خرج ولم يَعُد … كان ذلك هو ملخص ما حدث في ذلك اليوم من أيام شهر شوال من عام 411هـ. أما هذا الذي خرج ولم يظهر له أثر إلى اليوم فهو واحد من أشهر الحُكّام في تاريخ مصر، وأكثرهم إثارة للجدليْن الفكري والتاريخي حتى الآن، إنه الحاكم بأمر الله الفاطمي. 

تُرجح الروايات التاريخية أن اختفاء الحاكم كان اغتيالًا بـمؤامرةٍ من أخته القوية ست الملك التي رأت في استمراره على العرش خطرًا كبيرًا عليها إذ هدَّدها بالقتل، ورماها بالزنا، فتواطأت ضده مع أمير كتامة المغاربي الحسين بن دواس، والذي كان يخشى أن تطيحَ برأسهِ تقلبات الحاكم، فأرسل من كمن له في جولته الليلية في المقطم وقتله. 

اقرأ: الحشاشون والفاطميون .. السكاكين تمزق الجسد الشيعي

لم تقتصر أسباب التخلص من الحاكم على الأبعاد الشخصية، فقد رأت ست الملك ومن وافقَها أن استمرارَ الحاكم على العرش خطرٌ على شرعية وسمعة البيت الفاطمي الحاكم، نتيجة تناقضاته وقرارته الحادة الخطيرة التي تؤثر على الاستقرار، مثلما فعل عندما ضيَّق بشدة على المسيحيين واليهود، حتى دفع الكثيرينَ منهم للهجرة من مصر أو التظاهر بالإسلام، وأمرَ بهدم كافة الكنائس في المناطق الخاضعة لسلطانه وعلى رأسها كنيسة القيامة في بيت المقدس، ثم ما لبثَ أن تراجع عن هذا الاضطهاد. وإثارة حفيظة غالبية المصريين السنة بـالأمر بتعميم سب كبار الصحابة مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

.. وكانت خلافته متضادّة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبّة للعلم وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء. وكان الغالب عليه السخاء؛ وربّما بخل بما لم يبخل به أحد قطّ ..
المؤرخ أبو المُظفَّر متحدثًا عن خلافة الحاكم الفاطمي

وزاد الطين بلة، ترك الحاكم المجالَ لبعض الدعاة المتطرفين مثل محمد بن إسماعيل الدرزي -ينتسب إليه طائفة الدروز- الذي كان يدعو إلى ألوهية الحاكم بأمر الله، مما أثار غضب الجماهير، فتتبَّعوا بعضَ أتباعه وقتلوهم. كذلك تحريضه عبيده على اجتياح الفسطاط والعسكر والقطائع؛ انتقامًا من سخرية المصريين اللاذعة منه. هذا إلى جانب طائفةٍ أخرى من القرارات الغريبة مثل: النهي عن بيع أنواعٍ من السمك، وعن أكل الملوخية، وحبس النساء في البيوت لأكثر من 7 سنواتٍ مع منع صناعة الأحذية النسائية .. إلخ. كما كان كثيرًَا ما يُقتّر في الإنفاق بشدة، ثم في أوقاتٍ أخرى ينفق بسخاء من يثق في أن خزائنَه لا تنفد. 

ولم تكن قرارات الحاكم الحادة تُفرِّق بين كبير وصغير من رجال الدولة، فكان من أبرز من دفعوا ثمنها من أصحاب المناصب الوزير أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي الذي كُتب عليه أن يعيشَ 32 عامًا بعاهةٍ مستديمة، والجرجرائي نسبة إلى قرية جَرجَرايا في العراق.

في عام 404هـ، أمرَ الحاكم بقطع يديْ الجرجرائي كلتيْهما، والذي كان آنذاك كاتب قائد القواد، وقد اختلفتْ الروايات في تفاصيل سبب هذا الحكم شديد القسوة، لكنَّها أجمَعَتْ على أنه لم يكن مسوّغًا على الإطلاق. رجَّحَ البعض أن السبب كان خلافًا بين الجرجرائي وأخت الخليفة ست الملك وكان كاتبَها قبل أن يعمل لدى قائد القواد، بينما ذكرت رواية أخرى أن السبب عبث الجرجرائي بإحدى الرسائل المختومة المُوجَّهة إلى الحاكم لأنها كانت تحتوي ذمًا في قائد القواد، واكتفى بعض المؤرخين كابن خُلَّكان في كتابه «وفيات الأعيان» بذكر جملة موجزةٍ مُبهَمة عن أن سبب الحكم العنيف ضد الجرجرائي هو خيانة ارتكبها. 

المفارقة أن واقعة قطع اليديْن لم تكن سابقةً في عهد الحاكم، فقد سبق وقطع يد قائد القوَّاد نفسه قبل 3 أعوام من كاتبه الجرجرائي، ثم قطع الثانية بعد الجرجرائي بأسبوعيْن، ثم بعد أسابيع قليلة قطع لسانَ قائد القواد بعد خلافٍ معه، ثم بعدها بقليل صالَحَهُ، ومنحه العديد من الأعطيات! ومفارقةُ أخرى أنه بعد 5 أعوام من واقعة قطع يديْ الجرجرائي، ولاه الحاكم بأمر الله منصب صاحب ديوان النفقات عام 409هـ، وهو الذي يجعلُه مُشرفًا على مبالغ مؤثرة من المال. فهل من المعقول تولية منصبٍ كهذا لمن ارتكبَ خيانةً تستدعي قطعَ يديْه الاثنتيْن؟

اقرأ: وكل أرضٍ كربلاء .. دم الحسين الذي سال عبر العصور

ما بعد الحاكم: وزيرٌ بلا يديْن

وكانت أيامه كلها سكونًا ولينًا، وهو مشغول بملاذِّه ونُزَهِه وسماع المغنى، وأمور الدولة بيد عمته السيدة العزيز ست الملك، وهي التي عدلت بالخلافة إليه.
المقريزي في كتاب «اتعاظ الحنفا» متحدثًا عن خلافة الظاهر الفاطمي

بتدبير من العمة صاحبة النفوذ ست الملك، أُسنِدَت الخلافة إلى الظاهر لإعزاز دين الله بعد اختفاء أبيه الحاكم. وكان الظاهر على عكس أبيه سهلَ المعشر، ليِّن الطباع، وكان يميل كثيرًا إلى التنزُّه والتمتع بأطايب الحياة، فأنشأ أحد أفخم القصور الفاطمية وهو قصر اللؤلؤة، والذي محاه الدهرُ محوًا فلم يبقَ منه شيءٌ الآن. 

كما اشتهر الظاهر أيضًا بالسخاء في الإنفاق، مما أثر كثيرًا على خزينة الدولة، وألغى كافة القرارات الصارمة والصادمة التي اتَّخذَها أبوه، وكان من أوائل القرارات المُلغاة بتشجيعٍ من عمته قرار حبس النساء في البيوت. وكان يحاول الاطلاع من حينٍ لآخر على أمور الدولة، فكان عصره بالقياس إلى عهد أبيه مُتنفَّسًا كبيرًا للناس، حتى أنه لضمان المزيد من الشعبية سمحَ للناس عام 418هـ بتداول الخمر، والإقبال على أنواعٍ مختلفة من اللهو والاستمتاع، ومن أمثلة ذلك ما يذكره المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي في أحداث عام 415هـ من كتابه «اتعاظ الحنفا» من اختلاط الناس مسلمين ومسيحيين في عيد الفصح المسيحي، والانغماس في معاقرة الخمر حتى سكرَ الكثيرون.

وفي السنوات القليلة الأولى من خلافة الظاهر كانت عمته ست الملك هي صاحبة الأمر والنهي، وقد فرضَت هيبَتها أمام الخاصة والعامة بعد أن تخلَّصت بدون تردد من كلِّ من شاركَها في مؤامرة التخلص من الحاكم، لا سيَّما الحسين بن دوَّاس الكُتامي، وكذلك تدبيرُها اغتيال الأمير عزيز الدولة فاتك الذي استقلَّ بحكم حلب منذ عهد الحاكم. وقبل ذلك تخلَّصت من عبد الرحيم بن إلياس الفاطمي ابن عم الحاكم والذي كان قد جعله الحاكم وليًا للعهد من بعده. 

وفي عهد الظاهر، علا نجمُ الجَرجرائي في أروقة الإدارة الفاطمية، لا سيما وقد قرَّبته السيدة ست الملك، وجعلته كاتبها ومدبرَ أعمالها، وتولَّى في خدمتها العديد من المهام الإدارية والمالية في الصعيد والدلتا. وينقل المقريزي ردًا جريئًا له على الخليفة الظاهر عام 415هـ عندما استشاره في فرض المزيد من الضرائب على التجار لتوفير الأموال من أجل رواتب الجند، فذكر أن الغلاء المتصاعد لم يترك الكثير من المال لدى التجار والناس، وأن المال الوفير موجود فقط في خزائن نساء القصر كأم الخليفة وعمته، ويجب الاقتراض منهما لدعم الخزينة.

عام 418هـ، أسندَ الظاهر إلى أبي القاسم الجرجرائي منصبَ الوزارة، والذي أصبحَ أقوى رجلٍ في الإدارة المصرية بعد وفاة ست الملك عمة الخليفة، والتي أورثَت الوزيرَ الجرجرائي الكثير من هيبَتها ونفوذها، وقد منحه الخليفة لقبًا فخيمًا:

الوزير الأجل الكامل أوحد أمير المؤمنين وخالصته

 واتخذ الجرجرائي من القاضي القضاعي كاتبًا له، وجعلَه مسؤولًا عن الختم على أوامره نيابةً عنه لعجزه عن فعل ذلك بنفسه. وقد بذَل الوزيرُ جُهدًا كبيرًا للغاية في أن يكون مثالًا للأمانة، ونزاهة اليد، وكفاءة التدبير، لكن لم يمنع هذا الأداء الجيد أن يسخر منهُ خصومُه مُستندين إلى حادثة قطعِ يديْه البشعة، فعيَّره أحدُ الشعراءِ الساخرين قائلًا:

يا أحمقاً اسمعْ وقُلْ …… ودعِ الرقاعةَ والتحامُقْ
أأقمتَ نفسَك في الثقا …… تِ وهبْك فيما قُلت صادقْ
فمن الأمانة والتقى ……. قُطِعَتْ يداك من المرافقْ

وخلال الأعوام الثلاثة الأولى من وزارة الجرجرائي، قُضي على أكبر تمردٍ في الشام ضد الدولة الفاطمية والذي استمرَّ لأعوامٍ بقيادة حسان بن الجراح وصالح بن مرداس، وقُتِل الأخير بعد معارك متتالية ضد جيوش الخلافة، واستعادت الدولة السيطرة على الشام باستثناء حلب التي استُعيدَت السيطرة عليها عام 426هـ. وكان للتدبير المالي الجيد للجرجرائي دورٌ كبير في توفير المال الكافي لتجهيز الجيوش لقمع التمرد.

مركز الثقل في مصر

تُوُفّيَ الخليفة الفاطمي الظاهر عام 427هـ، ورغم ما تخلَّل أعوام خلافته الستة عشر من بعض التمردات والاضطرابات، فإنها في العموم كانت فترة مائلة إلى الرخاء والاستقرار بفضل حُسنِ سياسة وكفاءةِ تدبير عمة الخليفة في السنوات الأولى، ثم الوزير الجرجرائي في السنوات التسع التي أصبحَ فيها وزيرًا.

اقرأ: بهرام الأرمني .. قصة الوزير سيف الإسلام المسيحي

وقد أشرفَ الجرجرائي على عملية انتقال السلطة من الخليفة الظاهر إلى ابنه الطفل المستنصر الفاطمي، وأصبح هو مدبِّر دولة الخليفة الصغير الذي لا يملك من أمره ولا أمر الدولة شيئًا، وأنفق الوزير بسخاء على قطاعات الجيش المختلفة لضمان ولائها ودعمِها للسلطة الجديدة. وفي نفس هذا العام أرسل من مصر إلى الكوفة مبلغًا سخيًا لإصلاح قنطرة مهمة في تلك المدينة العراقية التي كانت خاضعة لحكم الخلافة العباسية المنافسة، وكان الهدف من ذلك كسب المزيد من الشعبية للفاطميين خارج الحدود، واستقطاب العراقيين للخليفة الفاطمي.

وطوال سنواتٍ تسع من خلافة المستنصر، كان الجَرجرائي هو المدبر الفعلي للدولة لا يُنازعه أحد، ونظرًا لسياسته المالية الجيدة، فإنه عندما تُوفي الوزير الجرجرائي عام 436م بعد أن أصيب باستسقاء البطن، ترك الخزانة المصرية عامرة بأكثر من مليون وسبعمائة ألف دينار ذهبي، وقد دامت وزارته لكلٍّ من الخليفتيْن الظاهر وابنه المستنصر ما يقارب 18 عامًا

وستشهد لوزارته العقود التالية من حكم المستنصر الفاطمي، والذي سيظل خليفةً لـ 60 عامًا، وتشهد مصر في منتصف عصر خلافته اضطرابًا كبيرًا وفسادًا سياسيًا، تزامنًا مع انحسار فيضان النيل لسنواتٍ، لتقع الشدة المستنصرية التي فقد فيها الكثير من المصريين أرواحهم جوعًا وقتلًا.

 وكان من أشد ما فاقمَ تلك الشدة صراعات النفوذ والحكم في مصر في وجود الخليفة الضعيف، وكانت أم الخليفة المستنصر واسمها رصد، من أبرز الضالعين في تلك الاضطرابات والصراعات، وكانت في الأصل جاريةً لدى الأمير أبي سعيد التستري اليهودي، فلما تولى ابنها الخلافة، أنعمت على سيدها اليهودي، وضغطت لترقيته في مراتب الدولة، لكن حالت هيبة الوزير الجرجرائي دون علو نجمه، فلما مات الجرجرائي، علا نجمه، وتسبَّبت مؤامراته في فتنةٍ كبرى لن تكون الأخيرة بين جنود الجيش المغاربة والأتراك، ودارت مصر في العقود التالية في سلاسل من النزاع بين الوزراء والأمراء أضعفت الدولة الفاطمية وبدأت العد التنازلي لسقوطها المحتوم، ولكن لهذا جولات أخرى.