الرحلة: قصة احتكار باكستان لصناعة كرة القدم
بمنتصف القرن الـ19، كانت بريطانيا قد أنشأت حامية عسكرية لها في «سيالكوت»، تلك المدينة الباكستانية الحدودية، طمعًا في استغلال مواردها الطبيعية، ونتيجة لهذا التواجد العسكري المُموّل؛ هاجر العمال الباكستانيون المهرة للاستفادة من ارتفاع الطلب على السلع والخدمات.
«فازال إيلاهي»، الذي عمِل بأواخر القرن الـ19 كـ«سروجي»، كان أحد هولاء العُمَّال المحليين المهرة، وبمحض الصُدفة، وضعه القدر أمام رقيب بريطاني، الذي طلب منه أن يُصلح له كرة قدمٍ مثقوبة، وعند إنهائه مهمته بنجاحٍ، فرح الرقيب بشدّة، خاصةً عندما أدرك أنّه لن يضطر للانتظار لـ8 أشهُرٍ كاملة، حتى تصل كرة جديدة من بريطانيا إلى باكستان. ومن هنا بدأ كُل شيء.
رحلة السيطرة على العالم
حاليًا تَضُم مدينة «سيالكوت» أكثر من 1000 شركة متخصصة في صناعة وتوريد كرات القدم لكل العلامات التجارية العالمية تقريبًا، ولعل أهمها التعاون مع شركة «أديداس» الألمانية، التي أعلنت مؤخرًا عن «الرحلة»؛ ككرة رسمية لمباريات كأس العالم قطر 2022، والتي تم صناعتها بأيادٍ باكستانية.
والسؤال: كيف لمدينة تنتمي لدولة لا تملك أي تاريخ في كرة القدم، أن تحتكر صناعة الأداة الأهم بها؟
في الواقع، الحقيقة المؤسفة هي أن «سيالكوت» لم تكُن لتحظى بفرصة كتلك دون وجود الاستعمار، الذي لعب الدور البديل لمتطلبات السوق المحلّي، حيث ارتكزت جهود الحرفيين الباكستانيين على توفير المنتجات الرياضية للإنجليز في باكستان أو الهند بشكل عام.
بل وتوسّع النشاط ليشمل توفير نفس المنتجات للمستعمرات البريطانية حول العالم. ومع مرور السنوات، وحتى بعد انتهاء الاستعمار، كانت «سيالكوت» قد بنت سمعة جيدة، حيث تمتلك أفضل العمَّال من حيث الجودة، إضافةً لسعر العمالة المنخفض مقارنةً بالعمالة حول العالم.
طبقًا لأحد مؤسسي شركات صناعة الأدوات الرياضية في «سيالكوت»، كان للحكومة دور محوري في هذا التفوُّق؛ أولًا، أنشأت الحكومة منطقة صناعية متخصصة في «سيالكوت» عرضت فيها الأرض على المستثمرين بنسبة 50% من القيمة الفعلية للأرض.
ثانيًا، قامت الحكومة بتحفيز الصادرات غير التقليدية، من خلال السماح للشركات المحلية باسترداد الرسوم الجمركية، ورسوم الإنتاج وضرائب المبيعات، على المواد الخام التي تم استخدامها كمدخلات للصادرات.
حسب وجهة نظر معظم العاملين بقطاع صناعة كرة القدم في باكستان، كان لتلك القرارات مفعول السحر؛ حيث استقطبت هذه السياسات عملاء من مختلف الدول لبدء شراكات مع مُصنّعي كرة القدم في باكستان، خلال الفترة ما بين الثمانينيات والتسعينيات والتي تعرف بالفترة الذهبية لصناعة كرة القدم في باكستان.
الطريق للجحيم مفروشة بالنوايا الحسنة
في الواقع، وعلى الرغم من أهمية تصنيع كرات القدم للاقتصاد الباكستاني، تظل عملية إنتاج كرة القدم في «سيالكوت» مُعقدة جدًا، وفي أسفل هرم التوريد، توجد العمالة اليدوية، التي يفضّل الوسطاء أن تقوم بعملها في أماكن غير رسمية مثل مراكز الخياطة أو المنازل، على أن تكتمل باقي العمليات بواسطة عُمّال المصانع.
تشير التقديرات إلى أنّ نحو 300 ألف إنسان منخرط بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه الصناعة، ومع ذلك، لا يحق لهؤلاء العمُّال تشكيل نقابات، أو تقديم شكاوى للمحاكم العُمالية، حيث لا يعتبرهم القانون الباكستاني عُمالًا بشكل رسمي.
مع ارتفاع معدلات البطالة في «باكستان» خلال الـ20 سنة الماضية، أضحى العمّال ضحية لاستغلال أرباب العمل المتمثل في ساعات العمل الإضافية، الأجور المتدنية، وبيئات العمل الخطرة، إضافة إلى عمالة الأطفال.
بذكر آليات العمل، تراجعت سُمعة «سيالكوت» بالعقد الماضي، لتفقد أحد أهم معارضها، حين أنتج أحد المصانع الصينية الكرة الرسمية لكأس العالم 2010 «جابولاني»، ولهذا أسباب منطقية جدًا.
في دراسة قام بها بعض باحثي الدكتوراة في الجامعة الإسلامية بمدينة بهاولبور الباكاستانية عام 2011، حول أسباب تراجع باكستان بسوق توريد كرات القدم أمام الصين، وجد فريق البحث أن هذا التراجع منطقي، ويرجع بالأساس لتطوُّر لعبة كرة القدم نفسها.
أولًا؛ لم يَعُد تصنيع كرة القدم قائمًا على الجلود كما كان بالسابق، لذلك أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع حصة الصين، كان ضخّها للأموال من أجل استيراد موادٍ خام أكثر جودة وأقل سعرًا.
ثانيًا؛ يُعتقد أنّ تغيُّر متطلبات السوق لعب دورًا مهمًا في ذلك التراجع، حيث تبحث العلامات التجارية مؤخرًا عن مصادر موّحدة لاستيراد احتياجاتها، سواءً كانت متعلقةً بكرة القدم أو لا، في حين لا يزال العمل في «سيالكوت» قائمًا على توريد أدوات كرة القدم، وتحديدًا الكرات.
لا مفر من الصين
هل تتذكر قصة «السروجي» الذي أصلح كرة الرقيب البريطاني؟ بالضبط، لطالما كانت الخياطة اليدوية الأصل الحقيقي الذي مَنَح «سيالكوت» بصمتها الخاصة في هذه الصناعة. لكن مع ارتفاع الطلب، أصبَح من المستحيل أن تستمر الصناعة بنفس الشَكل الذي بدأت به منذ قرنٍ من الزمان، لذا، كان لزامًا على بعض المصانع الباكستانية التحوُّل للميكنة، لسبب بديهي؛ وهو أن العمالة البشرية لن تستطيع أن تتكفّل بإنتاج هذه الحصة الضخمة من الكرات حول العالم.
يطفو على السطح سؤال منطقي؛ لماذا تستمر العديد من مصانع كرة القدم الباكستانية في استخدام آليات غير فعّالة؟ على الرغم من تراجع حصتها بالسوق العالمية بالعقد الأخير لصالح المصانع الصينية؟
افترضت مجموعة من الباحثين الأمريكيين أن السبب الرئيسي في استخدام الطريقة اليدوية ورفض التكنولوچيا يرجع بالأساس إلى طريقة دفع الأجور للعُمّال، حيث يُعتقد أن تقاضي الأجر مقابل كُل كرة، يمنع العُمّال من تجربة أي تقنية جديدة، ظنًا منهم أن الوقت اللازم لإتقان الطريقة الجديدة، سيؤثر سلبًا على مداخيلهم الشهرية، القليلة بالأساس.
على النقيض، توفّر المصانع الصينية ظروف عملٍ أفضل بكل تأكيد، إضافة لرفاهية التكنولوچيا، الطاقة، المواد الخام؛ وهي أشياء لا تتوافر في بيئة العمل الباكستانية.
لكل الأسباب أعلاه، يُعتقد أنّ مستقبل هذه الصناعة سيؤول بنهاية المطاف للصين، التي انتزعت نحو 30% من السوق لصالحها بالفعل، حيث تستثمر المؤسسات الصينية المدفوعة برأس المال في عمليات التصنيع عالية التقنية، فيما لا زالت معظم الشركات الباكستانية قائمةً على الأيدي العاملة الماهرة.
حتى اللحظة، لا تزال باكستان متربعة على عرش «صناعة كرة القدم»، وحتى إن كانت المؤشرات تؤكد حتمية التراجع، إلا أنّ الصُدفة التي قادت «سروجي» لبدء هذه القصة، قد تلعب دورًا في استكمالها.