رسالة الحارث المحاسبي لطالبي البصائر
اصدُق في الطلب تَرِث عِلم البصائر، وتبدُ لك عيون المعارف، وتميز بنفسك علم ما يرد عليك بخالص التوفيق، فإنما السبق لمن عمل، والخشية لمن علم، والتوكل لمن وثق، والخوف لمن أيقن، والمزيد لمن شكر. واعلم أن ما يصل العبد إليه من الفهم بقدر تقديم عقله وموجود علمه بتقواه لله وطاعته، فمن وهب اللهُ له العقل وأحياه بالعلم بعد الإيمان وبصّره باليقين عيوب نفسه فقد نُظمت له خصال البر، فاطلب البر في التقوى، وخذ العلم من أهل الخشية.
واستجلب الصدق بمباحث الصدق في مواطن التفكر، قال الله عز وَجل: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وليكون من الموقنين}، وقال رسول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تعلمُوا الْيَقِين فَإِنِّي أتعلمه).
ما يحفظ العقل والعلم
واعلم أن كل عقل لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو عقل مكار:
إيثار الطاعة على المعصية.
وإيثار العلم على الجهل.
وإيثار الدين على الدنيا.
وكل علم لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو مزيد في الحجة:
كف الأذى بقطع الرغبة.
ووجود العمل بالخشية.
وبذل الإنصاف بالتباذل والرحمة.
أحوال أهل المعرفة مبنية على العقل
واعلم أن أهل المعرفة بالله بنوا أصول الأحوال على شاهد العلم، وتفقهوا في الفروع، ألا ترى لقولالنبي، صلى الله عليه وسلم: (من عمل بِمَا علم وَرثّهُ الله علم مَا لم يعلم).
وعلامة ذلك هو تزايد العلم بالإشفاق، ومزيد العلم بالاقتدار، فكلما ازداد علمًا ازداد خوفًا، وكلما ازداد عملًا ازداد تواضعًا، والأصل الذي بنوا به في طريقهم التزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالصدق وتقديم العلم على حظوظ النفوس والاستغناء بالله عن جميع خلقه.
علامات الصدق
واعلم أن في كل فكرة أدبًا، وفي كل إشارة علمًا، وإنما يميز ذلك من فهم عن الله عز وجل مراده وجنى فوائد اليقين من خطابه، وعلامة ذلك في الصادق إذا نظر اعتبر، وإذا صمت تفكر، وإِذا تكلم ذكر، وإِذا منع صبر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي استرجع، وإذا جُهل عليه حلم، وإذا علم تواضع، وإذا علَّم رفق، وإذا سئل بذل.
شفاء للقاصد، وعون للمسترشد، حلِيف صدق، وكهف بر، قريب الرضا في حق نفسه، بعيد الهمة في حق الله تعالى، نيته أفضل من عمله، وعمله أبلغ من قوله، موطنه الحق، ومعقله الحياء، ومعلومه الورع، وشاهده الثقة، له بصائر من النور يبصر بها، وحقائق من العلم ينطق منها، ودلائل من اليقين يعبر عنها.
وإنما يواصل بذلك من جاهد لله تعالى نفسه، واستقامت لطاعته نيته، وخشي الله في سره وعلانيته، وقصر الأمل، وشمر مئزر الحذر، وأقلع برِيح النجاة في بحر الابتهال، فأوقاته غنيمة، وأحواله سليمة، لم يغتر بزخرف دار الغرور، ولم يله ببريق سراب نسيمها عن أهوال يوم النشور.
واعلم أن العاقل لما صح علمه وثبت يقينه علم أن لا ينجيه من ربه إلا الصدق، فسعى في طلبه، وبحث عن أخلاق أهله، رغبة في أن يحيا قبل مماته ليستعد لدار الخلود بعد وفاته، فباع نفسه وماله من ربه، حيث سمعه يقول: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة}، فعلم بعد الجهل، واستغنى بعد الفقر، وأنس بعد الوحشة، وقرب بعد البعد، واستراح بعد التعب، فائتلف أمره واجتمع همه، فشعاره الثقة، وحاله المراقبة.
ألا ترى لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (اعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك). يحسبه الجاهل، صميتًا عييًا، وحكمته أصمتته، ويحسبه الأحمق مهذارًا، والنصيحة لله أنطقته، ويحسبه غنيًا، والتعفف أغناه، ويحسبه فقيرًا والتواضع أدناه. لا يتعرض لما لا يعنيه، ولا يتكلف فوق ما يكفيه، ولا يأخذ ما ليس بمحتاج إليه، ولا يدع ما وكل بحفظه، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب، قد أمات بالورع حرصه، وحسم بالتقى طمعه، وأفنى بنور العلم شهواته.
فهكذا فكن، ولمثل هؤلَاء فاصحب، ولآثارهم فاتبع، وبأخلاقهم فتأدب، فهؤلاء الكنز المأمون.