكم، كل منهم في غرفة منفصلة ويتواصلون سويًا عبر شاشة حاسوب ولوحة مفاتيح. وتهدف اللعبة لأن يميز الحكم بين الإنسان والحاسوب، من خلال توجيه أسئلة مباشرة لكل منهما وتحليل الإجابة. وتم تطوير الاختبار وقصره على حكم وشخص واحد فقط، يحاول الحكم استنتاج إن كان شخصًا حقيقيًا أم حاسوب ذكي.
أثارت لعبة تورنج الجدل لفترة طويلة، حيث يقول البعض إنه لا يلزم طريقة تعامل وشخصية بشرية لإضفاء ذكاء بشري على برنامج أو حاسوب، بل الأهم هنا هو قدرة الحاسوب على أداء المهام العقلية بكفاءة وسرعة أكبر من الإنسان؛ وبالتالي فهذا الاختبار في رأي معارضيه بلا جدوى حقيقية. وربما لهذا، وأيضًا لعدم تطور القدرات الحوسبية الذكية سوى مؤخرًا، لم يوضع الاختبار محل تجربة حقيقية سوى في التسعينات على يد هيو لوبيونر Hugh Loebner والذي أعلن عن مسابقة بالتعاون مع مركز كامبريدج للدراسات السلوكية عن جائزة قيمتها 100000 دولار أمريكي لأول من ينجح في الاختبار، وسميت الجائزة باسمه Loebner Prize. ولأن المختبرين في تلك المسابقة كانوا علماء متخصصين في علوم الحاسب، فشل أغلب المتقدمين، وتم تعديل شروط الجائزة وأصبحت سنوية وتمنح للمتسابق الذي منح أعلى تقييم سواء نجح أو فشل في الاختبار. أقيمت النسخة الأخيرة من المسابقة عام 2015 في Bletchley Park -حيث كان تورنج يعمل على فك شفرة الرايخ-، وفاز بالمركز الأول بها برنامج الحديث الآلي Rose، والذي يمكنك محادثته واختبار مستوى ذكائه من الرابط.
نهاية مأساوية
نتيجة لتهمة أخلاقية، حكم على تورنج من قبل محكمة بريطانية في مارس 1952 بحكم أدت تبعاته لأن يُفصل من عمله وينعزل الناس، ويركز في عمله على نظرية التخلق الحيوي morphogenetic theory بجانب عودته للبحث في نظرية الكم. في تلك الفترة أصدر آلان ورقة بحثية بعنوان The Chemical Basis of Morphogenesis، وتعتبر الأساس لعلم الرياضيات الحيوية، ويعتبرها البعض بداية نظرية الفوضى.
توفي آلان تورنج عام 1954 منتحرًا بالسيانيد، بعد أن ترك بصمة في كل مجال علمي قام بطرقه، وما زلنا ندين له بالفضل حتى الآن مع كل حاسوب -ذكي أم غبي- نستخدمه الآن.