“السميط”، ريادية العمل الإداري والخيري والدعوي
قبل عدة أشهر، التقيتُ صديقًا لي يعمل مسئولاً إعلاميًا وإغاثيًا بإحدى المؤسسات الدولية المعروفة في العمل الخيري داخل أفريقيا، وتطرّق حديثنا إلى الدكتور عبد الرحمن السميط. قال صديقي: (كنتُ فيما مضى أقول لماذا لا يتكرّر نموذج السميط في العمل الخيري داخل أفريقيا؟ ولمّا نزلتُ إلى ميدان العمل وعاينتُ الأمر أدركتُ السبب. كنا ننزل العاصمة في أي دولة أفريقية ونقطع المسافة من السيارة إلى الفندق في سرعةٍ؛ اتقاءً للحرارة المرتفعة. لم تكن المسافة تتجاوز النصف دقيقة على الأكثر، لكنها واضحة العناء. أما هذا الرجل – يقصد السميط- فكان يقضي الليل والنهار في أفريقيا في الأحراش والصحراء والمستنقعات، 29 عامًا وليس نصف دقيقة، يبيتُ كيفما اتفق، ويأكل ما تيسّر إن أكل، ويقبل بكل هذه المعاناة عن طيب خاطر. كان رجلًا فريدًا مؤهّلاً للمهمّة؛ لهذا يصعب أن يتكرّر السميط مرة أخرى).
ولد أبو صهيب عبد الرحمن حمود السميط، في منتصف أكتوبر/تشرين الأول عام 1947م، ونشأ لعائلة متوسطة الدخل، محبًا للتحدّي وللقراءة والمعرفة، والتحق بمدارس الكويت التأهيلية وانتسب إلى فِرَق الجوالة الكشفية في مرحلة دراسته الثانوية قبل أن يتخرّج منها ويلتحق بكلية الطب بجامعة بغداد. ورغم تعرّضه للسجن والتعذيب الوحشي على يد النظام البعثي في العراق، إلا أنه تمكّن من الحصول على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1972م، وسافر إلى بريطانيا ليحصل على دبلوم أمراض المناطق الحارة من جامعة ليفربول (1974م)، ودبلومتي التخصص في الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي من جامعة ماكجل (1978م).
في عام 1980م، وبعد عودته إلى الكويت للعمل اختصاصيًا في أمراض الجهاز الهضمي بمستشفى الصباح، كانت أولى تجاربه الميدانية في العمل الإغاثي، حيث سافر إلى أفريقيا لبناء مسجد في دولة ملاوي على نفقة إحدى المحسنات الكويتيات، ليقرّر بمجرد عودته إلى الكويت إنشاء مؤسسة «مسلمي أفريقيا»، ولجنة «مسلمي ملاوي».
بعدها بثلاث سنوات (1983م) قرّر التفرّع التام للعمل الخيري في أفريقيا، وتحوّلت مؤسسة «مسلمي أفريقيا» إلى جمعية «العون المباشر». وتكريمًا لمجهوداته الريادية في العمل الخيري، نال وسام رؤساء دول مجلس التعاون الخليجي في مسقط (1986م)، وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام والمسلمين (1996م)، وتبرع بمكافأتها (750 ألف ريال سعودي) لتكون نواة للوقف التعليمي لأبناء أفريقيا، وحصل عى وسام النيلين من الدرجة الأولى من جمهورية السودان (1999م).
ورحل عن عالمنا، في منتصف أغسطس 2013م، عن عمر يناهز 76 عامًا.
في كتابها (تجارب في الريادة المجتمعية) تحدّد «أمل خيري» أربع سمات أساسية للعمل الريادي:
- التفكير غير التقليدي الذي يتجسّد في تحوّل ثوري لمواجهة التحدّيات الاجتماعية.
- تقديم حلول مستدامة لمشكلات متأصّلة في المجتمع، وليست حلولًا هامشية أو مؤقّتة.
- تحقيق الأثر الإيجابي الذي يمكن قياسه بوضوح (على المدى القصير والمتوسط والبعيد) مقارنة بحال المجتمع قبل ظهور الحلول المستدامة.
- تقديم أفكار مبتكرة قابلة للتعميم وصالحة للانتشار خارج السياق المحلّي.
كما تحدّد ستّ خصائص للرائد المجتمعي:
- الوعي والمعرفة بواقع المجتمع الذي يعمل عليه ومشكلاته وموارده وإمكاناته.
- الثقة بالنفس وبالقدرة على إحداث التغيير.
- الإبداع والاستفادة من الموارد غير المستعملة لتلبية احتياجات غير ملبّاة.
- المبادرة والهمّة العالية والاستعداد الدائم للتضحية والعطاء.
- الإيجابية والحيوية والمثابرة في إيجاد حلّ لكل مشكلة وفق الرسالة التي يعمل لأجلها.
- الإلهام؛ فقد ينجح الرائد المجتمعي في إقناع مجتمعات بأكملها لاتخاذ خطوات تغيير حقيقية.
الحقيقة أن أدنى مطالعة لسيرة الدكتور عبد الرحمن السميط، ومذكراته التي نثرها في ثنايا مقالاته ولقاءاته التلفازية، ومنجزاته التي تمكّن من تحقيقها (أسلم على يديه في أفريقيا وحدها قرابة 11 مليون شخص، وشيد قرابة 1200 مسجد، وأنشأ 860 مدرسة و4 جامعات و204 مراكز إسلامية، وحفر 2750 بئرًا ارتوازيًا، وكفل 9 آلاف يتيم، وغيرها) تجسِّد بشكلٍ شديد الوضوح سمات الريادة المجتمعية، وتنطبق عليه كل خصائص الرائد المجتمعي، وعن جدارة.
وفيما يلي بيان لبعض ملامح فلسفته الريادية في المجالات الأبرز: الدعوة، والعمل الخير، والعمل الإداري.
مما تأسّست عليه ريادية د. عبد الرحمن السميط، فلسفته في العمل الخيري، والتي أكّد على ملامحها تكرارًا في ثنايا كتاباته، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
– الإسلام سبق جميع النظريات والحضارات والمدنيات في العمل التطوعي الاجتماعي والإنساني.
– الميدانية والاستدامة، ولم يكن يرى أن مهمته هي نقل المعطي إلى المحتاج وإنما تأسيس مؤسسة راسخة، وتوطين الخدمات.
– العمل التنموي مدخلٌ رئيسٌ للعمل الدعوي، وذلك انطلاقا من أحكام الإسلام التي تأمرنا بأن نساعد الحالات التي تحتاج إلى إعانة إنسانية بأي شيء، (والحقيقة – والكلام للدكتور السميط- أن 95% من الذين أسلموا في أفريقيا على أيدي العمل الإغاثي الخيري والدعاة يرجع إلى المعاملة الحسنة وليس بسبب الوعظ وكثرة الكلام).
ومن روافد ريادية د. عبد الرحمن السميط الممتدة عبر 29 عامًا من العمل، فلسفته في العمل الإداري، والتي لخصها بأنها تقوم على:
– (المؤسّسية في العمل الخيري بطريقة مدروسة وفق كوادر ومتخصصين، والشفافية في كل خطوة إدارية أو مالية)، وكان قويًا واثقا من عمله وقنوات صرف أموال المؤسسة الخيرية التي يرأسها، بل إنه طالب كثيرًا بضرورة تدريس مادة إدارة العمل الخيري في الجامعات كي يتم سدّ العجز في الكوادر المتخصصة التي تحتاجها الجمعيات الخيرية.
– الرقابة الميدانية كي لا يقع فيما وقعَت بعض المؤسسات التي مدّت جذورها بشكل كبير في وسط المتبرعين ونسيت الزيارات الميدانية وأهميتها في الرقابة الإدارية والمالية.
وقد طبّق فلسفته الإدارية تلك في إدارته لجمعية «العون المباشر» من خلال:
- إلغاء الوسطاء بين المُعطِي والمحتاج.
- التنمية هي أفضل وسيلة للقضاء على التهميش الإنساني.
- تحمّل الإهانة في سبيل إتمام العمل لوجه الله.
- الاعتماد على الطبقة المتوسطة في جمع التبرعات منها.
- التخصّص، عملًا بالمثل الإنجليزي (إن الإنسان الذي يعمل بكلّ شيء لا يعمل بشيء).
- توجيه الخطاب الإعلامي إلى النساء.
- ما لم تكن مقتنعا بالنجاح فلن تصادفه.
- الرقابة المالية الدقيقة الصارمة.
د. عبد الرحمن السميط، نقلا عنه في كتاب «رجل من زمن الصحابة» د. رسمية شمسو
في إحدى أوراقه الخاصة التي نشرها بعض المقرّبين منه قبل أسابيع، كشف د. عبد الرحمن السميط عن تأثّره في نشاطه وتوجّهه الدعوي، بداعية جنوب الجزيرة، الشيخ المجدّد «عبد الله القرعاوي» (1315هـ – 1389هـ).
كانت رؤية القرعاوي للعمل الدعوي تقوم على مبدأ «الدعوة العملية» بكل تطبيقاته، مع اتباع الأسلوب النبوي في الدعوة: حيث كان يهتمّ بدعوة زعماء القبائل والأعيان، واستمالتهم، فالناس غالبًا تبع لهم، مع الأخذ بالأسباب المؤثرة في إزالة المنكر إذا تأكّد أنها ستُجدي، مع التدرّج الذكيّ المختصَر في إزاحة الباطل وإقامة الحقّ مقامه، وعدم تضييع الوقت والجُهد والفرصة فيما يغلب عليه الظنّ بكونه لا يفيد.
وفيما يمثّل امتدادًا لتأثر د. السميط بهذه الرؤية، جاءت فلسفته في العمل الدعوي، والتي صاغها بعض ملامحها في كتاباته، ويمكننا استشفاف باقيها، لنجملها فيما يلي:
- الحكمة رأس مال الدعوة، وقد تكون قبل العلم وقبل أي شيء آخر، ثم الاعتدال في الطرح حيث نكون وسطيين ومعقولين في طرح أولوياتنا ونشر تعاليم الإسلام على الشعوب.
- عدم التدخل في القضايا القبلية أو السياسية، والخلافات بين الأديان أو المذاهب الإسلامية أو الانتخابات.
- استثمار الانتماء القبلي في توطين الدعاة وتخصيص الخطاب الدعوي وابتدائه وتدرّجه.
- دعوة العلماء المسلمين إلى وضع فقه الواقع للأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب، وانتقد بشدّة الدعاة الذين يزورون بلدان الأقليات المسلمة وينشرون فتاوى متطرفة ضد النصارى، أو يثيرون فتنا كبرى بين المسلمين حول قضايا صغيرة قد تتسبب في زيادة العداء للإسلام، وتعطيل الدعوة بين الناس هناك.
- عدم التحرّج من التعامل والتعاون مع بعض المنظمات الكنسية في سبيل تحقيق أهدافه الاجتماعية والإنسانية، فتعاون مع بعض الرهبان والهيئات الكاثوليكية ذات الأهداف الإنسانية في مدغشقر وشمال مالي وتوجو، وأسلم على إثر ذلك بعض القساوسة، وكان يصرّح: (نحن لا نبحث عن أعداء ونحاول أن نبني جسورًا مع الآخرين قدر الإمكان).
- مستقبل المسلمين في أفريقيا لن تبنيه “المساعدات” التي تقدّمها بعض الدول الغنية، وإنما سيبنيه أبناؤها بأنفسه، وذلك من خلال اختيار أطفال من القبائل المختلفة وإيوائهم في مراكز جمعيته والدراسة في مدارسها والاستفادة من خدماتها المتنوعة لإعدادهم تعليميًا ودينيا واجتماعيًا، وتحمّل أعباء الدعوة والمساهمة في قيادة مجتمعاتهم مستقبلًا.
- استثمار الإعلام الجماهيري في تصحيح المفاهيم في أذهان الناس، فمشروع الإذاعة يكاد يكون أفضل من تجنيد مائة داعية وكلفتها أقل وهي بمميزاتها تدخل كل بيت.
رغم التاريخ الحافل، والمُنجَز الفريد للدكتور عبد الرحمن السميط لعمله طوال 29 عامًا داخل قارّة أفريقيا؛ إلا أنّ هناك بعضَ الفرص الضائعة التي كان يمكن استثمارها لتفتح طريقًا جديدًا مستحَقًا في البحث العلمي.
ففي الوقت الذي اقتصر فيه المُنتَج العلمي للدكتور عبد الرحمن السميط فيما يخصّ أفريقيا، على الجوانب الدعوية والإغاثية والإدارية؛ لم يتمّ استثمار رحلات الرجل في أدغال القارّة الأفريقية ومجاهلها وربوعِها، في تسجيل كشوف جغرافية جديدة، أو كشوف إنثربولوجية وديموغرافيّة، وأخرى في علوم النبات. لم يحدث هذا – لا على مستوى التدوين الشخصي ولا على مستوى البحث العلمي الميداني-، وهو من الفرص الضائعة التي لم تقتنصها تجربة الدكتور السميط الثريّة الممتدّة في أفريقيا.
- موسوعة (علماء ومفكرون معاصرون)، المركز العربي للدراسات الإنسانية، تحت الطبع.
- تجارب في الريادة المجتمعية، أمل خيري، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة.
- عبد الرحمن السميط.. رجل من زمن الصحابة، د. رسمية شمسو، دار العصماء، دمشق، 2011م.
- لمسيرة لمجدد جنوب الجزيرة الإمام عبد الله بن محمد القرعاوي، بندر بن فهد الإيداء، دار المنهاج، 2010م.
- مجلة الكوثر، الكويت، عدد 167، سبتمبر 2013م.
- * برنامج بلا حدود، حلقة "واقع المسلمين في أدغال أفريقيا"، 5 أكتوبر 2005م، قناة الجزيرة الإخبارية.
- * برنامج تحت المجهر، حلقة "قبائل الأنتيمور وعرب مدغشقر"، 23 فبراير 2006م، قناة الجزيرة الإخبارية.
- * برنامج زيارة خاصة، حلقة "عبد الرحمن السميط.. مساعدة الفقراء ونشر الإسلام"، 2 يونيو 2007م.
- * برنامج مباشر مع، حلقة "مساعدة الفقراء ونشر الإسلام في أفريقيا"، 13 يناير 2010م، قناة الجزيرة مباشر.