الرافعي: نزعته النقدية في الشعر ومعاركه الأدبية
«مصطفى صادق عبد الرزاق الرافعي»؛ هو أديب مصريُّ من أصول شامية قَدِمَتْ عائلته قديماً إلى مصر واشتغلوا في القضاء. وُلد عام 1880م في قرية بهتيم من قرى محافظة القليوبية في مصر لأبوين سوريَّين، وتولّى والده رئاسة المحاكم الشرعية بمصر.
إنه الرجل الذي امتلك ناصية البيان، فأخرج بها أدباً رفيعاً خلَّد فيه تراث الإنسان العربي، وأحسبه رسول البيان في تاريخ اللِّسان البشري، ومعجزته تكمن في تركيب الجملة العربية البيانية، داخل النص الأدبي.
نحن نلمس في أدب الرافعي نزعة نقدية اتّسم بها أسلوبه، وتلك النزعة يتوصل إليها بالتفكير وإعادة النظر في نصوصه، وأيُّ باحث يُجري بحثاً في أعماله الأدبية؛ فإنه سيجد تلك النزعة النقدية؛ مُتناثرة بين كُتبه ومقالاته.
بَيْدَ أن النزعة النقدية للرافعي تطوّرت على مرحلتين فكانت الأولى: أيام شبابه حين كتب ديوان «نسيم السَّحَر» وقدّم له، وفي تلك المقدمة البليغة وضع التصّور المبدئي حول فلسفة الشّعر بشكل عام ومراتب الشعراء ومذاهبهم، بينما نزعته وقتئذ لم تنضج بعد؛ نظراً لصغر سّنه.
والمرحلة الثانية: هي التي اكتملت فيها فلسفة الرافعي، وأصبح نقده متيناً قوياً متماسكاً وقائماً على فلسفة عميقة؛ ويتضح ذلك في مقاله المعنون بـ «نقد الشّعر وفلسفته»، ومقالاته النقدية عن كبار شعراء مصر: كـ حافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وأحمد شوقي، وهذه المقالات بمثابة المصدر الفكري، لمذهبه النقدي الفلسفي في الأدب؛ وتلك المقالات نجدها في الجزء الثالث من وحي القلم.
اتّبع الرافعي في معاركه الأدبية أسلوباً متعدداً جمع بين: الناقد المحلل، والناقد المتهكم على خصومه، لذا نجده في كتابه «على السَّفُّود» اختار أسلوب النقد التهكمي لينقد به شعر العقاد وأدبه وفلسفته:
وفي معركته مع طه حسين رأيناه يستخدم النقد التاريخي والفلسفة الأدبية، من أجل مناقشة أفكار طه حسين الحداثية؛ كما انتقد الجامعة المصرية، وقام بالسخرية من طه حسين بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي»، وهو بداية خلافهم؛ وتلك المعركة جمعها الرافعي في كتاب وأسماه «تحت راية القرآن»، والكتاب يُناقش الفكر الحداثي والداعين إلى التجديد والحداثة والعولمة.
أمّا في حلقات مقالات «وحي الأربعين»؛ فإنه قد أخرج ثلاثيّته الرائعة في الأدب التي انتقد فيها ديوان «وحي الأربعين» -للكاتب عبّاس محمود العقاد- نقداً اتضحت فيه عبقرية الرافعي وقُوّته في البلاغة والأدب، وسنعرض أولاً نزعته النقدية في الشعر، ثم نقتبس بعد ذلك بعضاً من آراءه الشعرية والنقدية المتعلقة بأدب أحمد شوقي، ونختم بمعركة القديم والجديد.
من هنا تبدأ فلسفة الرافعي
يؤكد الرافعي بأن الشاعر الحق هو الذي يعشق الطبيعة عشقاً خاصاً يكون معه غزل رقيق؛ فالطبيعة بدون غزل لا تكتمل صورتها داخل النفس، إلا بعد أن يُقدّم لها الشاعر أسباب حُبه وعشقه:
ينتقل الرافعي إلى ماهية الشعر وارتباطه بالوجود:
يقف الرافعي عند قريحة الشاعر ليبدأ بدراستها وتحليل أسرار الإلهام في روح تركيبة الشاعر، حتى يعرف كيف ينظر الشاعر بخياله إلى معاني الأشياء ويخلق الإبداع الشعري في نظمه، ويعلل الرافعي ويتساءل:
فهم الرافعي علاقة الشعر بالطبيعة؛ لذا يجعل من الشعر جسراً للجمال تعبر من خلاله الطبيعة، لتخلق ثورة الجمال في النفس، ولكي تُولد الحقيقة منهما، مُغلَّفة بباقة ورد، كـ سحر البيان و «بالشعر تتكلم الطبيعة في النفس وتتكلم النفس للحقيقة وتأتي الحقيقة في أظرف أشكالها وأجمل معارضها أي في البيان».
الرافعي يتأمل الآن في ماهية الشاعر، بعد أن سافر هناك داخل نفس الشاعر، ثم نراه ابتكر نسقاً فكرياً خاصاً به ليكشف من خلاله السمات الفلسفية لآلية التفكير الشعري لدى الشاعر، فيقول:
يعتقد الرافعي بأن جميع الشعراء متساوون في الأفكار؛ لأن الأفكار موجودة في رأس كل شاعر وفي قلبه ولسانه، ينطق بها وقت ما شاء؛ بيد أن فنية الشاعر تكمن في خصائص الأفكار الجميلة المؤثرة، بالإضافة إلى الخيال وقوته مع المحافظة على حقيقة الأشياء. كل هذا عند الرافعي هو الذي يسمى بالشاعرية:
وينتهي الرافعي في نظريته إلى حقيقة الشاعر؛ بعد أن وضع الشعر في السياق الذي أراده، ينتقل منه إلى النقد ليضعه في السياق نفسه:
يؤكد الرافعي في نظريته بأن سعة المطالعة يكون منها ملكة النقد، لذا يجب على الناقد أن ينطلق منها ليكون مُخولاً للنقد؛ كما عليه الإحاطة بتاريخ الأدب، وذلك يفرض عليه أن يمتلك ذوقاً فنياً مصقولاً، وأسلوباً خاصاً به يميزه عن غيره.
والذوق الفني لا يتحقق إلا بعد الإبداع في صناعتي: الشعر والنثر، بعد ذلك تأتي «الموهبة الغريبة التي تلفُّ بين العلم والفكر والمخيّلة فتبدع من المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصاً من هؤلاء جميعاً هو الذي نسميه الناقد الأدبي».
يزداد تعمق الرافعي في فلسفته عن النقد بغرض تفكيك ماهية النقد ونراه توسّع في التحليل حتى انتهى به البحث إلى هذا الرأي الأخير الذي أوضح فيه ماهية النقد:
ينتقل الرافعي من صفات الناقد وماهية النقد، إلى تعريف الحاسة التي يتم بها النقد والتأكيد على أن الحاسة هي التي يتواجد معها النقد وبدونها يكون النقد مستحيلاً أو وإن لم توجد الحاسة فإنه ناقص:
ونفهم من تحليلات الرافعي وفلسفته حقيقة وجود نزعته النقدية، بعد أن قمنا بعرض أركان مذهبه النقدي الذي استنتجنا منه نزعته النقدية في الأدب وهي:
الرافعي ينتقد أحمد شوقي
نتناول الآن مذهب الرافعي النقدي الذي ينتقد به الشعر، متقيداً بالموضوعية من جهة، وبالبحث من جهة ثانية، فقبل أن ينتقد أدب أحمد شوقي وشعره، قام بتحليل شخصيته:
بعد الثناء على شوقي وأدبه، نفهم من سياق حديث الرافعي بأن العبارات الآتية ستكون في نقد أدب شوقي، بعد الإشارة إلى خصائص شخصية شوقي ومميزاتها يكون الطريق مُمهداً ليبدأ الرافعي بالنقد.
هذه أبيات من أشعار شوقي السائرة بين الناس، وفيها من عذوبة البيان ما يرتوي منه الإنسان، غير أن الرافعي انتقدها من حيث النحو، وأجازها من حيث توليد المعنى الشعري؛ وكشف عن الأصل الذي أخذت منه ويوضح ذلك في تعليقه:
تفرَّد الرافعي عن بقية الأدباء من أقران عصره بهذه النزعة النقدية في الأدب التي عرضناها، فكونه شاعراً وأديباً، يقابله من جهة كونه ناقداً وفيلسوفاً، ونحن أثبتنا تلك النزعة، ولعل هذه النزعة كانت سراً من أسرار الرافعي التي دفعته نحو الفصاحة وقوة الرأي في الجدال واستحضار الدليل الذي يكون منه البرهان، ذلك هو: الرافعي.