المستشفى الميري: تاريخ الطب القديم بالإسكندرية
منذ تأسيس كليات الطب في مصر، امتدت فترة دراسة الطلاب في هذا المجال ست سنوات تعقبها سنة تدريب. تمثلت هذه الفترة الزمنية الطويلة كفرصة للطلاب لاستيعاب المعرفة العلمية وتطوير مهاراتهم الطبية بشكل متعمق. وبمصادفة لافتة، أجد نفسي وسط الدفعة الأخيرة التي ستتخرج وفقًا لنمط الست سنوات الدراسية القديم.
وفي الدفعات التي تلينا، سيخوض الطلاب القادمون بعدنا تجربة تعليمية مختلفة حيث ستقل مدة دراستهم إلى خمس سنوات فقط.
هذا التغيير يعكس الحاجة المتزايدة لتقديم تعليم طبي متخصص وفعَّال في وقت أقل، مما يلبي احتياجات المجال الطبي المتطور والمتغير باستمرار.
مع اقتراب موعد التخرج، تغمرنا مشاعر متباينة من الفرح والحنين، فهذه المرحلة تمثِّل ختام رحلة طويلة من الجهد والتعلم. إن فرحتنا بالتخرج تتخللها لحظات تأملية تجعلنا نفكر بماضينا ومستقبلنا. يبدو أن كون هذه الدفعة هي الأخيرة التي تتخرج بنظام ست سنوات، يضفي على هذه المرحلة بُعدًا إضافيًّا من الخاصية. ندرك أننا نمثل الرابط الأخير الذي يربطنا بالأجيال السابقة التي قطعت نفس المسار، وهذا ما أثار فضولي بشكل كبير لمعرفة تاريخ هذا المكان الذي شهد على تخرج أجيال من الأطباء والخبراء.
اكتشفت أنه قبل ما يقرب مائة عام عاش شخص انتابه نفس الفضول، الدكتور عبد الرحمن عمر، الذي كان مدير المستشفى في تلك الفترة، أقنعني بأنني لم أكن وحدي الشغوفة باستكشاف تاريخ المكان. بدأ بأعمال بحثية وجهود استقصائية لاستكشاف تفاصيل بناء وتأسيس المستشفى. في نتيجة لجهوده الدءوبة، ألف كتابه «رسالة تاريخية عن مستشفى الإسكندرية الأميري من عام 1830 إلى سنة 1930»، الذي ألقى الضوء على تاريخ المستشفى.
كان دافعه وراء البحث يتجلى في اكتشافه آثارًا قديمة من الحجر والأعمدة الراقية التي تناثرت بين مباني المستشفى. وكان قد عثر أيضًا على مدافع من حقبة زمنية سابقة، كانت تمثل جزءًا من خطوط الدفاع. وكإضافة إلى هذا، موقع المستشفى الذي وجد نفسه على قمة مرتفعة بارزة، ما جعله نقطة استراتيجية. هذا الموقع الاستثنائي كان بمثابة نافذة تُظهر تاريخ المكان وأهميته التاريخية عبر تفاصيله المتنوعة.
أُنشئ المستشفى عام 1830، ما يعادل مائة عام تقريبًا قبل كتابة ذاك الكتاب. عندما حاول الباحث الرجوع لمصلحة المباني ليكتشف تاريخ بناء المستشفى، لم يتمكن من العثور على مخطط رسمي يحمل اسم «المستشفى الميري». ويُذكر أن المستشفى قد تأسس قبل تأسيس مصلحة المباني نفسها. بينما كان يبحث في الدفترين القديمين في دار المحفوظات المصرية بالقلعة وفي كتب التاريخ المخصصة لأعمال محمد علي باشا، اكتشف ترجمة لأمر صادر إلى بلال أغا بتاريخ 7 مارس/آذار 1827، يأمر ببناء مستشفى وسط المدينة على الطراز الأوروبي. وطلب منه اختيار موقع مناسب على أحد المرتفعات في منطقة بين السواقي بالإسكندرية القديمة.
حينما حاول الباحث اللجوء إلى قسم الخرائط في البلدية ليعرف موقع منطقة «بين السواقي» ، وجد أن هذا الاسم قد اختفى من الخرائط الحالية. رغم محاولاته، لم يتمكن من العثور على أي معلومات تفصيلية.
في ذلك الوقت، كان يونس حسين، رجل كبير في العمر وذو حكمة، يشكل مصدرًا ثمينًا للمعلومات. كان يعمل في شبابه كمكاري في المنطقة المحيطة بالمستشفى وكان معروفًا بمهارته في نقل البضائع والأشياء باستخدام الحيوانات ووسائل النقل المتاحة. ومع تقدمه في العمر كان يتردد على المستشفى بانتظام لتسليم استمارات التغذية للمتعهدين. عمره الذي ناهز التسعين جعله موسوعة موثقة لتاريخ تلك المنطقة، وأخبر الباحث بأن المنطقة كانت في الماضي تُعرف باسم «بين السواقي». وكشف له أن الأرض التي تم بناء المستشفى عليها كانت سابقًا حوشًا لجبانة اليهود.
الأماكن والشوارع لا تزال تحتفظ بجمالياتها وطابعها كما وصفت سابقًا، ولكن هناك تغييرات تندرج تحت بنيتها. المبنى الذي كان يضم القنصلية قد شهد تحوُّلًا كبيرًا، حيث تم تحويله الآن إلى مبنى إداري يتبع لكلية الطب، يستضيف وحدة ضمان الجودة ومكتب العميد، فتنبض جدرانه بنشاطات الإشراف والتطوير.
أثار انتباهي بشكل لافت وغريب منذ انضمامي للكلية، وجود مساحة داخل ساحة المستشفى، بالتحديد بين بوابات المبنى الأكاديمي، تُعرف بـ «الباكيات» وسط الطلبة. تحتضن هذه المساحة عدة أكشاك صغيرة تخدم أنشطة طلابية متنوعة، بدءًا من الاتحاد الطلابي وصولًا إلى فصائل الكشافة، وحتى خزانة لتحصيل الأموال. كان الاسم نفسه «الباكيات» محل استغرابنا منذ أوائل الكلية، ولكن مع مرور الزمن، تحول إلى تسمية شائعة على ألسنتنا، تُستخدم بشكل طبيعي في حديثنا اليومي: «أين أنت؟ نحن نجتمع عند الباكيات، قابلينا هناك».
كنت وزملائي في البداية نعزو هذا الاسم إلى معانٍ مختلفة، كالارتباط بمكان لوقوف السيارات أو حتى تحريف لاسم ما. لكن ذلك الذي أسرَّني بحق هو ما اكتشفته في الكتاب، حيث وردت تفاصيل عن التغييرات التي طرأت على المبنى. تم إضافة مظلة لمناسبات العزاء بجوار المستشفى، وتم تسميتها «مجمع النساء الباكيات». هذا الاسم المعبر كان له سبب واضح ومؤثر: ليتسنى للنساء الانتظار والنواح بكرامة بعيدًا عن إزعاج المرضى والزوار، وذلك خلف مظلة العزاء.
لم أكن أتوقع مطلقًا أن يكون هذا هو السبب وراء التسمية، وخاصة أنها كانت المكان المفضل للتجمع مع زميلاتي بعد الامتحانات، نحن نبكي ولكن على أسباب مختلفة الآن، فالباكيات لم تعد مكانًا للنواح والعزاء، بل أيضًا ملجأ للتجمع والمراجعة بعد عناء الامتحانات! ما كان يبدو لي سابقًا كتسمية غريبة، تحوَّل مع الوقت إلى مفهوم ترتبط به ذكريات ولحظات مميزة في حياتي الجامعية.
تقارير أقسام المستشفى
يضم الكتاب تقارير مدهشة تصدر عن مختلف أروقة المستشفى لتنير مصابيح الإلهام في عالم الطب والعلاج. تتضمن تفاصيل دقيقة تُلقي الضوء على عدد المرضى والزوار الذين تم التعامل معهم بتفصيل طريق علاجهم، فضلًا عن توثيق شامل للشكاوى والاقتراحات القادمة من مشرفي الأقسام المختلفة. يظهر من ضمن هذا المجموع المتنوع تسلُّطٌ على تحديات تكرارية تتعلق بأداء فرق التمريض، فيما يمثل ازدحامٌ شديدٌ سحابةً سوداء تخيم على آفاق الخدمات الصحية في المستشفى والعيادات الخارجية، فمنذ الأبواب وحتى أروقة الانتظار، تبدو الطرقات مزدحمة لأقصى حدودها مما ينعكس على نوعية الرعاية المُقدمة.
تعبر هذه التقارير عن صدى الحاجة الملحة إلى توسيع سعة المستشفى، ذلك القلب الذي لا يكفي لاستيعاب الجموع المتوافدة. وعلى وجه الخصوص، يتجلى هذا النقص الواضح أثناء انتشار الأمراض المعدية، حينما يجتاح الخوف والتوتر تلك اللحظات المتكررة من تفشي التيفود وحمى الدنج.
الملاريوثيرابي
معظم التقارير الواردة عن العلاجات المستخدمة كنا قد أخذنا لمحة عنها في مقررنا الدراسي، حيث يتم شرح التقنية على عجالة ثم يتم اختتام الفقرة بـ: لم تعد تستخدم الآن now obsolete.
ولكن أكثر ما لفت انتباهي في تقرير قسم الجلدية لعام 1927، شرح لأسلوب لم أسمع به من قبل لعلاج حالات السفلس الزهري العصبي الشديدة. حيث كانوا يقومون بحقن المصابين بالسفلس بدم مرضى الملاريا آملين أن تصيبهم الحمى فتحمي أعصابهم من التآكل بواسطة السفلس. لم تكن تلك مجرد تجارب عابرة، بل كانت الطريقة العالمية الوحيدة المعروفة للتخلص من السفلس الزهري العصبي آنذاك «The Malariatherapy of Neurosyphilis» قبل ظهور البنسلين في الخمسينيات. تمثلت تلك الممارسات القديمة في نقطة الضعف الوحيدة أمام هذا الداء المميت.
لنتخيل معًا مدى التعجب الذي سينتاب الأطباء الذين عاشوا في تلك الحقبة لو رأوا كيف تحولت الحلول العلاجية لهذه الأمراض المعقدة إلى حقن وحبوب صغيرة من المضادات الحيوية. ففي ظرف وقتٍ قصير، تغير وجه الطب تمامًا. انطلقت المضادات الحيوية، التي أصبحت متاحة بشكل تجاري في الخمسينيات، كوسيلة قوية لمكافحة معظم الأمراض بكفاءة وفعالية، وكأنها سحر من نوع خاص.
في الخمسينيات، ابتدعت المضادات الحيوية طرقًا رائعة لعلاج الأمراض الوبائية المعقدة، ولكن بعد اكتشافها بوقت قصير، ظهرت سريعًا سلالات مقاومة لهذه المضادات بسبب الاستخدام الخاطئ. عند استخدام المضادات للقضاء على العدوى، تطور الميكروبات طرقًا ذكية للمقاومة. نتيجةً لذلك، تستطيع الميكروبات المقاومة البقاء أمام المضادات التي كانت تقضي عليها في السابق، وهذا يضعف فعالية المضادات التي نملكها حاليًّا ويجعل علاج الأمراض المعدية صعبًا بمرور الزمن.
كل ما يخطر ببالي وأنا أقرأ تلك الصفحات، وأربطها بكل الحملات التوعوية في المستشفى حول مقاومة المضادات الحيوية، وأتساءل هل سنعود إلى زمن كان الطب فيه يعتمد على تعريض المرضى لأشعة الشمس كل يوم لعلاج السل؟ هل سنرى أنفسنا عاجزين عن القيام بشيء، متوسلين للهواء النقي أن يمنح جهاز مناعتنا القوة للدفاع عن أجسادنا بمفردها؟ هذه القصة قد تكون أقرب إلينا مما نتصور، وما يجب علينا فعله هو الحفاظ على استخدام المضادات الحيوية بحذر ووعي، لنمنع زوال هذا السحر الذي غيَّر وجه الطب للأبد.
منذ أربعين سنة
في الصفحات الأخيرة من الكتاب، يؤكد المؤلف أن المستشفى لم يصل بعد إلى مرحلة الكمال المتوقعة. على الرغم من التقدم، لا يزال هناك العديد من النواقص التي يجب تحسينها ليصبح على مستوى المستشفيات الرائدة. يعد الزمن العامل الأساسي لتحقيق هذا التطور، يتوقع التغييرات الجوهرية في مجال العلاج والطب في المستقبل، حيث يلعب الطب الوقائي دورًا محوريًّا في القضاء على العديد من الأمراض وتقليل تأثيرها. يأمل أن الأبحاث ستؤدي إلى اكتشاف أسلحة جديدة ضد الأمراض، وقد نشهد اندماج العلم والتكنولوجيا للقضاء على الأمراض المستعصية مثل السل والسرطان. ويتنبأ كيف أن التقنيات الحديثة مثل الأشعة والكهرباء ستدخل في العلاج والوقاية بشكل متزايد.
لاحظت أن المؤلف استخدم عبارة «بعد أربعين سنة» بشكل متكرر. يظهر وكأنه كان يتمنى أن يُقرأ كتابه بعد مرور هذه الفترة. إنه يبدو وكأنه قد رسم صورة للمستقبل على أمل أن يصل كتابه إلى القرَّاء في ذلك الزمن. ربما أفسر هذا التكرار بأن مؤلفه لم يتوقع أن يُطلَع على كتابه الصغير بصفحاته الثمانين أحد بعد فترة تزيد عن أربعين سنة بالكثير، لكن اليوم نقترب من المائة سنة منذ صدور الكتاب، وقد عثرت عليه بصورة صدفة. ووجدت أن أسلوب كتابة المؤلف قد لاقى إعجابي، وشدني اهتمامه بالتحقيق والاستقصاء حول تاريخ المنطقة.
بينما كنت أقرأ، وعقلي غارق في مشاعر الفضول والدهشة من الممارسات الطبية المذكورة في الكتاب عندما كنت أقارنها بالمعلومات التي أذاكرها للامتحان القادم. فكرت أنه ربما في يوم من الأيام، سأروي لأحفادي قصة كيفية علاجنا للأمراض والإصابات باستخدام الطرق التي أحشو بها رأسي الآن، ليندمجوا في ضحكات عفوية عندما يستمعون إلى سذاجة ممارساتنا الطبية مقارنة بالتقنيات والمعرفة التي سيكونون على دراية بها في المستقبل.
بالرغم من مساعي البحث على موقع جوجل، لم أجد أي معلومات تتعلق بالمؤلف عبد الرحمن عمر، الذي شغل منصب المدير السابق للمستشفى الميري في عام 1931. على الرغم من ذلك، خلال قراءتي للكتاب، شعرت كما لو أننا جلسنا معًا صدفة في محطة الترام بعد انتهاء الدوام،
بدأ حديثه بالسؤال «هل تعرفين قصة هذا المستشفى؟» كأنه يستعيد الذكريات ويشاركها معي برفقة الانتظار. رأيت نفسي وكأنني أستمع إلى حكاياته بينما يروي لي قصصًا عن الحالات الطبية الملهمة واللافتة للانتباه التي تعامل معها في ذلك الزمان. وبنفس الأسلوب الذي يحكي به زملائي في الامتياز: «استني احكيلك كان فيه حالة غريبة امبارح» وفي النهاية، وصل الترام وانفصلنا ليستأنف كل منا مسارنا الفردي.
بالنسبة لي، تظل الكتابة هي أعظم اختراعات البشر، إذ تمنحني فرصة فريدة لتجربة لحظات مشابهة مع أشخاص تخطت حدود الزمن لتجمعنا معًا في لحظة واحدة، وكأننا التقينا صدفة في محطة الترام.