علّمني «المسيري»: دروس في الفكر والهندسة
لا أذكر متى كان أول «لقاء» لي بالمسيري بالضبط، ولكن المؤكد أن اسمه لم يتردد على مسامعي كما تردد مُنذ أن انضممت لشباب «الجزيرة توك» عام 2008، وهو عام وفاته. ولعل «لقاء» لي به كان في مكان ما تحت الأرض في المسجد الأقصى، يُدعى «المكتبة الختنية»، وذلك في رمضان 2012 حيث كان الطقس في الخارج حارًا بينما الأجواء في المكتبة «مميزة»؛ ليس لأن المكان بارد فقط، ولكن للكنوز العجيبة التي عثرت عليها هناك، ومنها كتاب «رحلتي الفكرية» وهو من أجمل ما قرأت له.
لم أقرأ الكتاب كاملًا حينها، فقد كُنت غارقًا في اكتشاف الكُتب من حولي و«أقطف من كُل بستان وردة» كما يقولون، وبعد عودتي للمنزل كتبت مدونة خلّدت فيها أولى ذكرياتي مع المسيري، وكيف أبهرني بنقده لهيمنة العقل المادي بشكل بديع، وبالأخص أسلوبه في تبسيط الكلام الفكري المعقد بأمثلة بسيطة من الحياة اليومية، فيصف هوليوود مثلًا بأنها إعادة تشكيل صورة الإنسان وأحلامه، والتليفون المحمول بأنه أداة الثرثرة ورمز الوجاهة مثلاً!
بعد ذلك اللقاء السريع، كدت أنسى المسيري بسبب انتقالي إلى المانيا وانشغالي بالدراسة وهمومها إلى أن ذهبت إلى إحدى الأمسيات في مدينة بون الألمانية، ودار حوار بيني وبين ناشطة فلسطينية؛ حوار حول الثقافة الاستهلاكية وهيمنتها التي كانت تتجلى في تلك «الأمسية الوطنية»، فقد كانت أعداد المتجمهرين حول أكشاك بيع الأطعمة والتسالي أكثر من الجالسين في قاعة المُحاضرة، فوجدتها تُذكرني من جديد بالمسيري وبما كتب في هذا الباب. حينها لم يكن لي بُد من وقفة مع هذا المثقف المميز.
بعد تلك «الأمسية»، قرأت شيئًا من مقالات المسيري المميزة، وكان أجملها «الإنسان والشيء»، فقد كانت تبهرني بما تدخله من أمثلة من نوع «الهمبورغر» و«الكوكاكولا» و«الديسكو» و«الفيديو كليب»، في الحديث عن العلمانية والحداثة وما بعد الحداثة والاستهلاك والتبديد؛ إلا أن كُل هذا الانبهار لا يُمكن أن يُقارن بالهوس الذي أصابني بعد بدء رحلتي مع كتاب «رحلتي الفكرية» الذي لم أترك فيه مكانًا تقريبًا إلا ووضعت فيه إشارة أو خربشة أو ملاحظة.
من أكثر ما جذبني في الكتاب أحاديثه عن التراحمية والتعاقدية من خلال كلمات ألمانية مثل «Gemeinschaft» و «Gesellschaft»، وهي كلمات تعلمتها في المراحل الأساسية في اللغة الألمانية ولكن للأسف لم أفكر يومًا أن هذه الكلمات يُمكن أن توضح لي ما الذي حصل وما زال يحصل من غياب الروح «التراحمية» عن قريتي الصغيرة.
وللمسيري وقفات مميزة مع كلمات ألمانية أخرى قد لا يبدو بينها فرق مثل الفهم والتفسير «verstehen» و «erklären»، بينما الفروق بينها جلية كما يوضح في كتاب «الفلسفة المادية» في محاولته للتأكيد على أنه لا يجوز تفسير نتائج دراسة أجريت على حظيرة دجاج وتطبيق نتائجها على المجتمع الإنساني. فالإنسان كائن مُركب، وليس مُجرد «كائن أحادي البُعد» يُمكن تفسير سلوكياته ببساطة.
حكايات المسيري عن مُغامراته الجامعية كان لها وقع خاص بالنسبة لي، ولكن الذي لم أتخيله أن ترتبط مطالعتي للمسيري بتخصصي المفضل في الهندسة البيئية، وهو «إدارة النفايات»، وهي مسألة لم أجد – حتى الآن – أحدًا من المُفكرين العرب قد تطرق إليها بنفس أسلوب المسيري الذي لم ينظر إليها كمشكلة بيئية فقط، وإنما كمُعضلة فكرية بالدرجة الأولى، وذلك من خلال ملاحظاته البديعة أثناء إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية وأداء واجبه «المنزلي» بإخراج سلة القمامة خارج المنزل، وانتباهه أن نفاياته المنزلية في عصر ما بعد الحداثة (بعد 1965) كانت تتزايد بشكل مُفرط.
فينطلق من هذه «الملاحظة اليومية» ليُحدثنا عن الاستهلاك والتبديد، وعن حضارة الفوارغ والفردوس الأرضي و«الداروينية الاجتماعية». ثم الأجمل أن المسيري لم يكن يكتفي يومًا بالتفكيك والنقد، بل يقوم بطرح الحلول كالتدوير مثلًا، وحكاياته مع ملابسه كما حكاياته مع بقايا الطعام في حفل زفاف ابنه ونقده لغرق أحفاده في الألعاب البلاستيكية يشهد له بأنه لم يكن يُنظّر، ولكنه كان يُفكر ويبتكر!
لعل أهم ما تعلمته من المسيري هو ضرورة ربط الفِكر بالهندسة. وكفلسطيني، لم أسمع يومًا أحدًا يربط بين فكرة إعادة التدوير وبين الانتفاضة كما فعل المسيري الذي كان منبهرًا بقدرات الفلسطينيين في إعادة التدوير خلال الانتفاضة. وقد كان المسيري أيضًا مُنبهرًا ببعض الأساتذة في مصر؛ مثل الدكتور حامد الموصلي ويعتبر جهوده بمثابة «انتفاضة علمية»، وهو يُحاول أن يبتكر طريقة لصنع الخشب من مُخلفات شجر النخيل، باعتبار أن الدول العربية ليس فيها غابات ولا بد من ابتكار خشب متصالح ومتوازن مع ظروف البيئة العربية، وبالتالي بدلًا من حرق المخلفات يُمكن تدويرها لتحويلها إلى أخشاب متينة.
لا يتوقف الأمر هنا، ففي كتاب «إشكالية التحيز» الذي حرره المسيري وشارك فيه مهندسون مثل د. حامد الموصلي و د. نبيل مرقس وغيرهم، نجد طرحًا ودعوة إلى ضرورة إعادة التفكير في الكثير من المعارف والعلوم التي تصلنا جاهزة من «الغرب» والسعي إلى التخلص من التبعية من خلال «الهندسة»، كما يحوي الكتاب تأملات حول أفكار مُهندس الطائرات د. سيد دسوقي حسن في نقل التكنولوجيا، وهي مسائل تتطلب منا اهتمامًا أكبر دون أدنى شك!
الدروس التي تعلمتها من المسيري لا يُمكن حصرها في هكذا مدونة، فأنا لم أتطرق بعد للحديث عن تناوله المميز لليهودية والصهيونية وكيف كان يُبهرني وهو يتحدث عن المجتمع الإسرائيلي بشكل أفضل بكثير من معظم الكُتاب الفلسطينيين ممن لهم احتكاك شبه يومي بالصهاينة.
هذا غير الأفكار المميزة التي طرحها في موسوعته مثل حديثه عن «الوعود البلفورية» بدلًا من التركيز على «وعد بلفور» فقط، وحكاياته المثيرة والملهمة عن اليهود المُعادين للصهيونية. وهذا ليس غريبًا على رجل كالمسيري كرّس 25 عامًا لموسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية»، كما أنه لم يكن يرى بأن قضية فلسطين للفلسطينيين وحدهم، بل قضية الأحرار جميعًا!
رحم الله المسيري، كم أتمنى لو أنني التقيت به حقًا!