فيلم «الناظر»: كيف صنع شريف عرفة تُحفة لا تسقط بالتقادم؟
في عام 2000 تلقى الفنان «فؤاد المُهندس» دعوة من المُخرج «شريف عرفة» لمُشاهدة فيلم «الناظر»، أثنى المُهندس على الفيلم بعد مُشاهدته واصفًا إياه بكوميديا تربوية، ذكية وجديدة.
لم يعد «الناظر» كوميديا جديدة بعد مرور ما يُقارب ربع قرن، لكنها كوميديا لم يُفقدها التقادم بريقها أبدًا، كان عُمري ثماني سنوات عندما عُرض «الناظر» في السينما، والآن عُمري جاوز الثلاثين، وما زال الفيلم مثار افتتان لجيلي والأجيال التي تلته.
نال «الناظر» استحسان الماضي عبر «فؤاد المُهندس»، إحدى أساطير الكوميديا المصرية لمدة نصف قرن سبقت الفيلم، ونال كذلك استحسان المستقبل عبر أجيال لم يحيَ «علاء ولي الدين» ليراها تتعلق به، ليتحول الفيلم لأيقونة تثير حنينًا نوستالجيًا لها، نراه في إعادة تدوير إفيهات الفيلم في الكوميكس ونكات وسائط التواصل الاجتماعي بشكل أكثر غزارة من الأفلام الجديدة.
يحاول هذا المقال أن يُحلل كيف حول «شريف عرفة» «علاء ولي الدين» من ممثل مساعد في أفلامه، لأسطورة كوميدية خالدة عبر مغامرة «الناظر»؟
علاء وعرفة قبل الناظر
ظهر «علاء ولي الدين» في خماسية «شريف عرفة» الشهيرة مع «عادل إمام» و«وحيد حامد» في أفلام مثل «الإرهاب والكباب» و«المنسي» و«النوم في العسل»، نجح «شريف عرفة» في استغلال التناقض الكامن في ملامح علاء، وجه طفولي مُحبب شديد البراءة وجسد ضخم يوحي بالقوة.
ظهر علاء في «الإرهاب والكباب» كرجل ضعيف يُعاني من إرهاب زوجته له، يُسهم جسده الضخم المتكور على ذاته وهو يروي مُعاناته في تحويل مأساته لكوميديا، بينما في «المنسي» ظهر كشاب مكبوت جنسيًا، ينتظر المشاهد الساخنة في قاعة سينما، لكن ما إن يهمس له البطل بسيناريو حميمي خيالي حتى ينهار ويتكور جسده الضخم بطفولية بين المقاعد، تختفي رجولته ليظهر مكانها مراهق يتورد خجلًا أمام خيالات جنسية تبتلعه، أما في «النوم في العسل»، يقابله «عادل إمام» في عيادة وهو يروي مُعاناته مع الضعف الجنسي بينما يعكس جسده الضخم المُفارقة بين حجمه وعجزه.
ظهر «علاء ولي الدين» في أدوار ثانوية ضمن خماسية تدور بشكل أساسي حول خصاء الفرد من السُلطة، كيف تستولي السُلطة على أحلام المنسي؟ وعلى واقع الموظف في الإرهاب والكباب؟ وأخيرًا على قُدرة الإنسان على مُمارسة الحُب في غرفة مُغلقة؟ ليُمثل التناقض الشكلي بين ضخامته الجسدية وطفولة ملامحه، رمزية تؤطر قدرة العجز الداخلي على تبديد أي مظهر للقوة الخارجية.
في نهاية التسعينيات طلب علاء من «شريف عرفة» أن يكون بطلًا في فيلم من صُنعه، يروي عرفة أن المُعضلة الأساسية كانت في تقديم بطل بدين، لن يرى الناس في حضوره إلا سمنته.
كانت خماسية عرفة كوميدية، لكنها كوميديا سوداء بحس سياسي، يقدمها بطل -عادل إمام- يمتلك ملامحَ تسهل لأي مصري أن يتماهى معها، وفي الخماسية حضرت بنية «علاء ولي الدين» الجسدية كعنصر أساسي في أدواره، كيف يُمكن عكس المُعادلة، بتقديم كوميديا أصيلة بينما بطلها يمتلك بنية يسهل حصرها في كوميديا فارص رخيصة؟ ستكون الإجابة عن هذا السؤال، فيلمي «عبود على الحدود 1999» و«الناظر 2000» ليتحول بعدها علاء ولي الدين لنجم كوميدي، نجوميته أكثر ثراءً من بدانته، كيف حدث ذلك؟
أن تصنع عالمًا سينمائيًا هجينًا
تكمن عبقرية «شريف عرفة» في كونه لم يصطنع فيلمًا كوميديًا لرجل بدين، بل صنع لأجله عالمًا سينمائيًا كاملًا هجينًا، يحمل عناصر متفردة وعناصر مستعادة من سينماه السابقة، استدعى «شريف عرفة» ثنائية الفرد والسُلطة، همه الأساسي في أفلامه السابقة، وروضها في سينما «علاء ولي الدين» لتكون الفرد في مواجهة سُلطة الأب، بدلًا من سلطة سياسية تهويمية بلا كيان مُحدد.
تبعًا لعلم النفس يستدمج الإنسان نُسخة داخلية لموضوعات الحُب الأولى في عالمه وهي الأب والأم، نسخة نُخبئها داخلنا ونجعلها قالبًا لكل علاقاتنا المُستقبلية.
يدور «عبود على الحدود» حول أب مخذول في ولده، لذا يستغل سلطته الأبوية ويُجبره على دخول الجيش ليعبر ابنه من استهتار المراهقة لعالم الرجولة، يستدمج الابن نُسخة داخلية تصم علاقته مع أبيه بالتمرد، ليطبع تمرده كل علاقاته الخارجية فيحاول بكل الطرق التحايل لقضاء مدته العسكرية بشكل أقل بؤسًا، لكنه في لحظة بعينها يخسر صديقه جراء استهتاره فيُخرج صورة أبيه في أكثر أوقاته ظُلمة، ويستدعي نسخة أبيه الداخلية، ليعقد مُصالحة معه وهو يعلم أخيرًا أنه يجب أن ينضج لينقذ أصدقاءه، وأن أباه كان مُحقًا في طرده من عالمه الآمن للعالم الحقيقي ولو بتجربة قاسية مثل الجُندية.
يستغل «شريف عرفة» ملامح «علاء ولي الدين» وبدانته في خلق مواقف كوميدية لرجل لا تُناسب بنيته الحياة العسكرية، ثم يُنقذ فيلمه من الاعتماد الكلي على كليشيهات البدانة المُبتذلة ليصير تحقق البطل بعقد مصالحة مع السلطة الأبوية التي قهرته على الجندية واصطنعت له مأزقه، ليُدرك أن مأزقه لا يتعلق بما فعله أبوه إنما بشخصيته واستهتارها، وأن كمال الأبوة لا في القسوة إنما في التخلي الأخير، في إعداد الأب لأبنائه ليكونوا مُكتملين بغيابه.
في فيلمه التالي يدفع «شريف عرفة» بالمُعادلة لآفاق أكثر تطرفًا، يستدمج الابن «صلاح» نُسخة داخلية من أبيه، تستحوذ عليه، يحتل الأب طريقة الابن في ارتداء ثيابه، في التعبير، يرث الابن حتى ملامحه، كينونة مؤممة بالكامل لصالح الأب، يحمل الأب نفس الخيبة التي حملها الأب الأول في «عبود على الحدود» لكنه لا يفعل شيئًا لإنقاذ ابنه، إنما يجعل عجز الابن كاملًا باستغلال سلطته كناظر في تمرير طفله من مرحلة تعليمية لأخرى دون اختبارات حقيقية، لكيلا تتهدد صورته أمام العالم كأب لطفل فاشل، يستغل الأب طفله من البداية كمرآة يتجلى عليها بسطوته وحضوره.
وبينما خرج الابن «عبود» من عالمه الآمن للعالم الحقيقي في مغامرة محسوبة صممها الأب بعناية لإلحاقه بالجيش، يُطرد الابن «صلاح» بقسوة من عالمه الآمن بموت الأب المفاجئ، تاركًا ابنه دون إعداد، ليواجه «صلاح» عالمًا لا يعرفه مُستدمجًا نُسخة داخلية من أبيه تخبره طوال الوقت أنه فاشل، وهي الجملة التي سيتبناها لفترة طويلة.
نجح «شريف عرفة» في تقديم «علاء ولي الدين» للسينما عبر خلق عالم هجين يستعير من عناصر سينماه السابقة، ويروض ما استعاره ليُناسب كوميديا أكثر خفة من أفلامه السياسية، فيها يواجه بطلًا طفولي الملامح ضخم الجثة، سلطة أبوية، نتعاطف مع براءة ملامحه، ونُشجعه ليعبر من طور المراهقة للرجولة تارة بأن يستلهم هديَ أبيه وتارة بتحطيم سجن الأب.
الأدوار المُساعدة
يُجسد حضور«علاء ولي الدين» في أفلام «شريف عرفة» السابقة بأدوار ثانوية بسيطة لكنها تؤطر هم الفيلم الرئيسي، نقطة قوة عرفة الأساسية وهي أن الفيلم لا يقوم أبدًا على بطل وحيد إنما كل دور مُساعد له قيمته، ورغم اعتماد خماسية «شريف عرفة» على نجم كوميدي بحجم «عادل إمام» فإن ذلك لم يمنعه من الاستعانة بعلاء ولي الدين كدور مساعد كوميدي لجعل القصة أكثر إمتاعًا وثقلًا.
استعان «شريف عرفة» بأبطال مساعدين مثل «أحمد حلمي» و«كريم عبد العزيز» لتحويل مغامرة البطل في «عبود على الحدود» لمغامرة أصدقاء في عالم جديد لا يعرفونه.
بينما بطله «عادل إمام» يبحث في أفلام الخماسية عن عنصر أنثوي يؤطر رجولته ويستعيد به مقدراته، يصطنع عرفة لعوالم «علاء ولي الدين» عنصر الأصدقاء، أول ما يختاره الإنسان خارج مظلة الأبوين ومعهما يتعلم التمرد والكذب وتحدي سلطة الأب لأول مرة، وهو ما سيحدث ببراعة أكبر في «الناظر».
نقطة القوة الأساسية لفيلم «الناظر» هي شخصياته المساعدة التي خرجت بالكامل من بنات أفكار «شريف عرفة»، التي جعلها أجنحة يستعين بها كوميديان مثل «علاء ولي الدين» في خلق كوميديا جمالية أكثر ثراءً من الاعتماد على بدانته أو براءته.
بموت الأب وسفر الأم يُجبر «صلاح» على الخروج للعالم الحقيقي، لذلك لا يجيد البدء إلا من نُقطة الصفر، من أصدقاء طفولته القُدامى في مدرسة أبيه.
يستعيد صداقته بعاطف الذي لا يتذكره أحد، وُندرك أنه اختاره لا لشيء إلا لأن أباه لم يُحبه، فيبدو «عاطف» فعل التمرد الأول من الابن على هيمنة أبيه، ثم يذهبان كلاهما لطالب سابق تم فصله عندما اعتدى على مُعلمه، يعود «صلاح» لكادر طفولي يُجسد آخر لحظات التحامه بالعالم خارج مظلة أبيه ويستعيد عناصره تباعًا ليُكمل قصته من حيث أوقفتها سلطة الأب.
يرسم «شريف عرفة» شخصيات تُناسب نكوص صلاح لمرحلة سابقة من طفولته ليحاول منها مواصلة نموه الذي أوقفه الأب لسنوات، فيظهر «عاطف» و«اللمبي» كشخصيات طفولية كاريكاتورية غير مكتملة النضج، تجسد مبالغات المراهقة المعروفة، التهور الكامل في صورة «اللمبي» أو اللامبالاة الكاملة في صورة «عاطف»، وفي حضور ثلاثتهم لا يظهرون كرجال مُكتملين إنما كأطفال لم يغادروا المدرسة أبدًا، يبحث ثلاثتهم عن الجنس كمغامرة أولية، وهو أول ما يُفكر به أي مراهق اختلس لحظات من الحرية خارج سلطة الآباء.
يتحدث «شريف عرفة» عن قلقه التعيس خلال العمل على الفيلم لأن أفلامه السابقة كانت تعتمد على سيناريو مُحكم وخطوات محسوبة أما الكوميديا في أفلامه مع «علاء» اعتمدت على الارتجال، شخصيات عاطف واللمبي رسمها بالكامل من أشخاص رآهم في الواقع ولم يكتب لهم سطورًا، تتطور سطورهم عبر مناقشاته مع المؤلف «أحمد عبد الله» وبعدها يُستدعى البطلان لأدائها، بدأ «اللمبي» من مشهد بسيط في السيناريو، وتطور ليكون بطلًا أساسيًا وكذلك «عاطف».
يقول «شريف عرفة» إن أكثر الشخصيات المُساعدة إرهاقًا في صُنعها كانت الأم «جواهر»، أن يمثل «علاء ولي الدين» دور الأب، منطقيًا لأن الأب يُهيمن على الابن حتى بتوريثه ملامحه، لكن تمثيل الأم مُخاطرة تؤطر كوميديا الفارص والبدانة والتقليد المُفتعل لأدوار سينمائية مثل «فتافيت السكر» و«الآنسة حنفي».
اجتهد «شريف عرفة» لصنع عالم كوميدي كامل لبطله، لا يُبنى على بدانته وحسب إنما على فلسفة تمرد ضد السلطة الأبوية بحضور شخصيات مُساعدة مُتميزة ولها فرادتها، تحول الحكاية من فيلم نجم أوحد لرحلة بطل نبيل وأصدقائه Buddy Movies في عالم قاسٍ يخلو من الآباء، يصلون في منتهاها للنضج والاكتمال، في تلك المعزوفة شخصية كاريكاتورية مُبالغة مثل «جواهر» قادرة على هدم ذلك البناء وابتذاله.
تلعب الأم في الثقافة المصرية أدوارًا مُركبة وأحيانًا مُتناقضة، كثيرًا ما تكون أداة لتمكين السُلطة الأبوية وحراسة هيمنة الأب على الأبناء، ومن ناحية أخرى عندما تتطرف تلك السلطة تُجيد الأم بخفة خلق منافذ للتنفيس، يستعيد بها الأبناء التوازن، فالأبوة سلطة قهر والأمومة سُلطة مُهادنة ومُفاوضة، نجح «شريف عرفة» في استعارة تعقيد هذا الدور الاجتماعي ونقل تناقضاته بخفة لشخصية «جواهر»، التي تحرس في البداية السجن الذي بناه الأب حول الابن فلا يمتلك «صلاح» حتى حُرية تغيير قناة التلفاز، بينما بعد موت الأب تنسحب الأم بخفة لتمنح ابنها حرية ارتكاب الأخطاء لأول مرة وتنصحه مباشرة بالخروج للعالم، لكنها تؤنبه بعنف عندما يستقبل زميلته في منزله فتُخبره أن يمارس أخطاءه خارج المنزل وليس داخله!
تظهر «جواهر» في البداية كزوجة ناقمة على تسلط زوجها لكنها تُعدد مآثره في العزاء لتحافظ على صورتها الاجتماعية كأرملة مُخلصة، تظهر تارة كمقاتلة تُعذب من يقف أمامها وتارة تلجأ للمفاوضة فتحاول منح ابنها الترقي الاجتماعي بمصاهرة مسؤول أو كف أذى الشرير عن ابنها بالزواج منه.
يخلق «شريف عرفة» بذكاء شخصية كوميدية لها خطها الخاص، تستعير تناقضاتها المُضحكة بالكامل من كتالوج الأم المصرية الثري بتناقضاته مما يمنح ضمانة للمُتلقي أن يستوعب تلك التناقضات لأته عاشها، وبينما امتلك «علاء» التناقض الأثير بين حجمه ووجهه الطفولي، خلق «شريف» تناقضًا مُمتعًا بين مفاوضات جواهر وألاعيبها الأنثوية ووجهها الرجولي الذي يخلو من الجمال الكافي لدعمها في تلك الألاعيب.
يُجيد عرفة صنع شخصيات ثانوية، لا تُساند فلسفة الفيلم ومسار الممثل وحسب، إنما لفرط فرادتها تمتلك روحها وخطها الخاص الذي يُمكن أن يخلق فيلمًا منفصلًا، من رحم «الناظر» سيولد اللمبي، ليتسيد السينما لسنوات، وسيخرج «أحمد حلمي» للنجومية من رحم شخصية لا مبالية لم تمتلك في السيناريو سوى تنبيه واحد من المخرج:
البطل يعرف ذاته
تحدث نقطة التحول الأساسية في فيلم «عبود» عندما يقبع البطل في ظلمته ثم يُخرج صورة أبيه وبدلًا من لومها يرى لأول مرة مغزى الأب من كل ما فعل، أن يكف البطل عن اللوم الطفولي ويتحمل المسؤولية.
بينما في «الناظر» يستدمج الابن نُسخة أكثر تشوهًا من الأبوة، لم تمنحه كلمة داعمة واحدة، إنما حرست طوال حياتها عجز الابن ليصير مكتسبًا، وبينما يواصل «صلاح» رحلته مع صديقي الطفولة اللذين لم ينضجا مثله، ولا يستطيعان خلق إطار توجيه ينقل البطل من تخبطه الطفولي للنضج تظهر شخصية المُدرس «حسين» التي تتولى الإرشاد الأبوي لصلاح لما يجب أن يفعله.
يموضع حسين «صلاح» من حالة فردية لإنسان فاشل، لجزء من تسلسل تاريخي لأبطال يمتدون من الفراعنة وصولًا له، حافظوا على قيمة التعليم، وكلما سقطت مصر ضحية لغزو، خرجت منه منتصرة بفضل قدرة مدرسة «عاشور» على البقاء حارسة لاستمرارية التعلم في أزمنة الهزيمة كضمانة وحيدة لتغيير المصير، ثم يظهر الأب «عاشور» كلحظة انقطاع تاريخي في تلك الصيرورة، لتتحول المدرسة في عهده من خلية بعث تُعيد إحياء المجتمع المهزوم كل مرة لسجن، وهو ما يبدأ به الفيلم، تطوف كاميرا «شريف عرفة» بخفة مع الموسيقى الحزينة على مبانٍ تحيطها الأسلاك الشائكة وجموع طلبة تسير مثل أسرى الحرب، الجميع مُحطم ومنكسر ولا يقوى على رفع رأسه، بينما يدوي صوت «عاشور» الأب في المدرسة باعتباره الإرادة الوحيدة الفاعلة في المشهد.
يدرك «صلاح» أن سُلطة الأب لا تكفي مجاوزتها باستعادة أصدقائه القدامى، أو بتجارب مراهقة طائشة، إنما بتحطيم الأب، المثال الذي صُنع على صورته، وأرعبه طوال حياته ثم استعادة التراث الذي سبقه.
يعود «شريف عرفة» لتيمة العجز الداخلي الذي تصنعه السلطة بداخلنا، ورغم كوميديا الناظر لا يخلو من اللعب على الوتر ذاته، لا سبيل لاكتمال مسعى البطل إلا بمواجهة أبيه أو النسخة التي استدمجناها بداخلنا عن السُلطة.
في خماسية «شريف عرفة» ينتقل البطل من العجز الداخلي للثورة الخارجية، إما باحتلال مجمع التحرير أو باقتحام حفلة الأثرياء في «المنسي» أو بتظاهرة يقودها رئيس مباحث العاصمة وتطلق آهة وجع واستغاثة وتمرد، لأن السلطة التي يواجهها الأبطال أكبر من قدرتهم على هزيمتها فيصير إعلان الفرد لوجوده وغضبه كافيًا.
أما في الناظر انتصار البطل الداخلي في معرفة نفسه وتحريرها من سجن الأب، يُمكن أن يمتد لانتصار خارجي ويُكلل بنهاية سعيدة، يتحرر «صلاح» من ثياب أبيه ويرتدي ثيابًا تُشبهه، ثم يخوض رحلة تحرير المدرسة.
يقابل طلبة عدوانيين يمثلون امتدادًا لصديقه «اللمبي»، يروضهم بقوته التي اكتسبها مؤخرًا، وطلبة لا مبالين مثل صديقه «عاطف» يروضهم بخلق الحوافز للتعلم، وطلبة يبحثون عن الحُب في مدرسة البنات المجاورة، لا يقسو عليهم لأنه أول ما خرج من سجن أبيه بحث عن أنثى لوصالها، يرى «صلاح» الطلبة في مدرسة أبيه امتدادًا لذاته ولأصدقائه القدامى صنيعة السجن نفسه، لذلك يهدم السجن ويستعيد المدرسة ليُنهي لحظة الانقطاع التاريخي التي كان قبلها المجتمع مُحتلًا لكنه مُحرر بالتعلم والمدرسة، وبعدها صار المُجتمع حرًا دون احتلال خارجي لكنه مُعطل عندما تحولت المدرسة لسجن لإخصاء وتدجين أفراده وإعدادهم لتدجين أكبر عندما يخرجون للعالم الواقعي.
لذلك كانت معركة الفيلم الأولى مع الرقابة الأبوية عندما رفضت اسم «الناظر صلاح الدين»، وعدلته للناظر، رغم أن رسالة الفيلم بأكملها أن تحرير الأوطان كما فعل «صلاح الدين» ربما أيسر من تحرير عقول معطلة حولت التعليم لسجن.
لماذا لا يسقط الناظر بالتقادم؟
تبدو فلسفة «الناظر» هي المرحلة السابقة على البطل في خماسية «شريف عرفة»، في عالم «علاء ولي الدين» السينمائي ينتقل البطل من المراهقة والنزق للنضج إما بمفاوضة السلطة الأبوية أو بتحطيمها، ليصل البطل لمكسبه الأثير وهو أن يعرف ذاته بمعزل عن آبائه، وفي ما بعد يسهل أن نتخيل البطل الذي تخرج من مدارس «عاشور» وهو يلعب اللعبة نفسها مع سُلطة أكبر بكثير من سلطة الأب وعجز أكثر قسوة من العجز الداخلي الذي ورثناه مع نسخة الأب التي استدمجناها في طفولتنا.
يُجسد «شريف عرفة» في مغامرته السينمائية مع «علاء ولي الدين»، مقولة الممثل البريطاني «بيتر أوستينوف»:
«الناظر» هو طريقة «شريف عرفة» الارتجالية المرحة لعرض تنويع ممتع عن أفلامه السابقة الأكثر جدية، تنويع أكثر خفة يُمكن للبطل فيه أن ينتصر على أول سلطة عرفها في عالمه قبل الخروج للعالم الأكثر تعقيدًا بسلطاته الأوسع، عالم مُصمم بعناية لبطل بوجه طفولي وجسد رجولي، ينتقل من النزق للنضج في مغامرة مضحكة وملهمة تخلو من الابتذال.
في مدرسة «عاشور» تصير الأخطاء مغفورة ومُحببة، لأنها الوسيلة الأكثر فاعلية للتعلم، بخروج «صلاح» من سجن أبيه يرتكب دزينة أخطاء لكنها تتحد جميعها لتجعله أكثر حكمة من نسخته الآمنة السابقة التي لم ترتكب خطأً واحدًا، لكنها لم تحيَ كذلك، لذلك تتعلق الأجيال الجديدة بتلك المدرسة وعالمها السينمائي، لأنها مدرسة خيالية مُصممة كمهرب من المدارس الحقيقية وتجارب التعليم المصممة كسجن لأصحابها وهو ما يعانيه كل جيل بلا استثناء، لذلك لن يعدم أي جيل القدرة على خلق صلة ووصال مع تلك الحكاية.
يمتلك «الناظر» عنصرًا خالدًا لا يسقط بالتقادم جوهره أن بطله لا ينتمي لعالم الكبار بالأساس، يمتلك «الناظر» عنصر طفولة أبدي، وهو الحلم بقدرتنا على جمع أصدقاء الطفولة والانتصار على عالم الكبار، الآباء، أن نبدأ من وجدان مُرتجف وملابس لا تشبهنا وصوت بداخلنا يوقن بفشلنا، أن نمتلك ملامح آبائنا وأمهاتنا، لكننا ننتهي لقصة لا تشبههم، قصة أكثر سعادة وفردانية وتشبهنا.