النابتة: «شيعة معاوية» يتحدون العباسيين
لم يستكِن الأمويون بعد سقوط دولتهم على أيدي العباسيين سنة 132هـ/ 750م، فشرعوا في إعادة إحيائها مرةً أخرى عبر ثورات عدة قاموا بها، ولما فشلت هذه الثورات اتجَّه شيعتهم لتمجيد الخلفاء الأمويين والدفاع عنهم في مقاومة سلبية للدولة العباسية، وقد تعددت هذه الحركات التشيعية، واتخذت أسماءً عدة كان منها «النابتة».
ويذكر الدكتور فاروق عمر فوزي في كتابه «الثورة العباسية» أن العباسيين استطاعوا القضاء على فلول الأمويين ومراكزهم الحصينة في العراق والشام، وقضوا على آخر خلفائهم مروان الثاني في مصر عام 132هـ / 750م، لكن أنصار الدولة الأموية استمروا في معارضتهم للدولة الجديدة.
ورغم أن القبائل الشامية، خاصة الكلبية منها، كانت غير راضية عن سياسة مروان القبلية، فإنها لم تكن ضد الخلافة بوجه عام، ولذلك برزت حركة معارضة أموية مركزها بلاد الشام، تمثلت في حركات قبائلها بقيادة شيوخها وأمراء أمويين، كما تمثلت في حركة «السفياني المنتظر» الذي كان سيعود ليسحق أعداءه العباسيين ويعيد ملكهم ومجدهم المفقود.
وبحسب عصام مصطفى عبدالهادي عقله في كتابه «الأمويون في العصر العباسي 132- 334هـ/ 750- 945م»، تبنت العديد من الثورات الأموية فكرة «السفياني»، وجعلت منها شعارًا لها، ومنها ثورة أبي محمد السفياني عام 132هـ/ 750م، وكانت أول ثورة أموية ضد الدولة العباسية، ثم ثورة العباس بن محمد السفياني عام 133هـ/ 750م، وثورة أبو العميطر بن عبدالله السفياني 195هـ/ 811م، وكانت ثورة السفياني الموسوس آخر ثورة أموية اتخذت من عقيدة السفياني شعارًا لها، وقامت سنة 294هـ/ 907م.
كما قامت ثورات أموية أخرى لا تستند لفكرة «السفياني»، ومنها ثورة محمد بن مسلمة سنة 133هـ/ 750م، وثورة أبان بن معاوية بن هشام سنة 135هـ/ 752م، وثورة هاشم بن يزيد السفساني سنة 136هـ/ 753م، وثورة دحية بن مصعب بن الأصبع المرواني سنة 144هـ/ 761م، وثورة مسلمة بن يعقوب المرواني سنة 196هـ/ 812م، وثورة سعيد بن خالد العثماني المديني في الفترة ما بين (198 – 208هـ/ 813 – 832م).
فشل الثورات وظهور المقاومة السلبية
بيد أن فشل هذه الثورات أظهر ما يسمى بالتشيع للأمويين، وهي مقاومة سلبية للعباسيين تقوم على إثارة مكامن الوجد على خلفاء بني أمية ومعاوية بن أبي سفيان خاصة، وتمجِّد ذكراهم وأعمالهم، وتعتقد صحة إمامتهم، وترفض لعنهم وتكفيرهم من قبل أنصار الدولة الجديدة.
وبحسب عصام مصطفى عبد الهادي عقله في كتابه «الأمويون في العصر العباسي 132- 334هـ/ 750- 945م»، بدأت إرهاصات تلك الحركات بين أتباع الأمويين في العراق، حيث دخل هؤلاء في خدمة العباسيين للحفاظ على أرواحهم وهربًا من المطاردة والملاحقة، ولكنهم استمروا على إخلاصهم للأمويين، فلم يسمحوا لأحد أن يشتم الأمويين في حضرتهم، بل ألف الكثير من الشعراء القصائد في رثاء بني أمية والتحسُّر على زمانهم وتفضيلهم على العباسيين، ومنهم الشاعر أبو عطاء السندي، وحفص بن أبي جمعة، وإسحاق بن مسلم العقيلي.
وكان من بين هذه الحركات التي تشيعت للأمويين «المروانية» التي أخذت اسمها من مروان بن الحكم رابع خلفاء الدولة الأموية وأول خلفاء الأسرة المروانية (انتقل لها حكم الدولة الأموية من بني سفيان)، وانتصر أتباعها لإمامة خلفاء بني أمية، وقالوا بأن لمعاوية حجة في قتال علي بن أبي طالب، وكان من أبرز أتباع هذه الحركة بنو أود اليمنيون الكوفيون الذين كانوا يبرَءُون من علي وذريته.
ويروي أبو الحسن المسعودي في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، أنه لم ير إلى سنة 332هـ/ 943م رجلًا من «أود» إلا ووجده ناصبيا يبغض علي بن أبي طالب متوليا لآل مروان وحزبهم.
معاوية بن أبي سفيان رمزًا للنابتة
وفي القرن الثالث الهجري – التاسع الميلادي – ظهرت حركة جديدة تسمَّى «النابتة»، وهم شيعة معاوية بن أبي سفيان والأمويين، وهم الجيل الجديد المعادي للعباسيين وسياستهم، والعلويين وآرائهم، وللمعتزلة ومذهبهم، وقد اتخذوا من الولاء لبني أمية رمزًا لمعارضتهم، وأطلق الجاحظ عليهم هذا اللقب لأنهم برأيه كانوا فرقة جديدة محدثة آنذاك، حسبما ذكر الدكتور صابر محمد دياب حسين في كتابه «الدولة العباسية في العصر العباسي. قضايا ومواقف».
واتخذت هذه الحركة الموالية للأمويين من معاوية مثالًا ورمزًا للتبجيل والاحترام، وذلك للتقليل من شأن أعدائهم، سواء من المعتزلة أو شيعة العباسيين أو شيعة العلويين، وكأن عملهم هذا كان معناه مقابلة التطرف بتطرف مثله، فكلما رأوا تطرفًا من المعتزلة أو شيعة العلويين أو شيعة العباسيين تطرفوا هم أنفسهم في مذهبهم للإعلاء من شأن الأمويين، ونشر فضائلهم وذكراهم بين الناس.
ولم يكن اختيار النابتة لمعاوية والأمويين بسبب تميزه بفضائله وأخلاق فاقت غيره من الخلفاء، ولكنهم اعتبروه خليفة معترفًا به، وممثلًا لأهل السنة والجماعة، كما أن معاوية يعتبر مثالًا فريدًا وحساسًا يمكن أن تختاره فئة معارضة للعباسيين من أجل أن تقلل من شأنهم وتشعرهم بقلة احترامها لهم.
واستمر هذا التطرف في التشيع بين الأطراف الثلاثة (شيعة معاوية، وشيعة العباسيين، وشيعة علي) بأشكاله المختلفة، طالما ظلت مستلزمات وجوده على مسرح الأحداث دينيًّا وسياسيًّا، وهي التنافس من أجل الوصول إلى السلطة والتشبث بزمام الحكم.
لكن لا يمكن أيضًا تجاهل أن استفحال أمر هذه الفرقة كان بمثابة رد فعل للمظاهر السياسية والفكرية والاجتماعية السائدة آنذاك. فمن الناحية السياسية سيطرت العناصر التركية في القرن الثالث الهجري على زمام السلطة، وبالنسبة للجانب الفكري والاجتماعي سادت النظم الفارسية في البلاط، والتقاليد الفارسية والأفكار الشعوبية في المجتمع، بحسب «حسين».
كتب النابتة عن فضائل معاوية
يذكر «عقله» في كتابه المذكور آنفًا أن الكثير من أتباع الحركة ألَّفوا كتبًا في فضائل معاوية، وإمامة الأمويين أمثال أبي عمرو الزاهد المعروف بـ«غلام ثعلب» (ت 345هـ/ 957م) الذي ألَّف كتابًا في فضائل معاوية بن أبي سفيان، وكان هذا الكتاب موجودًا في زمن ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/ 1448م)، وكذلك كتاب «فضائل أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه» لأبي القاسم عبد الله بن محمد السقطي، وهذا الكتاب خير ما يمثل وجهة نظر النابتة، فهو مملوء بالأحاديث الأسطورية التي تمجد معاوية، وتجعله في مرتبة الخلفاء الأربعة، وتبرز أحاديث منسوبة للرسول للحث على عدم لعن معاوية.
ومن الأحاديث التي تضمنها الكتاب «يخرج معاوية رضي الله عنه من قبره وعليه رداء من السندس والإستبرق، مرصع بالدر والياقوت، عليه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن ابي طالب».
ومما ورد في الكتاب أيضا، أن الرسول استأذن أبا بكر وعمر في أمر، فقال: أشيروا, فقالا: الله ورسوله أعلم, فقال الرسول: أشيروا علي, فقالا: الله ورسوله أعلم، فقال: ادعوا معاوية, فقال أبو بكر وعمر: أما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من رجال قريش ما ينفذون أمرهم حتى يبعث إلى غلام من غلمان قريش؟ فقال: ادعوا لي معاوية , فلما وقف بين يديه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحضروه أمركم , وأشهدوه أمركم , فإنه قوي أمين.
وورد في كتاب أيضًا عن ابن عباس قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بورقة آس أخضر مكتوب عليها «لا إله إلا الله حب معاوية بن أبي سفيان فرض مني على عبادي».
وتضم قائمة كتب أتباع النابتة كتاب «شرح عقد أهل الإيمان في معاوية بن أبي سفيان، وذكر ما ورد في الأخبار من فضائله ومناقبه رضي الله عنه» لأبي علي الحسن بن علي الأهوازي (ت 446هـ/ 1054).
وكان موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الكاتب (325/ 926م) من النابتة، ومذهبه حب معاوية، وغلب عليه حبه حتى قال فيه أشعارًا كثيرة، فدوَّنها العامة عنه.
النابتة بين القصاصين والسقائين
والغريب أن الولاء لبني أمية لم يقتصر على بلاد الشام معقل الولاء الأموي، فقد انتشرت حركة النابتة بشكل كبير في العراق، فكان القُصَّاص في بغداد يجلسون على الطرقات يمدحون معاوية والأمويين، وكان سقاة الماء يترحمون على معاوية، ويذكرونه بكل خير في أغانيهم الفلكلورية التي يتغنون بها أثناء توزيعهم الماء على البيوت، حيث كانوا يسقون الناس الماء وهم يقولون: «اشربوا على حب معاوية»، حسبما يروي «عقله».
وروى محمد بن أحمد المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» أنه دخل جامعًا في مدينة واسط بالعراق، فوجد رجلًا يحدث عن النبي أن الله يدني معاوية يوم القيامة فيجلسه إلى جانبه، ثم يجلوه على الخلق كالعروس، فلما اعترض المقدسي على هذا الحديث، وكذَّب صاحبه، اتهمه المُحدث بأنه رافضي، فهاجمه الناس، وكادوا أن يقتلوه لولا حماية أحد أصدقائه من أهل واسط له.
ويبدو أن الحركة انتشرت بشكل كبير في مدن العراق، ما دفع المقدسي لوصف أهل بغداد بأنهم «غالية يفرطون في حب معاوية».
الدولة العباسية تواجه النابتة بـ«الكتب»
أمام تزايد شيعة معاوية، دعا الخليفة عبدالله المأمون (170- 218هـ/ 786- 833)، إلى الأمر بلعن معاوية والأمويين على المنابر، لكن السلطة العباسية عدلت عن ذلك خوفا من مغبة الأمر، وما يجره ذلك من شغب بين شيعة الأمويين من العامة ومن ورائهم من الفقهاء، بحسب حسين في كتابه.
وفي نفس الوقت اتخذت إجراءات رادعة أخرى، حيث مُنع القُصاص من التحدث عن الأمويين وفضائلهم، ومُنع السقاؤون من «الترحم على معاوية» في أغانيهم الفلكلورية التي كانوا يتغنون بها أثناء عملهم اليومي، وهو ما كان يلقى صدى واسعا لدى عامة الناس ويمس مشاعرهم وأحاسيسهم بعمق، لأنه كان يعبر عن ما يُعتمل في صدور هذه الفئة من الشعب، والمعارضة لآراء العباسيين ومذاهب العلويين.
كما اتخذت السلطة العباسية رد فعل آخر على هذه الحركة الأموية السلمية، فأوعزت إلى كتباها بتأليف الكتب تقدح في بني أمية، فألف ابن الكلبي رسالة في «مثالب بني أمية»، وألف ابن عمار الثقفي كتاب «في مثالب معاوية»، ورسالة «في تفضيل بني هاشم وأوليائهم وذم بني أمية وأتباعهم»، ورسالة «في بني أمية».
وألف الجاحظ الكثير من الرسائل في مهاجمة الأمويين، مثل رسالة «النابتة»، ورسالة «الحكمين»، ورسالة «الرد على العثمانية» أي أتباع عثمان بن عفان، ورسالة «فضل هاشم على عبد شمس».
وبحسب «عقله» عرضالجاحظ في رسالتيه «النابتة» و«رسالة في الحكمين»، أهم آراء هذه الحركة، وهي محبة معاوية ومنع سبه، وتأكيدهم على أن سبه بدعة، وأن من يبغضه يعتبر مخالفا للسنة، وأن معاوية هو خال المؤمنين، واتهمها بتشبيه الله بخلقه، وأنها جعلت له عز وجل جسما، وصورة واحدة، وكفّرت من قال بالرؤية على غير التجسيم والتصوير، وقالت بأن القرآن غير مخلوق معارضة بذلك المعتزلة.
ويذكر الدكتور سليم بن محمد الهنائي في كتابه «رؤية الجاحظ في عصري بني أمية وبني العباس 41- 255هـ/ 661- 868م»، أن رسالة «النابتة» من أشد الرسائل التي تناول فيها الجاحظ بني أمية وشنّع عليهم، وبخاصة معاوية بن أبي سفيان الذي يرى أنه سبب ما حدث من مصائب للمسلمين، والمتمثلة في حرب صفين ومقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، ثم ما تلا ذلك من تنكيل بآل علي بن أبي طالب، ما جعل الجاحظ يصب جام اتهاماته في الرسالة على معاوية، حتى أنه اتهم بني أمية بالكفر، متجاهلا كل فضل لهم في الإسلام وكل ما أسهموا به منذ بداية الدعوة.
وتوالت في الرسالة تهم الجاحظ لمعاوية، فأشار إلى ما أحدثه من تغيير وتبديل في الخلافة عما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين، حتى حولها من الخلافة إلى مُلك عضوض قائم على الظلم والعسف.
أما يزيد بن معاوية (26-64هـ/ 647 – 683)، فأبرز الجاحظ عيوبه ومثالبه، وكان ذلك واضحا انطلاقا من تفصيله لموقفه من آل البيت وبخاصة ما حدث في كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي بعد أن خرج على يزيد رافضا خلافته، إلا أنه تعرض للخيانة من قبل الذين وعدوه بالنصر في الكوفة، كما حدثت في خلافته مصائب أخرى أشار إليها الجاحظ بقوله «غزو مكة، ورمي الكعبة (بالمنجنيق)، واستباحة المدينة، وقتل الحسين عليه السلام في أكثر أهل بيته مصابيح الظلام، وأوتاد الإسلام»، كما أبرزه بصورة المنشغل باللهو والملذات في حياته.