«الكنز»: نصف ضحكة، نصف حكاية، نصف فيلم
هل شاهد المخرج «شريف عرفة» الفيلم الشهير «سحابة أطلس Cloud Atlas»الذي قدم عام 2012 من إخراج «توم تويكر»، و«لانا ويشويسكي» وأراد أن يصنع فيلما بنكهة مصرية على شاكلته؟ وهو فيلم مأخوذ عن رواية تدور أحداثه في عدة أزمنة ما بين الماضي والمستقبل، ويغوص في معضلات وحنايا فلسفية تخص النفوس، والبشر، والزمن، والغواية، والحب.
ربما كان هذا هو المقصود بالقصة السينمائية التي أصبح يفضل دوما أن يلحق بها اسمه على تيترات أفلامه، ولكن أزمة «الكنز» ليست في كونه يطرح سؤال الاقتباس أم التأليف، حتى مع وجود توارد واضح بين شكل العمل المصري والعمل الأمريكي، والذي بالمناسبة لم يكن أفضل ما قدم صناعه، أزمة الكنز في أنه فيلم يحمل قدرا من التشوش والشحوم الإيقاعية –ناهينا عن طول الزمن الذي يقترب من الثلاث الساعات- بشكل يجعله ثقيل الحركة فكريا وشعوريا، بل إنه يبدو حتى على مستوى النوع غير منضبط الهوية.
فبعد مرور الساعة الأولى يفقد المتفرج بوصلته فلا يعود يعرف هل يشاهد فيلما ينتمي للفانتازيا التاريخية، أم كوميديا المحاكاة الساخرة للأعمال الكلاسيكية، أم المليودراما العاطفية الساذجة،أم كل هذا معجونا في خليط غير متجانس سرعان ما يفقد قوامه لصالح مغامرة الشكل السطحية وخمول الإيقاع.
سعد ورمضان
في البداية نود الإشارة إلى أن «الكنز» يحمل ظاهرة استثنائية هي أنه استطاع أن يجمع اثنين من الممثلين يمثل أحدهما انعكاسا للآخر؛ وهما «محمد سعد» و«محمد رمضان». فمنذ 10 سنوات تقريبا كانت نصيحة الكل لمحمد سعد أن يتوقف عن الأنماط المكررة والخانقة التي حصر بها موهبته التمثيلية، وأن ينطلق إلى آفاق أرحب في اختيار الأدوار، حتى لو لم تكن كوميدية صرفة أو حتى كوميدية على الإطلاق، ولم يستمع سعد إلى هذه النصيحة واعتبرها فخا من أعداء نجاحه الذي سرعان ما تحطم على «طوبة»وليس حتى صخرة الجمهور الذي انصرف عنه كلية وتجاوزه إلى أنماط جديدة، مثل أحمد مكي، والثلاثي (شيكو، وهشام، وفهمي).
وبعد 10 سنوات من التردي والتخبط عاد سعد فاستمع إلى النصيحة وقرر أن يكسر النمط مع نفس المخرج الذي أطلق «اللمبي»من قمقمه في فيلم «الناظر»، ليخرج المارد محققا أعلى الإيرادات وأقصى الانتقادات، ثم يتبخر بلا أثر يذكر سوى أنه أصبح مصطلحا يدل على الابتذال والسفه والنمطية.
بالطبع ثمة سلبيات واضحة فيما يخص العمل متأخرا بالنصيحة، لكن قد يقول البعض أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا، وهو ما حاول سعد أن يفعله في الكنز، صحيح أن اللمبي بقى في داخله يتقافز من وقت إلى آخر، ويصنع لمحات كوميدية ربما أكثر طرافة من تلك التي كان يصنعها في أفلامه السابقة (مثل مشاهد مقاومة عملية الاغتيال، أو غواية المطربة الشابة، أو مشاهد رئاسته للبوليس السياسي)، إلا أن المحصلة النهائية هي تحطيم حقيقي للنمط وظهور وجه جديد لسعد ظل مطمورا لسنوات خلف تعلثم «اللمبي»، وغباء «بوحه»، وحول عيون «أطاطا».
وبالقياس فإن «محمد رمضان» الذي كان يسير بخطى واثقة وسعيدة على نفس درب سعد فيما يخص تفتيت موهبته ودفنها في حفرة النمط الواحد (البطل الشعبي الخارق صاحب السنجة والثعبان في البنطالون) على ما يبدو أنه انتبه أخيرا إلى أن مصير سعد قد ينتظره، فقرر هو الآخر أن يصعد من ترعة الشخصية الواحدة، ويحاول أن يتلمس على استحياء النزول في ساحل التنوع الواسع.
من هنا يصبح اجتماع كل من سعد ورمضان في الكنز -عن قصد أو بدون- هو ظاهرة تستحق الرصد، وإن كان تواضع مستوى الدراما وضعف بناء الشخصيات وذبول الوهج الإيقاعي العام للتجربة قد يبدو محبطا بالنسبة لطرفي المعادلة (فنانين وجمهور)، إلا أنه في نفس الوقت قد يجعل من وجودهما بوجوه جديدة (واضحة بالنسبة لسعد ونسبية بالنسبة لرمضان) هو أميز ما في الكنز وأكثره تأثيرا.
فيلم بدين
أول الأسئلة التي يطرحها الشكل الفيلمي لأي عمل سينمائي هو ارتباط هذا الشكل بفكرته ومضمونه، وإلا أصبح الشكل مجرد حلية بلا قيمة حقيقة، وحين تصبح الفكرة الأساسية هي وجود كنز ما (مجهول وغامض وغير معروف حتى نهاية الجزء الأول) مدفون منذ آلاف السنين في أرض الأقصر الجنوبية وهو على ما يبدو -لأن السرد حافظ على غموضه لدرجة مزعجة فلم نعد ندري هل هو معادن نفيسة أم مخطوطات خارقة- مرتبط بتاريخ مصر على مر ثلاثة عصور تمثل ثلاث هويات حضارية، الفرعونية (حكاية حتشبسوت) والعربية (سيرة علي الزيبق)، والمدنية الحديثة (حكاية اللواء بشر باشا رئيس القلم السياسي)، والتي تستمر بشكل ما ممتدة في إرثه الغريب الذي تركه لابنه الباحث في علم المصريات الذي يعود للجنوب عام 1975 ليقرأ ويعرف ويستخرج الكنز أو يستمر في حراسته مثل كل من سبقوه.
ثلاث حكايات تروى عبر الماضي (برديات قديمة، وسيرة مكتوبة، وشرائط سينمائية) وحكاية واحدة تروى في الحاضر –حاضر الفيلم- يبدو الرابط بينها غير مباشر ومموه، بل مفتعل في بعض الأحيان وغير متوازن.
أزمة الحكايات الثلاث أنها لا تدور من خلال سياق إيقاعي منضبط على مستوى الكتابة والمونتاج، حيث يطغى زمن السرد لحكاية على زمن السرد لحكاية أخرى، بشكل يجعلنا في مرات كثيرة ننسى الحكايات الأخرى ونستغرق في حكاية واحدة.
هذه الأزمة سببها الرئيسي بدانة بعض الحكايات في مقابل نحافة حكايات أخرى (حكاية بشر باشا والمطربة الشابة، في مقابل حكاية علي الزيبق أبرز مثال) فالمحصلة هي امتلاء الفيلم بدهون التفاصيل التي كانت تحتاج إلى الكثير من الحرق ليخف وزنه ويصبح أكثر رشاقة في رواية قصصه المختلفة والانتقال من زمن لزمن بخفة ودون افتعال، مثل التداخلات المونتاجية بين الأغاني من زمن والمعارك في زمن آخر، وهي تداخلات مضحكة أكثر مما تتسم بالعمق، خاصة أن المعارك نفسها معارك طريفة مصممة لكي تتتسم بالظرف والإفهيات، خاصة معارك حكاية علي الزيبق.
وكذلك مشهد محاولة اغتيال بشر باشا الذي أطلق ضحكات الجميع في صالة العرض حيث فجأة بدا لنا اللمبي الذي يقبع بداخل محمد سعد في شخصية الباشا اللواء وهو ينهض حاملا المسدس لكي يواجه مغتاليه، وكأنه بعث من جديد وسط الدخان كي ينتقم منا نحن الجمهور الذي طالما طالبناه بالاختفاء والتوقف عن الظهور على شاشة السينما.
إن حكاية بشر باشا تحديدا تمتلئ بالتفاصيل أكثر من الحكايات الأخرى، وهو ما يجعلها تطغى في زمن الحكي على أخواتها القابعات في البرديات والسير، ويكفي الخط الخاص بأخي الباشا الذي ألقاه في السجن لأنه مدمن كوكايين واستمر لأجل لا نعرفه. وعندما يظهر بواب مصر/عبد العزيز مخيون، في دور شخصية غرائبية لا ندري هل هو كاهن أم جني أم مجذوب، لا يظهر لبطل القصة بشر باشا كما يظهر لحتشبسوت أو علي الزيبق – أبطال قصصهم- بل يظهر لشخصية فرعية في القصة؛ هي الأخ المدمن في السجن، وفي شكل يشبه «حسن البنا» مرشد الإخوان بلحيته وطربوشه!
حكايات ما قبل النوم
هند صبري من فيلم الكنز
لماذا اختار الكاتب أن يقدم حكاية الكنز من خلال ثلاث حكايات؛ اثنتان منها تتسمان بالنمطية والتكرار وفقدان عنصر الدهشة في الأحداث؟ ونعني بهما حكاية حتشبسوت وسيرة علي الزيبق.
إن حكاية حتشبسوت في الفيلم تتسم بتلك البساطة والسذاجة المحببة التي نجدها دوما في قصص الأطفال، ناهينا عن تأثر صناع الفيلم بشخصية الأميرة «عنخ» بنت آمون في سلسلة أفلام المومياء الشهيرة التي كانت محاربة من طراز رفيع، لم تتمكن هند صبري في شخصية حتشبسوت من مجاراة لياقتها البدنية في مشاهد الاشتباك مع جنود الكاهن الأكبر، والراغب في اغتيالها لأنها سوف تحد من نفوذه على العرش.
حكاية لا هي بالعاطفية، ولا هي بالتاريخية، ولا هي بالفلسفية، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن الجمل الساذجة التي ينطقها الحكيم ذو العقد الفيرزوي الأزرق هي خلاصة فلسفية لأي شيء، بل تبدو مكررة في كل تفاصيلها بشكل مستفز (الأميرة التي تحاول أن تتقرب من الشعب فتلتقي أحد العامة وتقع في حبه دون أن يدري أنها صاحبة العرش، ثم تنشأ بينهما علاقة خاصة لأنها متزوجة من الفرعون لأسباب سياسية، بينما قلبها مع أبي العيون المكحلة والشعر الرمادي الذي لا يناسب خادما من خدام المعبد الفرعوني).
أما الغريب في حكاية علي الزيبق أنها تبدو حكاية داخل حكاية دون داع –حيث مزيد من البدانة السردية- فالباحث الشاب يقرأ سيرة علي الزيبق لنجد أنفسنا في فلاش باك عن راوٍ شعبي يحكي على الربابة سيرة علي الزيبق، فندخل في فلاش باك داخل الفلاش باك لسيرة علي الزيبق، أو كما قال أحدهم في حكمة خالدة؛ «تفتح الباب تلاقي دهليز تدخل في الدهليز تلاقي باب».
إن اختيار علي الزيبق من الأساس هو اختيار غريب دراميا؛ لأنه مرتبط لدى قطاعات عريضة من المتلقين بعمل تليفزيوني كلاسيكي محبب ورائع، وممثل كان في أقصى توهجه حين قدم الشخصية (فاروق الفيشاوي)، ولو أن صناع الكنز لا يدرون أنهم بإعادة تقديمهم لحكاية الزيبق حشروا أنفسهم في مقارنة مع العمل الأصلي وبطله، فهذه ثقة زائدة في جمهور متعته هي المقارنة والمقاربة لكي يشعر بذكائه وسعة مشاهداته.
ولكن هذه ليست هي أزمة الحكاية تحديدا، بل في كونها تقدم بنفس الشكل الطفولي البسيط الذي تقدم به حكاية حتشبسوت، دون تراكيب درامية طازجة وبشخصيات مسطحة أحادية البعد، حتى شخصية «علي» نفسه الذي يبدو شابا عابثا يملك بعض القدرات الحركية الطريفة، وليس البطل الذي يعاني من أزمة مركبة تكونت عبر طبقات من حياته السابقة؛ حين قُتل أبوه غدرا، وتربي غريبا بعد رحلة حاولوا أن تبدو شكليا أشبه برحلة المسيح والعذراء في خروجها من فلسطين لمصر، ثم نشأ ليجد قاتل والده هو أبو حبيبته بالطبع كالمعتاد.
إن فقدان دهشة الحكي في فيلم يتسم بالطول الزمني هو جانب آخر من جوانب البدانة، فتوقع الحدث وانتظاره يفقد المتلقي شهية المتابعة، وبالتالي لا تطاله الفكرة أو يلمسه مضمون الحكاية والمرتبط تحديدا وبشكل عضوي برشاقة السرد وتصاعده، باختصار لا أحد يستطيع أن يوصل أي فكرة دون أن يتم تضمنيها في حكاية مروية بشكل جيد، لأن غياب الشكل الجيد في الحكي سوف يقدم الفكرة بصورة مباشرة فجة أو في سياق تافه هزيل.
ورغم الإرهاصة التي قدمها السيناريو عندما التقى الابن/الباحث العائد زوجة أبيه العجوز، تلك المطربة صاحبة الصوت الغائب، وهو ما جعلنا في مرحلة ما من حكاية الباشا ندرك مصير العلاقة بينهما، إلا أن حكاية الباشا اللواء تظل هي أفضل حكايات الفيلم مقارنة بالحكايتين الأخريين، حتى مع اتسام حكاية الباشا شكلا كفيلم أبيض وأسود مسجل على شرائط قديمة، وأحداثا كقصة حب أربعينية أنيقة من أفلام يوسف وهبي وأنور وجدي، بالكثير من البساطة والخفة الشعورية والنفسية.
نصف ضحكة.. نصف كنز
استطاع صناع الفيلم أن يرسموا البسمة على وجوه الجمهور أكثر مما تمكنوا من استدراجهم في رحلة البحث واكتشاف ماهية الكنز وأسراره، ففي كل حكاية كان ثمة عنصر طريف سواء تمثيليا، أو حواريا، أو بصريا، فأداء محمد إسماعيل في دور الكاهن الأكبر في حكاية حتشبسوت أداء كوميدي بامتياز، خاصة مع أسلوبه المميز في مد الجمل والحروف، وكشفه لأسرار مؤامرته كرأس السلطة الدينية على محاولة حتشبسوت الاستيلاء على العرش دون أن ندري لماذا يريد التصدي لها رغم أنها منساقة بشكل كبير لكل سياقات الدولة بلا مقاومة!
أما في حكاية علي الزيبق فكان الحوار شبه المسجوع بصورة البلاغة المضحكة التي تشبه حكم المسلسلات الكرتونية المدبلجة هو مصدر الضحك دون منازع، خاصة مع خفة ظل محمد رمضان في شخصية الزيبق المعجباني الذي يريد أن يوقع البنت الحلوة زينب في حبائله فيستدرجها بصباع من حلوى صوابع زينب كرمز للعشق الممنوع.
الطريف أيضا أن الفيلم حاول أن يضع في كل زمن رمزا من رموز السلطة الدينية وصراعها مع القوى المدنية الحديثة، سواء الكاهن الأكبر في العصر الفرعوني، أو الشيخ الصامت/أحمد صيام في عصر علي الزيبق، أو الإخوان في حكاية بشر باشا الذين يقومون بضرب أخيه أيضا.
ففي مقابل المشاهد الطويلة المفتعلة لحديث الكاهن الأكبر عن السلطة الدينية على العرش، لا نجد الشيخ في العصر العثماني ينطق بكلمة –إما أن مشاهده حذفت في المونتاج أو اكتفى الفيلم بثرثرة الكاهن عن الدكتاتورية الدينية- بينما يتقلص كل هذا الحديث المفرط عن سلطة الدين في المشهد الخائب الذي يضرب فيه الإخوان أخا بشر باشا في السجن.
فالصلات هنا ليست غير مباشرة، إنما متقطعة مفتعلة، خاصة أن شخصية الحكيم/بواب مصر الذي يظهر في كل العصور ما عدا العصر الحاضر للباحث الشاب، يظهر أيضا في صورة دينية أو شبه دينية، سواء ككاهن في العصر الفرعوني، أو صوفي خارق في برده خضراء في عصر الزيبق، أو مسجون من الإسلام السياسي في عصر الباشا اللواء، وهو ما يصنع قدرا من التشوش والخلط والتداخل الذي يدعى العميق لكن افتعاله يهدم هذا الادعاء ويكسر سياقه الخاص.
على ما يبدو فإن الكنز يقف في المنتصف من كل شيء، من العمق ومن التسلية، من الكوميديا ومن الفانتازيا والأكشن، ومع نهاية الجزء الأول من الفيلم دون أن نعلم عن ماهية الكنز شيئا أو على الأقل نشعر بالرغبة في ذلك -لأننا تورطنا في تفاصيل أخرى لا علاقة لها به- فإننا لا ننال حتى نصف كنز، بل يكتفي الفيلم بتقديم عقد من مشغولات خان الخليلي (العقد الذي تقدمه فاطمة للزيبق ابنها كي يرهنه) لنظل في انتظار المزيد من أعمال الفضة والحفر على النحاس في الجزء القادم.