في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر 2023، عُقدت إحدى أهم الندوات في جامعة هارفارد لنوح فيلدمان، أحد أهم أساتذة القانون الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية. له عدد من المؤلفات الهامة تُرجم منها إلى العربية: «ما بعد الجهاد: أمريكا والصراع من أجل ديمقراطية إسلامية» و«مُقسمون بالرب: مشكلة الدولة الكنسية في أمريكا». كما أنه ساهم في وضع دستور دولة العراق الحالية وهو زميل مساعد في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية.

دارت هذه الندوة حول مناقشة تداعيات حرب حماس/إسرائيل الچيوبولوتيكية (Geopolitical consequences)، وبدت تصريحاته في غاية الخطورة والصراحة في تحليله لأسباب وتبعات هذه الحرب – على حد تعبيره. جدير بالذكر أن فيلدمان لم يذكر كلمة «إبادة» منذ اندلاع الأزمة في غزة. نُشرت المناقشة تفصيلياً على صفحة جامعة هارفارد الموثقة من أسئلة وإجابات فيلدمان.

فيلدمان يؤكد على أن هذه الحرب ستغير بالتأكيد الوضع الجيوسياسي للمنطقة، ولكنها على الرغم من تبعاتها وتأثيرها على الوضع الجيوسياسي للمنطقة قد لا تؤدي إلى أي تحولات كبيرة في الأهداف الأيديولوجية أو الجيواستراتيجية للمشاركين فيها. ويعتقد أن السؤال الأهم هو ما إذا كانت الحرب ستقتصر على غزة أم ستمتد خارجها وتؤجج صراعات أخرى في الشرق الأوسط. أشار بالتحديد إلى العلاقات المتوترة بين حزب الله في لبنان ودولة الاحتلال، ووصفه بالجماعة المدعومة بالسلاح من إيران، وقدّر احتمالية نشوب الحرب بين كلا الجانبين خلال الأشهر الستة القادمة بنسبة 20٪.

لكن ما هو جدير بالذكر في تصريحات فيلدمان من خلال تحليله هو إشارته إلى الدور الذي لعبته المملكة العربية السعودية والذي أدى إلى نشوب الحرب على غزة من وجهة نظره.

إن العلاقات الدولية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة ربما لعبت دوراً هاماً في توقيت الحرب بين إسرائيل وحماس. وذلك بموجب صفقة التي وصفها بـ “الصفقة الكبرى”، حيث ستمنح الولايات المتحدة السعودية إمكانية الوصول إلى برنامجها النووي المدني مع ضمانة أمنية، مقابل جهود المملكة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل ومتابعة المحادثات التي تحدد الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية
نوح فيلدمان

كما قال أيضاً: «على الرغم من أنه من المستحيل تحديد ذلك بأي قدر من اليقين، أود أن أقول أنه بشكل محتمل قد تكون مثل هذه الصفقة عاملاً رئيسياً ساهم في توقيت هجمات حماس».

لا بد أن نضيف أن المملكة العربية السعودية تشهد حراكاً ملحوظاً ومتواصلاً اقتصادياً وصناعياً واجتماعياً وثقافياً ساعية إلى نهضتها، ولكن ما هو الثمن؟ كما أنها تسعى إلى توفير الطاقة اعتماداً على الطاقة الذرية الخضراء، على خطى جمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

فيلدمان في اعتقاده أنه من المحتمل أن يكون أحد أهداف حماس في هجومها في 7 أكتوبر هو عرقلة إمكانية التوصل إلى مثل هذه الصفقة بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. وعبر عن ذلك قائلاً: «هكذا كان المنطق من وجهة نظر حماس: مهاجمة إسرائيل؛ تحفيز ردة فعل دولة الاحتلال لتكن كبيرة للغاية؛ الأمر الذي سيقتل الكثير والكثير من المدنيين». وتابع فيلدمان: «إنه بذلك ستولد مشاعر كبيرة مؤيدة للفلسطينيين ومشاعر مناهضة لإسرائيل، متجاهلة بقية العالم». وبالتالي ذلك سيجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للسعودية لعقد صفقة مع إسرائيل».

طبقاً لذلك التحليل، يكون أفضل سيناريو لحماس، هو أن هجومها سيؤدي إلى حرب مفتوحة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، الأمر الذي سيخلق جبهة ثالثة لمهاجمة إسرائيل.الخطير أيضاً وفقاً لذلك التحليل إشارته إلى أنه بعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، ربما «ستتشجع» المملكة العربية السعودية بسبب ضعف موقف حماس في غزة. في حين إذا تمت الموافقة على الاتفاق السعودي الإسرائيلي، فإن السلطة الفلسطينية ستكون المتحدث الرسمي باسم غزة فيما يتعلق بإنشاء دولة فلسطينية – على الرغم من عدم وجود «سلطة عملية على الإطلاق» في المنطقة.

وعبر عن ذلك قائلاً: «هناك قطاع من الناس في العالم السعودي تعتقد أن ذلك سيكون في الواقع بارقة أمل فيما يتعلق بالتوصل إلى اتفاق، حيث ستتمكن السلطة الفلسطينية من تأكيد السلطة الفعلية في غزة». وقد أضاف بأنه على الرغم من أن مسؤولي البيت الأبيض قد صرحوا بتلك وجهة النظر، إلا أنه غير متأكد من صحتها.

قائلاً: «إن هذا الرأي يتم تشجيعه في واشنطن من قبل إدارة بايدن ومن قبل الأشخاص الذين يودون أن يروا هذا على أنه مأساة مروعة يمكنهم استخدامها بعد ذلك لتحفيز التغيير والمصالح الاستراتيجية وزيادة احتمالية الصفقة».

وفي النهاية ختم هذا النقاش بقوله: «نعم، إنها مجرد أمنيات، لكن في بعض الأحيان يكون للتمنيات بعض من الحقيقة».

طبقاً لدراسة نُشرت في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيچية تحت عنوان (الموقف الإسرائيلي من المشروع النووي السعودي/ صراع الحسابات)، ذُكر أنه قد سبق للسعودية أنّ رفضت مناقصة من شركة ويستنجهاوس الأمريكية في 2022، لذلك سارعت الشركة لعقد شراكة مع شركة كوريا للطاقة الكهربية من أجل إعادة تقديم المناقصة على السعودية التي لا تزال الآن في محل دراسة.

وأنه بالفعل تعتزم السعودية فتح مباحثات مع الصين لإنشاء مفاعل نووي على الحدود مع قطر والإمارات على الخليج العربي، ولكن يبدو أنّ المسئولين السعوديين يضغطون على الولايات المتحدة لعدم فرض أي قيود سياسية على السعودية تتعلق بمنع الانتشار النووي، أو ملفات سياسية أخرى.

كما أشار معهد واشنطن الأمريكي إلى مباحثات سرية بين السعودية وقائد الجيش الباكستاني لتبادل التكنولوجيا النووية والصاروخية في مستهل هذا العام.

وقد وافقت السعودية على فرض الشفافية ووسائل الرقابة الدولية من قبل وكالة الطاقة الذرية على أنشطتها النووية. لذلك تعتقد الإدارة الأمريكية أنه في حال رفض الكونجرس المشروع النووي السعودي، فستلجأ الأخيرة إلى دول أخرى في آسيا وأوروبا. تم نشر هذه الدراسة في الثامن من شهر أكتوبر العام الماضي:

وأفادت أنباء رسمية في العام 2015 بأنه قد تم توقيع مذكرة تفاهم بشأن الطاقة النووية بين السعودية وكوريا الجنوبية تتضمن دعوة لمشاركة الشركات الكورية لتشييد مفاعلين من الحجم الصغير أو المتوسط وأن ذلك ربما سيستغرق حتى عام 2040، ويشمل الاتفاق التعاون في الأبحاث والتطوير والبناء والتدريب. وبشكل منفصل وقعت الشركة السعودية للكهرباء أربعة اتفاقات في مجال الطاقة مع جنرال إلكتريك الأمريكية ومؤسسة الطاقة الكهربائية الكورية ومع دوسان للصناعات الثقيلة والبناء وبنك الصادرات والواردات ويتضمن اتفاق مؤسسة الطاقة الكورية التعاون في تطوير الطاقة النووية والمتجددة.

ووفقاً لدراسة أخرى في غاية الأهمية نُشرت لدى مركز أبعاد للدراسات الإستراتيجية تحت عنوان (مشروع الممر الأوروهندي: النشأة والتطور والدور الإسرائيلي) أنه قد قدمت الولايات المتحدة مشروع الممر الهندي/الأوروبي الذي يمر بالأراضي السعودية والإسرائيلية ودول أخرى، ويرتبط بذلك الممر مشروعاً لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره إلى القارة الأوروبية المتعطشة للطاقة.

يأتي معظم إنتاج الهيدروجين في العالم من مصادر طاقة غير متجددة ذات انبعاثات كربونية، مما يُفقد الإنتاج ملامحه البيئية الخضراء، لذلك تدرس الدول دمج الطاقة النووية في تكسير المياه كهربياً من أجل إنتاج الهيدروجين لتقليل الانبعاثات الكربونية، وهو هدف أمريكي بامتياز في منطقة الشرق الأوسط؛ لذلك يجدر القول إنه من المرجح أن يروج البيت الأبيض أمام الكونجرس بالموافقة على المشروع النووي السعودي لمثل هذا الاعتبار الاقتصادي البيئي. ولذلك من المحتمل أن تطلب الولايات المتحدة وإسرائيل ضمانات محددة لتحفيز موافقتهما على بناء مشروع نووي سعودي مكتمل الدورة، ومن غير المستبعد أن تعرض إسرائيل على السعودية منظومة القبة السيبرانية «قبة سكادا» أو SCADA DOM من أجل مراقبة النشاط النووي في المفاعل السعودي. تلك الدراسة بتاريخ العاشر من أكتوبر العام الماضي، وأشار لهذه النقطة أيضاً المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية خلال المصدر الذي سبق ذكره.

لنعود سريعاً إلى أحد النقاط التي أثارها تحليل نوح فيلدمان وما تردده الأوساط الدبلوماسية الأمريكية ومسؤولو البيت الأبيض حول آمال السعودية في استقرار أوضاع غزة بعد أن تكون تحت سيادة السلطة الفلسطينية ومن ثم القضاء على حماس وترحيب قطاع كبير من الناس بذلك، كما يمكن الآن إضافة تحليل ردود الأفعال تجاه الأوضاع المؤسفة في غزة منذ السابع من أكتوبر. ففي إطار التحليل النفسي، فإن ظاهرة التجاهل أو عدم القدرة على مواجهة الحقائق المؤلمة تجد جذورها في عدد لا يحصى من آليات الدفاع المتأصلة بعمق في النفس البشرية. إحدى هذه الآليات هي الكبت، حيث يقوم العقل دون وعي بإبعاد الأفكار أو المشاعر المهددة من الوعي، مما يؤدي إلى إبعادها إلى أعماق اللاوعي الغامضة. وفي سياق الحرب، قد يقوم الأفراد بكبت الرعب واليأس الساحقين الناجمين عن الصراع للحفاظ على ما يشبه التوازن النفسي، وحماية أنفسهم من العبء الكامل لتأثيره العاطفي.

وبالمثل، يعمل الإنكار كآلية دفاع قوية أخرى، حيث يرفض الأفراد بشدة الاعتراف بالحقائق القاسية لظروفهم. وفي سياق المناطق التي مزقتها الحرب مثل غزة، قد ينكر الأفراد بشكل دفاعي مدى المعاناة أو الظلم، ويبنون واجهات ذهنية متقنة لعزل أنفسهم عن الحقائق المروعة التي تتكشف من حولهم. ومن خلال إنكار خطورة وضعهم، يحاول الأفراد الحفاظ على الوهم الهش للحياة الطبيعية، ولو على حساب مواجهة الحقائق القاسية.

علاوة على ذلك، فإن الصدمة الجماعية المتأصلة في نسيج المجتمع يمكن أن تؤدي إلى تفاقم ميول الأفراد لتجاهل الحرب أو البقاء سلبيين في مواجهة الحرب. إن الشعور السائد بالعجز واليأس الذي يتخلل المجتمعات المحاصرة بالصراع من الممكن أن يولد خدراً جماعياً، ويضعف قدرة الأفراد على التعاطف والعمل.

في مثل هذه البيئات، يمكن أن يؤدي الحجم الهائل للمعاناة إلى إصابة الأفراد بالشلل العاطفي، مما يعيق قدرتهم على حشد استجابات ذات معنى للتخفيف من محنة أولئك المحاصرين في بوتقة الحرب، ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان أن ندرك أن ظاهرة التجاهل أو عدم القدرة على معالجة أهوال الحرب تتجاوز مجرد نظرتنا للنفس البشرية؛ فهي متشابكة بعمق مع الديناميات المجتمعية الأوسع والظلم المنهجي.

إن التفاوتات البنيوية، وديناميات السلطة السياسية، والمظالم التاريخية، تعمل جميعها على تشكيل استجابات الأفراد للصراع، وتؤثر على قدرتهم على التعاطف، وبالتالي، فإن أي محاولة لفهم ومعالجة ظاهرة التجاهل في سياق الحرب يجب أن تشمل فحصاً شاملاً للتفاعل بين علم النفس، والقوى المجتمعية، والحقائق الجيوسياسية.

أخيراً في شهر أغسطس من عام 2023 قد أفادت أنباء موثوقة المصدر حول محاولة المملكة العربية للتوصل لاتفاق مع الصين وحرفياً ذكرت أن الأولى تقارن بين عرضين صيني وفرنسي للطاقة النووية. ذلك الخبر عن هيئة الإذاعة البريطانية وذكرت اعتراض دولة الاحتلال على أي اتفاق تقوم به المملكة العربية السعودية بشأن مشروع الطاقة النووية حتى لو سلمياً، ويعرج تقرير صادر عن الفايننشال تايمز على أن إدارة بايدن الحالية جعلت تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب أولوية لها خلال فترة محددة وامتنعت عن إعطاء الضوء الأخضر للسعودية بعدم فرض أي قيود على تخصيب اليورانيوم على أراضيها.

ويختم التقرير بأن أي اتفاق طويل الأمد لحصول المملكة على تقنية نووية حسب شروطها سيواجه اعتراضات من الكونجرس الأمريكي وأشار أن الرئيس الأمريكي الحالي يتعامل مع ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للبلاد على أنه شخص منبوذ.

يمكن أيضاً الرجوع لملف مرصد معهد واشنطن الصادر أيضاً في أغسطس من نفس العام بعنوان (مطالب السعودية النووية: ماذا تريد؟ وما الذي قد تحصل عليه؟) بواسطة سايمون هندرسون وهو مدير «برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة» في معهد واشنطن. وديفيد شينكر وهو «زميل أقدم في برنامج توب» ومدير «برنامج روبين حول السياسة العربية» التابعان للمعهد.

يسلط الملف الضوء على التحديات المعقدة التي تواجه العلاقات الأمريكية-السعودية في مجال التعاون النووي. فمن جهة، تواجه واشنطن معضلة حقيقية: إما تقديم المساعدة النووية للرياض مع ضمانات قوية، أو المخاطرة بتوجه السعودية نحو شركاء آخرين مثل الصين أو روسيا، مما قد يؤدي إلى ضمانات أقل صرامة. هذا الوضع قد يدفع إدارة بايدن إلى اتخاذ موقف أكثر مرونة تجاه قضية تخصيب اليورانيوم، سعياً للحفاظ على النفوذ الأمريكي في المنطقة.

في الوقت نفسه، تسعى الولايات المتحدة جاهدة لتحقيق توازن دقيق في سياستها الإقليمية. فهي تشجع التطبيع بين السعودية وإسرائيل، بينما تحاول كبح جماح النفوذ الإيراني المتزايد. كما تسعى واشنطن للحفاظ على خياراتها الدبلوماسية مفتوحة، مع معالجة المخاوف المتعلقة بانتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. هناك قلق متزايد من أن التقدم النووي الإيراني قد يدفع دولاً أخرى في المنطقة، مثل مصر والسعودية وتركيا والإمارات، للسعي نحو تطوير قدرات نووية عسكرية خاصة بها. هذا السيناريو يثير مخاوف من احتمال تدخل قوى عالمية أخرى كروسيا والصين، وحتى فرنسا، لتقديم المساعدة النووية لهذه الدول.

أما فيما يتعلق بموقف المملكة العربية السعودية، فيبدو أن القيادة السعودية، وعلى رأسها ولي العهد محمد بن سلمان، غير مستعدة للقبول بأي اتفاق يمنح المملكة امتيازات أقل مما حصلت عليه إيران في الاتفاق النووي لعام 2015. وتركز المناقشات الأمريكية-السعودية بشكل كبير على السياسات الإقليمية لإيران وبرنامجها النووي الطموح. رغم أن إيران تدعي أن برنامجها يهدف لتزويد المفاعلات المدنية بالوقود، إلا أن هناك اعتقاداً واسعاً بأنه برنامج عسكري. ويرى معظم المراقبين أن إيران قد تكون على وشك امتلاك القدرة على إنتاج أسلحة نووية، مما يزيد من حدة التوتر في المنطقة ويعقد المفاوضات مع السعودية.