المنصور بن أبي عامر: وقفات مع الرجل الذي «ثار» وحيدًا
سنوات معدودات، وإنجازات امتزج فيها الحُلم بالعرق بالدم، واعتنق فيها الحب والحرب والمؤامرة، انطلقت في أولها قاطرة عمره من ريف جنوب الأندلس، وانتهت إلى حاضرتها قرطبة التي قلّبَتْه بطنًا لظهرٍ، وظهرًا لبطن، وتقاذفَتْهُ أمواج السياسة فيها حتى اعتلى مدّها كوثبةِ الفهد على فريسةٍ أنهكتها مخالبه، فتربّع على عرش أقوى دولة إسلامية عرفتها الأندلس.
قبض المنصور -كما لقب نفسه- على جمرة العرش القرطبي لربع قرن، لم يذق فيها الهزيمة، لا في صراعات الداخل ولا حروب الخارج.
من واحات المغرب جنوبًا إلى جبال البرينيه على حدود فرنسا شمالاً، ومن جزائر البحر المتوسط شرقًا إلى شاطئ المحيط الأطلنطي غربًا، كانت الكلمة الأولى والأخيرة للمستبد العادل الذي شهد بعزمه وحزمه العدو والصديق من عربٍ وبربر وأسبان وصقالبةٍ ومولّدين.
من السيرة الحافلة لهذا الرجل سيكون لنا خمس وقفات نعتبر فيها من آثار الخالدين.
1. قد تكون أنت وحدك التغيير الذي تريد
يشبه العنوان دعايات التنمية البشرية الرخيصة، لكنه تحقق في محمد بن أبي عامر المعافري، الذي نشأ في مجاهل ريف الجزيرة الخضراء على مشارف مضيق جبل طارق.
ولأنه كان شخصية استثنائية لا يجود التاريخ بمثلها كثيرًا، فقد آثرْتُ بدء العنوان بـ «قد» الاحتمالية، التي تنحني للواقع، ولكنها لا تسد الأبواب أمام الأمل.
رغم بداياته البسيطة فإن نبوغه لم يخفَ على أحد، فأتقن ما أتيح له جنوبًا، واكتسب من العيش هناك صبرًا وتجلدًا وجرأة أثمرت الكثير أمام أعاصير المستقبل. ثم رحل شمالًا حيث مُعتَرك الدنيا والدين في قرطبة، وعينه مصوَّبة على أهدافه الكبرى. فاستغل فرصًا وصنع أخرى، حتى بلّغه زمنُه ما ليس يبلُغُه من نفسِه الزمنُ. هذا وهو وحيدٌ لا يملك إلا عقله وقلبه، فليس له نسَبٌ ملكي، ولا ميراثٌ إقطاعي، ولا عصبة قادرة.
وهكذا بعد أكثر من ٢٠٠ عام من الحكم الأموي المباشر للأندلس الذي بدأه عبد الرحمن الداخل 138هـ – أنشأ محمد بن أبي عامر دولته العامرية التي لم يقبض على الصولجان فيها سواه وابنه عبد الملك، والتي تركت أثرًا لافتًا في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، فواصلت فيه الشمس شروقها من المغرب إلى حين.
2. عندما كانت الشمس تشرق من المغرب
كان القرن الرابع الهجري عسيرًا على الشرق الإسلامي، انحسرت سلطة خلافة بغداد إلى أجزاءٍ من العراق، واستقلت معظم أجزاء الدولة تحت حكم ولاتها الذين انصرفوا للاقتتال والتنافس على التوسع.
تمزَّق المشرق الوسيط -لب العالم الإسلامي- بين الإخشيديين في مصر وجنوب الشام، والحمدانيين في حلب والموصل، والبويهيين الذي استولوا على بغداد ٣٤٥هـ، وابتلعوا صلاحيات الحكم من الرجل العباسي المريض، فلم يبقَ للخليفة إلا سلطانَه على جواريه!.
انفرطت سلطة الدولة أمنًا ونظامًا، فنجحت فرقة مارقة تقتات على السلب والنهب هي القرامطة في إنشاء دويْلتها في شرق الجزيرة العربية، وانطلقت منها لتهديد جوارها، فتمكنوا من تخريب ونهب البصرة حاضرة الجنوب العراقي ٣١١ هـ، ثم ارتكبوا فعلتهم الشنعاء،فكبسوا مكة المكرمة في موسم حج ٣١٧هـ، وقتلوا آلاف الحجيج في الحرم. وانتزعوا الحجر الأسود ٢٢ عامًا كاملة، حتى افتداه أمير تركي بماله!.
وكانت حال المغرب الإسلامي لا تختلف كثيرًا، فتمزق بين قبائل ودويلات متناحرة، إلا الأندلس، فكانت الاستثناء الذي فضح القاعدة، وكان القرن الرابع الهجري ربيعها.
تربع على عرش قرطبة ٣٠٠ هـ عبد الرحمن الناصر الأموي، سليل الداخل وسميّه. نهض ذو الـ ٢٧ عامًا بالمسؤولية، فكان أهلاً لها. قمع الفتن، ووحّدَ المدن الأندلسية تحت حكم قرطبة، وأعاد بالسيف وبالسياسة النصارى الأسبان إلى جحورهم في أقصى الشمال في جيليقية، والبشكنش – إقليم الباسك -، وليون، ونفارة.
ولما بلغته أنباء المشرق، أعلن أن خليفة الشرق لا يستحق لقبه، فتلقب الناصر بلقب الخلافة لأول مرة في تاريخ الحكم الأموي في الأندلس.
توفي الناصر ٣٥٠هـ، وترك لابنه الحكم المستنصر، دولة مُهابة، ترفل في النعيم والبذخ. فقام بها الحكم، وزانها بحبه للعلم، ومكتبته التي كان يشتري لها كنوز العلم والعلماء من كل مكان. لكن توفي الحكم ٣٦٦هـ وترك طفلاً صغيرًا هو ابنه هشام المؤيد، وعشرات الطامعين للقفز على العرش الذي لا يستطيع الطفل أن يملأه. استمر الصراع على الحكم سنوات معدودة حتى حسمه المنصور بن أبي عامر، وحكم أكثر من ٢٠ عامًا حتى توفي ٣٩٢ هـ بعد أن زادها قوة وبهاء، واستمر ابنه عبد الملك على منواله في الحكم سبع سنين أخرى، ثم كان ما كان.
3. لا يقتنص الفرصة إلا من تشبَّعت بها روحه
كان محمد يفاخر بجده الأكبر عبد الملك المعافري الذي كان ضمن جيوش الفتح الإسلامي للأندلس، فلم لا يكون له هو فتحه الخاص؟!.
دخل قرطبة وحيدًا، فأخذ أسبابها بقوة، ونهل من دروس جامعها الكبير، حتى ذاع صيته، وتحمل وظائف صغيرة يؤمّن بها عيشه، حتى أهّلته قدراته وأصبح كاتبًا لدى قاضيها ابن السليم، الذي شهد بكفايته، فكان واسطته لأخطر نقلة في حياته، حيث رشحه لدى الحاجب – بمثابة رئيس الوزراء – جعفر المصحفي ليدخل قصر الزهراء حيث تُساسُ الجزيرة كلها، كاتبًا وقائمًا بشئون عبد الرحمن الطفل ابن الحكم من جاريته الأثيرة صبح البشكنشية، أخطر نساء عصرها.
عضّ على فرصته بالنواجذ، فنهض بها حتى حاز إعجاب صبح، وبالتالي إعجاب الحكم. فقربه من مجلسه خاصة لما آنس فيه حبًا للعلم وذكاءً نادرًا. لهذا لم يؤثر فيه وفاة عبد الرحمن الصغير، إذ ظل على مكانته، حتى ولد هشام الصغير، فكُلّف بشؤونه.
ولما أراد الحكم تجديد دماء دولته، كان محمد في القلب من هذا. فكلفه بنظارة – وزارة – صك العملة بجانب وظيفته في القصر. فلما قام بها، ألحق به المزيد من الأعمال، منها الشرطة والمواريث والخزانة على سبيل المثال لا الحصر!. ثم كلفه بمهمة خارجية هامة، فجعله قاضي قضاة المغرب التابع للأندلس، فأحسن عمله كالمعتاد، وهكذا صار بن أبي عامر من أعمدة الدولة حتى حدث الزلزال.
4. فصول الحب والحرب
مات الحكم العجوز، وترك هشامًا الصغير في حضانة أمه الجارية. تحدث الرواة كثيرًا عن علاقة أم الخليفة صبح بابن أبي عامر. وجزم جمهورهم بعلاقة حب – نبيل أو آثم – بين الجارية الشابة، أثيرة الحكم الشيخ، والشاب الوسيم القوي مدير أعمالها. لن نخوض فيما لا يجدي، لكن الثابت أن علاقة خاصة ربطت مصيرهما في أوائل الفترة العصيبة.
حاول المغيرة أخو الحكم انتزاع العرش، فقتله المصحفي متحالفًا مع ابن أبي عامر.
كان قائد الجيش غالب الناصري يكره المصحفي، ويرى نفسه الأحق بالحجابة وبزعامة الموالي، وكان المصحفي يغار من ابن أبي عامر المستأثر بالحظوة في قصر الخلافة.
استغلّ الأسبان الاضطراب فهاجموا أطراف الدولة ثم أعماقها. كان المصحفي جبانًا يخشى القتال، وتعمد غالب الاكتفاء بالتحصن بجيشه في قلعته، ليحرج المصحفي أمام الشعب الذي يغلي من جبن المصحفي أشد من جرائم الأسبان. نهض ابن أبي عامر بجيش العاصمة، ورد الأسبان على أعقابهم!، فحمله الناس على الأعناق.
زادت الفجوة بين قطبي العاصمة، وأراد كل منهم كسب ود غالب بمصاهرته. فاز ابن أبي عامر بها عندما جاء مرسوم الخليفة يزكيه لدى غالب.
مالت الكفة لابن أبي عامر، والذي خرج في غزوة أخرى وعاد منتصرًا، وأحسن استغلال النصر، فعزل ابن المصحفي الذي كرهه الشعب من ولاية العاصمة. ضعفت منزلة المصحفي كثيرًا، فقدمت ضده العرائض لدى القضاة، واتهم بالفساد، فعُزل بمرسوم من الخليفة – معلوم من وراءه – وعُيِّن ابن أبي عامر حاجبًا وتلقب بالمنصور.
تسيّد المنصور، وقضى على شوكة الفتيان الصقالبة -يشبهون المماليك في مصر، وكان لهم نفوذ كبير في قرطبة – واصطفى لنفسه منهم المخلصين له. ثم أنشأ قصرًا جديدًا للحكم هو الزاهرة، وأبعد للخليفة وأمه شيئًا فشيئًا عن الحكم وعزلهما بقصرهما!.اغتاظ منه حماه غالب، حتى وصل الأمر لإعلان الحرب!، وكانت الطامة أن استعان غالب بالأسبان ضد المنصور!، فاستغلها الأخير وجيّش الناس، فنجح في القضاء على غالب، وأوشك أن ينفرد تمامًا بالحكم.
لم تهدأ صبح، وحاولت من قصرها مراسلة أعيان المغرب والأندلس تؤلب على المنصور الذي انتزع حكم ابنها، وكاد الأمر يضطرب خاصة مع تململ الشعب الذي تعاطف مع الملك الأموي الصغير.
جاء الفصل الأخير عندما صادر المنصور أموال صبح التي كانت تخرجها من القصر في أواني زيت الصدقة لترسلها للثائرين. فحدد لها راتبًا مناسبًا، واستصفى ما بقي للخزانة. ثم ألزم هشام المؤيد أن يخرج لأعيان قرطبة في يوم مشهود، ليعلن تنازله عن سلطانه للمنصور؛ لكي يتفرغ للعبادة!، وهكذا بدأ مُلك المنصور.
5. آخر ضوء المصباح
هذا أبلغ وصف للمنصور مدحًا وذمًّا. المدح لأنه ارتقى بالأندلس إلى ذروة ما وصلت إليه جهادًا وعلمًا واقتصادًا خلال قرونها السبعة الإسلامية، والذم لأنه ألقى بها إلى التهلكة من حيث لا يدري. فاستبداده – وتبعه ابنه في نفس السياسة – بالسلطة بشرعية القوة قبل الرضا، وتخلصه أولاً بأول من أي شخصية قوية تطفو على السطح في الأندلس باسم قمع الفتنة في مهدها، وخروجه على ناموس الحكم الأموي فيها دون أن ينشئ بديلاً شُورِيًا يعصمها من تقلب العصور. كل هذا عجَّل بنهاية الأندلس.
إذ لما توفي ابنه عبد الملك 399 هـ، لم يكن قد بقي من العامريين بالأندلس ولا غيرهم شخصية قادرة على القيام بالأمر وجمع الكلمة. وكان الخليفة منزوع الصلاحيات لأكثر من 30 عامًا أضعف من أي يقوم بهذا. فدخلت الأندلس لأعوامٍ في دوامة من الفتن والاضطرابات، والتقافز على الحكم بين جماعات من العرب والبربر والصقالبة وبقايا الأمويين، إلخ. وكان هذا فاتحة الفترة المشئومة من تاريخ الأندلس التي تسمى عصر ملوك الطوائف، فانقسمت الدولة القوية الموحدة إلى أكثر من 22 دويلة متناحرة، فقويت شوكة الأسبان فبدأوا يقضمون الأندلس قطعة قطعة.