الفاروق وهارون الرشيد: أشعار خلفاء الإسلام
لم يكتف كثير من الخلفاء والسلاطين بحب الشعر وترديد أبياته، بل أقرضوه للتعبير عما يجيش بصدورهم في لحظات الفرح والحزن، وفي التغزل بجواريهم وغلمانهم، وفي كثير من المواقف السياسية والحياتية التي مروا بها.
الخلفاء الراشدون وقرض الشعر
أحب الخلفاء الراشدون الشعر، ومنهم عمر بن الخطاب الذي كان كثيرًا ما يسأل وفود القبائل عن شعرائهم، وكانوا ينشدونه بعض أشعارهم، وقد ينشدها هو متعجبًا مستحسنًا، وقيل إنه ما قطع أمرًا إلا وتمثل ببيت من الشعر.
وبحسب سعاد علي عبدالماجد في دراستها «الملوك الشعراء في الأدب العربي»، فإن ابن الخطاب كان يقرض الشعر، وهناك أبيات كثيرة في مناسبات مختلفة نُسبت إليه، منها قوله حين أسلم:
وكان لعمر موقف مشهور يوم وفاة الرسول، وما روي عنه في رثائه، إذ قال:
أما عثمان بن عفان فكان له أبيات شهيرة، جُلها كان يدور حول الأمور الدينية والتحذير من مفاتن الدنيا، ومنها قوله:
ولم يترك علي بن أبي طالب قصائد طويلة، لأنه لم يكن خالي البال كبعض الشعراء لينطلق في قصائد طويلة فيها كثير من البناء المدروس والقوافي المنتقاة، فصاغ الشعر مرتجلًا في أكثره، كما كان يرتجل الحكم والخطب، بحسب الباحثة.
ورُوي أن عليًا بعد رجوعه من واقعة أحد، أعطى زوجه فاطمة سيفه، وقال «اغسلي عنه الدم، فوالله لقد صدقني اليوم» ثم قال هذه الأبيات:
وفي يوم «خيبر» أعطاه الرسولُ الراية، فقال:
وعندما تحدث عن نفسه قال:
الأمويون: رثاء وغزل ومجون
وفي عهد الدولة الأموية، أقرض عدد من الخلفاء كثيرًا من الأبيات في المناسبات المختلفة. ويذكر الدكتور يحيى وهيب الجبوري في كتابه «مجالس العلماء والأدباء والخلفاء مرآة للحضارة العربية والإسلامية»، أن معاوية بن أبي سفيان (15 ق هـ – 60هـ) كان يحب الشعر، ويتمثل بما يحفظه في كثير من المواقف، وروُي أنه كتب أبياتًا، منها ينصح فيها ابنه يزيد:
وفي إحدى المعارك مع شيعة علي بن أبي طالب، أشار عمرو بن العاص على «الحريث» مولى معاوية أن يبارز عليًا، فلما نازله قتل عليُ الحريثَ، وقال معاوية في ذلك:
وقال معاوية معاقبًا قريش:
وممن قال الشعر من الخلفاء الأمويين يزيد بن معاوية (26- 64هـ)، ثاني ملوك الدولة الأموية في الشام، وقد قرض الشعر وهو صغير مع عبدالرحمن بن حسان بن ثابت، وكان يحفظ أشعار القدماء والمعاصرين له، أما شعره فكان رقيق العاطفة، بحسب «عبدالماجد» في دراستها المذكورة.
وتروي، أنه قبل تولية يزيد الخلافة أتاه خبر مرض والده معاوية وهو بمنطقة حوارين في حمص، فأقبل إلى دمشق وقد دُفن أباه، فأتى قبره فصلى عليه، ودعا له، ثم أتى منزله فقال:
وبحسب الباحثة، هناك أشعار كثيرة منسوبة ليزيد، لكن داخلها الزيف والاضطراب، وأغلبها يدور حوال الخمر والنساء.
أما الوليد بن يزيد بن عبدالملك (88- 126هـ)، فكان مسرفًا في اللهو والمجون، لذا كتب شعره في الخمر والغزل والحب، وإن تطرق لموضوعات أخرى لكن ليس بنفس القدر.
ويُروى أنه لما عرف بخبر وفاة هشام بن عبدالملك سنة 125هـ، وصارت الخلافة إليه، قال:
كما يُروى أن الوليد نظر إلى أم حبيب بنت عبدالرحمن بن مصعب بن عبدالرحمن بن عوف، وقد مروا بين يديها بالشمع ليلًا، فلما رآها أعجبته، وراعه جمالها وحسنها، فسأل عنها، فقيل له: إن لها زوجًا، فأنشأ يقول:
وكان عبدالملك بن مروان (26 – 86هـ) له بصر بالشعر والشعراء، وله أحكام نقدية وموازنات بين الشعر والشعراء، وله كذلك شعر روته كتب الأدب. يروي «الجبوري» في كتابه المذكور، أنه في أحد الأيام بعث مصعب بن زبير كتابًا إلى عبدالملك يتهدده فيه ويتوعده، فرد عليه عبد الملك قائلًا:
ووقف عبدالملك يومًا على قبر معاوية بن سفيان، فأنشد:
وأرسل الحجاج بن يوسف الثقفي كتابًا إلى عبدالملك، يخبره فيه عن ثورة أهل العراق وفارس لواء ابن الأشعث، فقال عبدالملك:
وكتب عبد الملك إلى الحجاج لما وسّع العطاء على أهل الشام بعد وقعة عبدالرحمن بن الأشعث الذي قاد ثورة ضد الأمويين:
وقيل إنه أشعر وهو يحتضر:
العباسيون: شماتة في الأمويين ومدح الجواري والغلمان
وعلى النهج ذاته، سار عدد من الخلفاء العباسيين الذين لم يكونوا مجرد مستقبلين للشعر فقط، بل كانوا منتجين له، بمعنى أنهم لم يكتفوا بالاستماع إلى ما كان ينشده الشعراء عند وفودهم عليهم لمدحهم وأخذ جوائزهم، وإنما كانوا يقرضون الشعر في مناسبات معينة، حينما تفرض عليهم الظروف ذلك وتستدعي منهم بيتًا أو بيتين.
ويروي علي المصري في الجزء الثالث في كتابه «تاريخ ملوك العرب والشعراء»، أن أبي العباس السفاح (104- 136هـ) قضى على الدولة الأموية، وكان أول خلفاء الدولة العباسية، إذ بويع بالخلافة سنة 132هـ، ورغم ذلك كان أديبًا، وظهر في خطبه بلاغة واضحة، كما قال شعرا، منه ما ذكره عند قضائه على رجال الدولة الأموية:
وقال أيضًا:
أما أبو جعفر المنصور (95- 158هـ)، الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وثاني خلفائها، فقد كان بليغًا وخطيبًا، وكان يقرض الشعر، ومنه ما قاله عند قتل أبو مسلم الخرساني بين يديه، رغم الدور الكبير الذي لعبه في الدعوة العباسية، وذلك بسبب ما تنامى لسمع الخليفة من أن أبي مسلم ينوي الانقلاب على العباسيين، إذ قال:
وبحسب «المصري»، كان شعر محمد المهدي (126 – 169هـ)، ثالث الخلفاء العباسيين، أرق وألطف من شعر أبيه وأولاده بكثير، وكان أكثره في الغزل والافتنان بالجواري. ويُروى أنه كان له جارية شُغف بها، وهي كذلك، إلا أنها كانت تتحاماه كثيرًا، فدّس إليها من عرف ما في نفسها، فقالت: أخاف أن يملّني ويدعني فأموت، فقال المهدي في ذلك:
وفي شعره بجارية ملكت عليه دنياه وأصبح لا يطيق العيش دونها، واسمها «حَسنة»، قال:
ولم يختلف هارون الرشيد (149 –193هـ)، رابع الخلفاء العباسيين، عن والده المهدي، فأقرض شعرًا كثيرًا في جواريه وافتتن بهن، مثل قوله في ثلاث جوار له:
وعندما ماتت جاريته «هيلانة» رثاها بقوله:
ويقال إن الرشيد لما عقد البيعة لابنه الأمين قبل أخيه المأمون، وهو أصغر من المأمون، وكان ذلك لأجل أمه زبيدة بن جعفر وكلام أخيها عيسى بن جعفر بن المنصور، رأى الرشيد فضل عقل المأمون فندم على ذلك، وزعموا أنه قال في ذلك:
ولما اشتدت عِلة الرشيد قبل موته سنة 193هـ، صار إلى مدينة طوس وهوّن عليه الأطباء علته، فأرسل إلى طبيب فارسي كان هناك ماء مع قوارير شتى مختلفة، فلما انتهى إلى قارورة الرشيد وهو لا يعرفها، قال: «عرّفوا صاحب هذا الماء أنه هالك، فليوص، فإنه لا برء له من علته»، فعرف الرشيد بقول الطبيب فبكى بكاء شديدًا، وتمايل في فراشه وردد هذين البيتين:
أما محمد أبو عبدالله الهادي (170 – 199هـ) فقد دخل في نزاع على الخلافة مع أخيه عبدالله المأمون فيما يعرف بـ«فتنة الأمين والمأمون»، وانعكس ذلك في شعره، فعندما علم أن المأمون يعدد مثالبه ويفضل نفسه عليه ويعيره بأن أمه كانت جارية، قال:
وفي خادمه «كوثر» وقد سقاه وهو على بساط نرجس والبدر قد طلع، قال الأمين:
وقال أيضًا:
المأمون: قرض الشعر منذ الصغر
أما عبدالله المأمون (170 – 218هـ)، والذي استقل بالخلافة بعد قتل أخيه الأمين سنة 198هـ، فقد تفتحت موهبته الشعرية في حياة أبيه هارون الرشيد. ويروي «المصري»، أن الرشيد أراد سفرًا، فأمر الناس أن يتأهبوا لذلك، وأعلمهم أنه خارج بعد أسبوع، فمضى الأسبوع ولم يخرج، فاجتمعوا إلى المأمون فسألوه أن يستعلم ذلك، ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر، فكتب المأمون للرشيد يقول:
فقرأها الرشيد، وسُر بها.
ويروى أن جارية كانت تصب الماء على الرشيد من إبريقها، فأشار المأمون إليها بقبلة، فأعتقها الرشيد وأهداها إليه، وقال له بعدئذ، قل في ذلك شعرًا، فقال:
ويروي «المصري»، أن أحدًا حاول أن يفسد قلب المأمون على قائده عبدالله بن طاهر، فأرسل الخليفة بشخص ليستيقن من هذا الحديث، فجاءه يؤكد بما لا يرقى إليه الشك بولاء ابن طاهر إليه، فاستبشر المأمون وقال: «ذلك غرس يدي»، وكتب إلى عبدالله بن طاهر وهو بمصر يقول:
وبحسب «المصري»، كان المأمون خليفة مهاب الجانب، ويشعر بقوته وسيطرته، واستطاع أن يقضي على كل الثورات التي قامت ضده، وفي إحدى هذه الثورات كتب إليه عامله يستنجد به من خروج الأعراب وثروتهم ضده، فأجابه ببيتين من الشعر يطمأنه بهما ويهدد الثوار بالقضاء عليهم:
ويقال إنه لما حضرت الوفاة المأمون، جلست عند رأسه جارية كان بها شغوفًا، فأخذته غشية، فأخذت الجارية تبكيه، وأنشأت تقول:
فأفاق من غشيته، ونظر إليها، وأنشأ يقول:
ورغم أن الخليفة المعتصم بالله (178 – 228هـ) كان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة، فإنه كان يحب الشعر ويحفظه، بل قيل إن له شعرًا لا بأس به، ومنها أبيات كتبها في غلام له اسمه «عجيب» بعدما شغف به كثيرًا:
شعر في الغلمان وأثناء الاحتضار
ويذكر مصطفى البشير في كتابه «مجالس الأدب في قصور الخلفاء العباسيين»، أن الخليفة الواثق بالله (200- 232هـ) كان «مليح الشعر»، وتناول الموضوع نفسه الذي تركز حوله أشعار كثير من الخلفاء، وهو الغزل بالغلمان، إذ خص بالتغزل غلامه «مهج» الذي أهديه من مصر، وقال فيه كثيرًا من الأشعار، من ذلك أنه اصطبح يومًا فناوله خادمه «مهج» وردًا ونرجسًا فأنشد الواثق في ذلك لنفسه:
أما الخليفة المتوكل (205 – 247هـ) فرُويت له أشعار معظمها في جواريه، منها قوله في جاريته «قبيحة»:
أما المنتصر بالله (223 – 248هـ) فلم يعبر عما عبر عنه الخلفاء السابقون من الإكثار من ذكر الغلمان والجواري، لأن الرجل كان مشغولًا بهمومه، فقد قُتل أباه، وسيطر عليه الأتراك، مع ما كان يحاول من فرض شخصيته، والأخذ بزمام السلطة، وإقامة العدل، وقد عبر عن هذا كله في أشعاره، إذ قال في ما نُسب إليه في قتل أبيه:
ومن شعره الذي يُستشف منه أنينه من سيطرة الأتراك عليه وتحكمهم فيه، قوله:
ويذكر «البشير»، أن المستعين بالله (221 – 252هـ) كان يعمل شعرًا ركيكًا ضعيفًا، وكانت به لثغة تظهر أثناء كلامه وأثناء إنشاده الشعر، مما جعل ندماءه يسخرون منه، ويتندرون به، من ذلك قوله:
ويريد أن يقول:
وقيل إنه كان يأمر المغنين أن يغنوه بهذا الشعر وأشباهه، فيتضاحكون ويتغامزون عليه.
وكان المعتز بالله (232 – 255هـ) يقول الشعر رغم صغر سنه، وعندما بويع بالخلافة قال معبرًا عن فرحته:
ومن شعره في غلامه يونس بن بغا الذي أولع به ولعًا شديدًا قوله:
وكان المهتدي بالله (219 – 256هـ)، تقيًا ورعًا يروم الفتك بالأتراك وإبعادهم عن الخلافة، ودارت أشعاره حول هذا المعنى:
وبحسب «البشير»، كانت أشعار المعتمد على الله (229 – 279هـ) تتراوح بن الجودة والرداءة، ويبدو أنه كان يتفطن لمواضع الرداءة في شعره، فيبعث به إلى المغنين حتى تخفى ما به من عند التلحين، وكان كبار المغنين والمغنيات يتفطنون إلى ذلك. ومن أشعاره الرقيقة في الغزل:
وحينما غلب عليه أخوه الموفق بالله ونقله من مكان إلى مكان، قال:
وكان الخليفة المعتضد بالله (242 – 289هـ) شاعرًا أيضًا، ودرات أبياته حول الغزل بالجواري، ومنها رثائه لجارية توفيت وقال:
ولعل من أجمل شعره وأبلغه تأثيرًا في النفس بيات قالها أثناء احتضاره، التي تصور عز ملك مشرف على زوال:
وقرض المكتفي بالله (264 – 295هـ) أيضًا الشعر، ودارت حول الغزل، ومن ذلك قوله: