ماذا نعرف عن جرائم القتل العائلي؟
ماذا نعرف عن جرائم القتل العائلي؟ مرض نفسي؟
كلا.. إجابةٌ خاطئة.. أو بالأحرى ليست إجابة دقيقة.. فـ «المرض النفسي» ليس مفتاح فهم هذا النوع من الجرائم.
بالتأكيد قد يكون «المرض النفسي» أحد المحركات الرئيسية لبعض حالات القتل. ولكن حالات «القتل أو المذابح العائلية»، التي عادةً ما يرتكبها الأب، تكون بدوافع مختلفة وأسباب عديدة، ليس من بينها المرض النفسي.
في الوطن العربي، وفي مصر تحديدًا، تظهر مثل هذه الحالات على فترات زمنية متباعدة، لتهز الرأي العام. وبجانب الشعور العظيم بالأسى من جانب متابعي الحادث، فهم قد يربطون –تلقائيًا- بين المرض النفسي وارتكاب مثل هذه الجرائم. لذا، يشعرون بثقة أنهم في مأمن عن هذا النوع من الجرائم.
المثير في الأمر، أن معظم دوافع ارتكاب هذه المذابح – كما سيتضح لاحقًا – نعاني منها جميعًا، على فترات متفاوتة، وبدرجات أقل حدة، ولكن هذا لا يعني أنك في مأمن؛ لأن التزايد التدريجي وغير المحسوس في هذه المشاعر قد يُحدث تحولات درامية في حياة أي شخص، وربما تقوده إلى مأساة كتلك.
القتل العائلي الانتحاري
اتفق علماء الجريمة وأطباء الطب الشرعي أن القتل العائلي الانتحاري أو «Familicide»، هو نوع من القتل أو القتل الانتحاري الذي يقتل فيه مرتكب الجريمة العديد من أفراد الأسرة المقربين في تتابع سريع، معظمهم من الأطفال أو الزوجات أو الأقارب أو الوالدين، وغالبًا ما يقوم القاتل بالانتحار بعد ذلك. وعندما يقوم الجاني بقتل جميع أفراد الأسرة، يشار إلى الجريمة على أنها «إبادة عائلية – Family Annihilation».
ورغم تعدد أنواع جرائم قتل العائلات، مثل قتل الوالدين أو الأشقاء، إلا أن النوع الأكثر شيوعًا، والذي يُستخدم مصطلح «Familicide» للدلالة عليه، هو قتل شريك الحياة الزوجية والأطفال، وغالبًا ما يكون القاتل هنا هو الرجل (زوج/أب).
ورغم المعدل المنخفض لانتشار مثل تلك الجرائم في العالم، إلا أن قدر الإيذاء الذي يلحق بها قد يطول عددًا كبيرًا من الأشخاص، يتجاوز ضحايا الجريمة ذاتها. كما تُولَّي وسائل الإعلام اهتمامًا خاصًا لهذا النوع من جرائم القتل، مما يؤدي إلى انتشار حالة من القلق العام.
وقد وجدت معظم الدراسات أن مرتكب هذا النوع من الجرائم، يكون رجلاً أبيض في الثلاثينيات أو الأربعينيات، ومن المرجح أن يكون لديه موارد اقتصادية كبيرة، وغالبًا لا يحمل سجلاً جنائيًا.
وقد ظهر مصطلح «الإبادة العائلية – Family Annihilation» في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن في المملكة المتحدة ما زال هذا النوع من الجرائم يدخل في نطاق جرائم القتل العادية. وتتضارب الإحصاءات العالمية حول أعداد الجرائم من هذا النوع، بسبب عدم الاعتراف بهذا النوع من الجرائم، وإدراجه ضمن عمليات القتل العادية.
ففي المملكة المتحدة، قدرت بعض الإحصاءات أن هناك 5 حالات قتل من هذا النوع تحدث كل عام. ووفقًا لدراسة أجراها أكاديميون في جامعة مانشستر، كان هناك حوالي 39 حالة بين عامي 1996 و2005. وفي الولايات المتحدة، قدّر مركز سياسات العنف، وهو مجموعة بحثية غير ربحية مقرها في واشنطن، أنه في عام 2007 فقط، كان هناك 1108 حالة قتل عائلي، وقد نفّذ الرجال الأغلبية الساحقة منها.
وتوضح دراسة أخرى أن أكبر عدد من عمليات القتل الجماعي تحدث في الولايات المتحدة تكون داخل الأسرة، ويأتي مكان العمل في المركز الثاني، ثم المدارس. فحوالي 30% من عمليات القتل الجماعي تحدث داخل الأسرة.
ليسوا مرضى نفسيين
يدّعي البروفيسور «جاك ليفين» أستاذ علم الاجتماع وعلم الجريمة في جامعة نورث إيسترن في بوسطن، أن مرتكبي المذابح العائلية لا يعانون – عادةً- من أمراض عقلية أو فصام أو اضطرابات في التفكير. فلا يمكن الادعاء بأنهم مرضى نفسيون، ولكنهم غالبًا ما يتمتعون بقدر كبير من «الأنا العليا».
فالشخص الذي يخطط بطريقة منهجية لقتل عائلته لا يكون عادةً مجنونًا، ربما يكون مرتبكًا لارتكاب مثل هذه الجريمة التي تخرج من العدم. ولكن يجب أن يكون هناك شيء ما خطير قد حدث، فقتل العائلة ليس رد فعل طبيعيًا على وضع سيئ، مهما بلغت درجة سوئه.
من المؤكد أن مثل هؤلاء الأشخاص قد عانوا من الإحباطات الطويلة والمتراكمة، مما أدى إلى حالة من اليأس لفترات طويلة. وغالبًا ما يحِدّ الإحباط من قدرات هؤلاء الأشخاص، مما يصيبهم بمزيد من الإحباط، وكأنها دائرة مغلقة. لذا، ربما تأتي حادثة بسيطة وأخيرة، تكون بمثابة «القشة التي تقصم ظهر البعير»، لكنها بالتأكيد لا تُحيلهم إلى الجنون.
ومن المهم أيضًا أن ندرك أن هؤلاء الأشخاص وهم يرتكبون جرائمهم، لا يُلقون باللوم على أنفسهم، وإلا لقاموا بتناول مضادات الاكتئاب أو اندفعوا نحو الانتحار. هم عادة ما يوجهون اللوم إلى عوامل خارجية محيطة. لذلك، نرى أن بعض هؤلاء الأشخاص -الذين نجوا بعد قتل عائلاتهم- لا يعبرون عن الشعور بالندم أو يصفون أنفسهم بالأشرار، بل يشعرون بأنهم ضحايا.
لماذا يقتل الأب عائلته؟
بعد استبعاد المرض النفسي كأحد أسباب جرائم القتل العائلي، اتجه العلماء إلى تقديم تحليلات مختلفة لتفسير هذا النوع من الجرائم، يمكن إجمالها في الآتي:
1. الإيثار أو الأزمات المالية
وفقًا للتحليلات المختلفة، يقبع هذا الدافع على رأس العوامل المسئولة عن وقوع تلك الجرائم. ويُقصد هنا، إيثار الأب لأبنائه على نفسه، أي رغبته في أن يحيوا حياة أفضل، بعد تأكده أن حياتهم على الأرض على وشك التحول إلى جحيم. وتكون الكوارث المالية هي المُحفّز الأكبر في ذلك الصدد.
فربما يكون الأب قد فقد وظيفته أو خسر كل أمواله في البورصة، ومن ثَمَّ يشعر بأنه لن يتمكن مرة أخرى من العثور على وظيفة أخرى مماثلة، أو توفير ذات الظروف المعيشية السابقة، وبالتالي يرى أن وضعهم الحالي بائس، وأنهم سيكونون أكثر سعادة في الآخرة، بعد جمع شمل العائلة مرة أخرى. وغالبًا ما يُطلق على مثل هذه الحالات «الإحساس المنحرف بالرفاهية».
وغالبًا ما تُسبب الأزمات المالية حالة من الاكتئاب لدى رب الأسرة، ثم يعتقد أن عائلته باتت بائسة مثله تمامًا، ومن ثّمَّ يُقرر إنهاء آلام العائلة بأكملها. ويُعتقد أن الأموال لا تكون هي القضية المحورية، بقدر شعور الوالد بأنه المعيل والمسئول، وبالتالي يكون مضطرًا إلى اصطحاب الأسرة كلها معه.
وعلى جانب آخر، يقول البروفيسور «جاك ليفين»، إن حالات المذابح العائلية ازدادت بشدة في أعقاب الأزمة المالية عام 2007، نتيجة فترة الركود وزيادة معدل البطالة.
ويشرح البروفيسور ليفين قائلاً:
2. القوة والرغبة في السيطرة
تذكر الدكتورة «مارلين غريغوري» من جامعة شيفيلد، أن هذه المآسي العائلية غالبًا ما تحدث نتيجة شعور الأب بالقوة المفرطة، ورغبته في السيطرة على كافة الأمور بقوة وبأي ثمن. فهو من استثمر في الحياة كثيرًا، وتمكّن من إثبات رجولته بطرق إيجابية عديدة. وكذلك فهو يعمل بجد، ولديه علاقات اجتماعية جيدة، وهو أب جيد كذلك.
ولكن انهيار واحدة من هذه العلاقات والحلقات الاجتماعية المحيطة بهذا الشخص، قد تؤدي إلى سلسلة أحداث مأساوية. فمثلاً، عندما تخبره زوجته أنها ستغادر، يتحطم قلبه، ويشعر أنه يفقد السيطرة على كل شيء في حياته. وتسيطر عليه الفكرة التالية: «إذا لم أتمكن من الاستمرار في هذا العالم، فلن أترك الآخرين ورائي». وغالبًا ما يكون «العنف الأسري» أولى علامات الإنذار المبكر لمثل هذه الحالات.
3. الثأر
غالبًا ما يكون هذا الحافز كارثيًا، إذا ما استقر في ذهن القاتل، وهو ما يتنامى نتيجة حالات الطلاق والانفصال أو معارك حضانة الأطفال. وهنا يشعر الشخص بأنه خسر كل شيء، ومن ثَمَّيسعى للانتقام، ونتيجة اعتقاده بأن زوجته هي سبب ما آلت إليه الأمور، فهو يعتبر كل ما هو مرتبط بها شرٌ مطلق، ويجب التخلص منه، سواء كانت الزوجة نفسها أو الأطفال.
4. العزلة الاجتماعية
العديد من هؤلاء الرجال ليس لديهم مكان يلجــأون إليه عندما يواجهون مشاكل. وكذلك لا يملكون أي نوع من أنواع الدعم في محيطهم الاجتماعي. وتزداد الأمور سوءًا عندما تكون «الأنا العليا» إحدى صفات هؤلاء الأشخاص، لأنهم عادة ما يرغبون في السيطرة الكاملة، دون طلب أو تلقي المساعدة من أي فرد حولهم.
عندما يكون القاتل امرأة
رغم اتفاق العلماء، وكذلك مختلف الإحصاءات، على أن النساء هم أقل عُرضة لارتكاب جرائم القتل العائلي الانتحاري بتعريفها الكامل، إلا تلك الحالات النادرة التي تقوم فيها النساء بارتكاب مثل هذه الجرائم تستحق الدراسة.
يقول الدكتور «جون برادفورد»، رئيس قسم الطب النفسي الشرعي بجامعة أوتاوا، إن النساء أكثر عرضة لقتل أطفالهن أكثر من الرجال، لكن الرجال أكثر عرضة لقتل أبنائهم وزوجاتهم معًا.
ويقول الخبراء إن دوافع النساء لقتل أطفالهن عادة ما تكون مختلفة عن دوافع الرجال. فبدلاً من الشعور بأنهن فشلن في توفير ما يكفي لأطفالهن، غالبًا ما تقتل النساء أطفالهن نتيجة شعور مخادع بأنها تفعل الخير من أجلهم، وتُؤثِرهم على نفسها. ونتيجة فشل النساء في الانتحار عقب ارتكاب جرائهم، فإنها لا تُصنف عادة كـ«Familicide».
وفي تلك الحالات، يدعي العلماء أن المرض النفسي أو الاكتئاب قد يكون أحد المحركات الأساسية للنساء في ارتكاب مثل هذه الجرائم، حيث تتملك الهواجس الشيطانية النساء، ويبدأن في النظر للعالم من خلال زجاج رمادي باهت. وعندما ينظرن إلى أطفالهن، يرون من خلالهم معاناتهن وآلامهن العاطفية، فيعتقدن أنهم يعانون أيضًا، ومن ثَمَّ يرغبن في تحريرهم من هذه المعاناة، وإرسالهم إلى السماء.
وهناك مجموعة من الأطباء النفسيين الذين يرون أن بعض النساء اللاتي يعانين من أمراض عقلية، قد لا يرون أطفالهن في حالة معاناة، ولكن على العكس، يرون أنهم شرٌ مطلق، ويجب قتلهم لحماية الجنس البشري.