«الربض»: ثورة المهمشين والفقهاء في الأندلس
لم تكن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحدها هي المحرك الوحيد لثورة أهالي الربض ضد الدولة الأموية بالأندلس، في عهد الأمير الحَكم بن هشام، فقد كان الصراع بين الدين والدولة فاعلًا رئيسًا في هذه الأحداث، بعدما حاول الأمير تقليم أظافر الفقهاء والحد من تدخلاتهم في شؤون الحُكم.
و«ثورة الربض» في قرطبة أخطر ما واجهه الأمير الحكم بن هشام -الذي عرُف بالحَكم الأول أيضًا- خلال ولايته الطويلة (796 – 822م – 180 – 206هـ). وبحسب الدكتور عبدالمجيد نعنعي في كتابه «الدولة الأموية في الأندلس/ التاريخ السياسي»، فإن مكمن الخطورة في هذه الثورة ليس ما جندته من إمكانات وما أثارته من اضطرابات، وإنما لما كان فيها من مضامين اجتماعية واقتصادية وسياسية تستهدف الأسس والركائز التي أقام عليها الأمويون دولتهم في الأندلس.
«ربض» مقابل «ربض»
عندما اتخذ المسلمون مدينة قرطبة عاصمة للأندلس، تزايد عدد سكانها بسرعة مذهلة، وقصدها المهاجرون من عرب وبربر ليكونوا قريبين من السلطة، ونزلت فيها عائلات وموظفو وجنود الإمارة. وعلى هذا كانت مساكنها وأحياؤها في تكاثر مستمر، وانتشرت حولها وعلى أطرافها الضواحي والأحياء السكنية، وكانت تسمى بلغة ذلك الزمان «الربض»، وجمعها «أرباض».
وعلى الضفة الثانية لنهر الوادي الكبير في الجهة المقابلة لمسجد قرطبة الكبير ودار الإمارة، نمت بسرعة كبيرة ضاحية أو ربض اكتظ بالسكان من أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة، وكان جُل هؤلاء من الإسبان المسلمين أو المولدين (الذين وُلدوا من آباء إسبان اعتنقوا الإسلام). ويذكر «نعنعي»، أن هؤلاء كانوا ينكرون على العرب تفردهم بالسلطان والحُكم، ويرفضون سياسة الدولة المتحيزة للقلة التي أتت من وراء الحدود.
ونبع رفض هذه الطبقات للسياسة الأموية من سببين مهمين، الأول يتمثل في طغيانهم العددي ولكونهم أصحاب الأرض والبلاد يرون أنفسهم أحق بالأمر وأجدر بالعناية والرعاية، والثاني أنهم كمسلمين كانوا يرون في سياسة الدولة هذه خروجًا على أحكام الإسلام التي تأمر بالعدل والمساواة من فوق كل الحدود الجنسية والعرقية والطبقية، كما ذكر «نعنعي».
صراع الفقهاء والسلطة
من جانب آخر، فإن طبقة الفقهاء التي قرّبها الخليفة الأموي هشام الرضا من مواقع السلطة والنفوذ، وسمح لها بالتدخل في أمور الدولة وشؤون الناس باسم المحافظة على أحكام الإسلام، لم ترض عن خط الابن الحكم بن هشام، الذي كان يصر على أن يحكم حكمًا مباشرًا وأن يحسم كل الأمور بنفسه.
ويذكر «نعنعي»، أن الحَكم كان يرى ضرورة استعادة بعض ما أخذه رجال الدين عمومًا من مكانة سياسية أيام أبيه، والحد من نفوذهم، والحيلولة دون تدخلهم في شؤون الدولة، ليكونوا فقط حيث يجب أن يكونوا في المساجد والمدارس وبين المؤمنين.
وكان من المنطقي، أن يرفض رجال الدين بصورة علنية وقاطعة سياسة الأمير الحكم هذه، فنقموا عليه أشد نقمة وعادوه جهارًا، وانتشروا بين الناس، خاصة بين فئات المتدينين من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة يشنعون عليه وينتقدون سياسته، واستغلوا في ذلك منابر المساجد.
ومما أضفى مصداقية ورواجًا لحملات رجال الدين أمام العامة، أن الأمير كان محبًا للحياة، مرحًا، يهوى الصيد والقنص، ويشارك في مجالس الأنس والطرب، ويجالس الشعراء والماجنين، وميالًا إلى الترف والبذخ.
وبحسب «نعنعي»، فإن أكثر الترحيب بدعاوى الفقهاء ورجال الدين للتمرد ومناهضة الأمير كان في أوساط المولدين الرافضين أصلًا لسياسة الدولة، وبصورة خاصة في الربض المواجه لدار الإمارة حيث يكثر المولدون.
صراع المصالح
يذكر محمد خالد مصطفى المومني، في دراسته «الصراع بين الدين والدولة في عصر الحكم الربضي»، أنه رغم الأسباب الظاهرة لسخط الفقهاء على الأمير الحَكم، لكن كانت هناك أسباب دفينة تتمثل في خوفهم من اضمحلال نفوذهم وضياع زعامتهم وتضرر مصالحهم، لذا كان الصراع بين الطرفين صراع مصالح، وتقوية نفوذ طرف على حساب الطرف الآخر، استغل فيه الفقهاء جمهرة الناس لتحقيق مصالحهم.
ويروي «المومني»، أن الحَكم كان يفضل مجالسة الأدباء والشعراء على مجالسة الفقهاء والعلماء، فوجد الفقهاء أنهم حُرموا من النفوذ والجاه الذي تمتعوا به في أيام والده هشام الرضا، ومن ثم ساءت العلاقات بينهم وبين الحَكم الذي لم يُحدث توازنًا على الأقل بين الفقهاء والعلماء من ناحية والأدباء والشعراء من ناحية أخرى، بخاصة أنه لم يبد اهتمامًا كبيرًا بالناحية الدينية.
وبحسب «المومني»، استثنى الحَكم الفقهاء من المشاركة في شؤون الدولة دينيًا وسياسيًا، وتخلى عن سياسة أبيه في إكرامهم واستشارتهم والاعتماد عليهم، ولم يقلدهم مناصب إدارية، ولم يجعل القضاة يصدرون أحكامًا إلا بموافقة ضمنية منه، لذا كان يتم تغيير أكثر من قاض خلال سنة واحدة، كما أنه لم يكن يستشيرهم في شؤون الدولة الحساسة، خصوصًا عندما فرض ضرائب إضافية وعيّن لجبايتها ربيع القومس أحد النصارى في قرطبة، الذي عُرف بدرايته وخبرته في الشؤون المالية، وكل هذه الأمور دفعت الفقهاء للحنق على الأمير.
أسباب تراكمية
تضافرت هذه العوامل مع أسباب تراكمية أخرى ساعدت في قيام الثورات على الأمير الحَكم، وزيادة الصراع بين الدين والدولة، أبرزها تمييز الدولة في التعامل مع الرعية في تقلد المناصب الإدارية، وتفضيلها للعرب بخاصة الأمويون منهم على غيرهم، مما أدى إلى نقمة الفئات السكانية الكثيرة والمتنوعة، كالمولدين والصقالبة والبربر والموالي واهل الذمة، ذكر «المومني».
وتزامن ذلك مع عدم إشراف الدولة على تنظيم استقرار الفئات السكانية المختلفة في مدينة قرطبة إشرافًا إداريًا يمنع حدوث الفوضى والاضطرابات، فنزلت كل قبيلة واستقرت في المنطقة التي تروق لها حسب ميولها، وبالتالي نمت العصبيات القبلية وكثرت النزاعات.
ولا يمكن تجاهل سوء أوضاع الناس جراء فرض الضرائب عليهم ووقوع بعض الكوارث الطبيعية والمجاعات، وعدم تعويضهم والتخفيف عنهم، وكذلك تجميع المعارضين للسطة في السجن المركزي أو الإقامة الجبرية في قرطبة.
ويضاف إلى ما سبق، قضاء الأمير الحَكم على الثورات الداخلية بقسوة في عهده، كثورة عميه عبدالله وسليمان، وثورة المولدين المسماة بوقعة «الخندق» أو «الحفرة»، وثورة بهلول بن مرزوق وكلها وقعت سنة 181هـ – 797م، وثورة أصبغ بن عبدالله بن وانسوس سنة ( 190 – 191هـ/ 805 – 806م)، وكان لهذه الثورات أثر كبير في إعلان ثورة الربض في قرطبة والمشاركة فيها، ذكر «المومني».
محاولة الانقلاب على الأمير
وفي سنة 189هـ – 805م، اعتقد الفقهاء وبعض وجهاء قرطبة الكارهين لحكم الأمير الحَكم أن معارضة الناس، في قرطبة خصوصًا، بلغت حدًا يسمح لهم بالعمل على إسقاط الأمير الأموي وإبداله بآخر، فتآمروا عليه وعرضوا على أحد أبناء عمومته محمد بن قاسم تقديمه وخلع الحَكم، فأظهر لهم الإجابة، ولكنه في الحقيقة خذلهم وأفشى سرهم، بحسب ما روى «نعنعي» في كتابه المذكور آنفا.
ولم يتهاون الأمير مع المتآمرين، إذ واجه الأحداث بسرعة فائقة، فأخذهم بأقصى الشدة والعنف، وقتل منهم اثنين وسبعين رجلًا وصلبهم ليعتبر بهم الآخرون. وكان من هؤلاء عدد ممن عُرفوا بالزهد والتقوى والورع، مثل يحيى بن نصر اليحصبي، وموسى بن سالم الخولاني وولده، مما خلّف في نفوس الأتقياء جرحًا عميقًا.
ويذكر «نعنعي»، أن تأثير هذه المذبحة على جماهير قرطبة، وبخاصة سكان الأرباض، كان قويًا، فارتفعت حدة المعارضة للأمير وكثر المعرضون به وعمت النقمة عليه، مما جعله يتحسب لرد فعل سريع، فأقدم على تدعيم سور قرطبة وتقويته وجدّد وعمّق الخندق المحيط به.
شرارة ثورة الربضيين
بقيت النار –لسنوات- تحت الرماد بانتظار الفرصة المناسبة ليعود لهيبها قويًا مدمرًا حارقًا، وهذا ما حدث في عام 202هـ – 818م، أي بعد حوالي ثلاثة عشر عامًا من مجزرة الفقهاء، حيث اندلعت نيران الثورة من شرارة صغيرة. ويروي الدكتور محمد سهيل قطوش في كتابه «تاريخ المسلمين في الأندلس»، أن أحد الجنود ذهب إلى حدّاد بحي الربض من المولدين ليصلح سيفه، فماطله الحداد بعض الوقت، ونشب نقاش حاد بين الرجلين، فما كان من الجندي إلا أن استل سيفه وقتله.
وأثار هذا الحادث غضب سكان الحي المشبعة نفوسهم بالحقد والكراهية، فوثبوا على الجندي وقتلوه، وأغلقوا متاجرهم، وتجمعوا للاحتجاج على هذا التصرف من جانب الجنود. واستغل الفقهاء هذا الحادث على طريقتهم، فدعوا سكان الربض للزحف إلى قرطبة والتخلص من الأمير.
وبحسب «قطوش»، عبرت جموع الربضيين الجسر إلى قرطبة مسلحة بما وصل إلى أيديها من سيوف وخناجر وعصي وغيرها، وتوجهوا إلى قصر الإمارة وحاصروه في محاولة لاقتحامه وقتل صاحبه، بوصفه المسؤول الأول عما حدث من تجاوزات، وكان في طليعتهم يحيى بن يحيى، القائد الفعلي للثورة، وفقيه آخر هو طالوت بن عبدالجبار المعافري.
وصعد الحَكم الأول على سطح القصر ليراقب ويقدّر الموقف، وظل محتفظًا بهدوئه، إلا أنه شعر بالضغط الشعبي، فأمر القائدين عبيدالله بن عبدالله البلنسي، وإسحاق بن المنذر، بالالتفاف حول الثائرين والذهاب إلى الربض وإشعال النار في منازله، وكلّف فرقة أخرى من جيشه بمقاومة الثائرين.
وبالفعل، اخترق القائدان الحاجز البشري ووصلا إلى الربض ونفذا المهمة بإتقان، فلم يشعر الربضيون إلا ومنازلهم تحترق، فاضطربت صفوفهم وعادوا مسرعين من دون نظام في محاولة لإنقاذ ذويهم وأموالهم، فتتبعهم الجنود وأوقعوهم بين نارين، وأحاطوا بهم من كل جانب، وقتلوا عددًا كبيرًا منهم، وطاردوا الفارين في الأزقة والطرقات، وقبضوا على ثلاثمائة منهم، فصلبهم الحكم الأول على ضفة نهر الوادي الكبير صفًا واحدًا، وتمكن بعض الفقهاء من مدبري الفتنة من الفرار إلى طليطلة، مثل يحيى بن يحيى وطالوت بن عبدالجبار.
ولما انتهت المقاومة، أمر الحكم الأول بهدم حي الربض وحرث أرضه وزراعتها، فلم يُعمر طيلة حكم بني أمية، كما أمر من نجا من الربضيين بمغادرة قرطبة وأمهلهم ثلاثة أيام.
مغادرة الربضيين الأندلس
اضطر عدد كبير من الربضيين إلى مغادرة الأندلس عقب فشل ثورتهم، فعبر بعضهم إلى بلاد المغرب، وتحديدًا في منطقة الريف بالشمال، فاستقبلهم إدريس الثاني حاكم دولة الأدارسة، وطلب منهم الإقامة في مدينة فاس التي أسسها والده واتخذها عاصمة له، فاستجابوا لطلبه وانتقلوا إليها، ونقلوا معهم مظاهر الحضارة الأندلسية، لا سيما أن معظمهم كانوا من أهل الحرف والصناعات والزراعة، فأعطوا المدينة طابعًا أندلسيًا جميلًا، سواء في صناعتها أو في أبنيتها البيضاء ذات الحدائق الداخلية في أحواشها، بحسب ما ذكر أحمد مختار العبادي في كتابه «في تاريخ المغرب والأندلس».
أما الفريق الآخر من الربضيين الذين غادروا بلادهم، وكان عددهم نحو خمسة عشر ألف شخص، فواصلوا المسير في البحر المتوسط شرقًا حتى بلغوا شواطئ الإسكندرية، فنزلوا في ضواحيها في أوائل عصر الخليفة العباسي المأمون.
وكانت الأحوال في مصر مضطربة، إذ انتقلت إليها عدوى الخلافات التي نشبت بين الأمين والمأمون، ففريق يؤيد المأمون، وفريق آخر كان مع الأمين، وظل بعد مقتله سنة 198هـ يعارض خلافة المأمون، وفريق ثالث بزعامة السري بن الحكم وأولاده يعمل لحسابه الخاص، ويضرب فريقًا بآخر بغية الاستقلال بمصر.
ويذكر «العبادي»، أن الأندلسيين المهاجرين انتهزوا فرصة هذه الفتن، واستولوا على مدينة الإسكندرية بمعاونة أعراب البحيرة (غرب دلتا مصر)، وأسسوا فيها إمارة أندلسية مستقلة عن الخلافة العباسية دامت أكثر من عشر سنوات.
وعندما استتب الأمر للخليفة المأمون، أرسل قائده عبدالله بن طاهر بن الحسين إلى مصر لإعادة الأمور إلى نصابها سنة 212هـ / 828م، فأرسل إلى هؤلاء الأندلسيين يهددهم بالحرب إن لم يدخلوا في الطاعة، فأجابوه إلى طلبه حقنًا للدماء، واتفقوا معه على مغادرة الديار المصرية وعدم النزول في أي أرض تابعة للعباسيين، ثم اتجهوا في مراكبهم إلى جزيرة كريت التي كانت تابعة للدولة البيزنطية، فاستولوا عليها بقيادة زعيمهم أبي حفص عمر البلوطي سنة، وأسسوا إمارة بها، وصارت قاعدة بحرية إسلامية مهمة ومصدر تهديد مستمر لجزر وسواحل الدولة البيزنطية.
وحاول البيزنطيون استعادة كريت مرات عديدة، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب الإمدادات العسكرية التي كانت تقدمها مصر والشام لهذه الجزيرة، إلى ان استطاع البيزنظيون استعادتها في عام (350هـ/ 961م).