البردة: اختلف الشعراء والمعاناة واحدة
البُردة في اللغة: كساء مُخطَّط يلتحف به الإنسان [1]، وقد اشتهر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه يلّف بها جسده، بل وإن رأى مسلمًا عاريًا كان يأمر «بلال بن رباح» أن يأخذ بيد ذلك المسلم ويشتري له من مال النبي بُردة يُغطي بها جسده، وإن لم يكن لدى النبي ما يكفي من المال، اقترض من صاحب البضاعة البُردة وسجّلها على الرسول إلى أن يقضي له الدين المطلوب، لكن الأهم أن يستر جسد المسلم ولو تثاقلت على كاهله الشريف ديون الدنيا. [2]
وبعد أن دانت للنبي الأعظم (صلى الله عليه وسلم) شبه الجزيرة بقبائلها، كان أن أتاه «كعب بن زهير»، والذي عُرِف بهجائه المرير للنبي وأصحابه، ولمّا امتثل بين يدي النبي أنشد قصيدة لم يكن يعرف هو نفسه –كعب- أنها ستكون علامة فاصلة في تاريخ الأدب العربي، بل وأنها ستخلق في المُستقبل فنًا تتوارثه وتُنشده الأجيال وقت الضيق والكرب، وقد جاءت في ستين بيتًا، ومطلعها الغزل، إذ قال أمام حضرة النبي (صلى الله عليه وسلم):
فكان في أول ثلاثين بيتًا من القصيدة يذكر حبيبته سُعاد وفراقها، ورحيلها عنه، كاستمرار لوتيرة الشعر العربي الذي يبدأ بالبكاء على الأطلال، فيقول: إن قلبه ما زال– رغم الفراق- متبول، والتبل هو شدة الحب، والذي قد يصل بالإنسان لحد أن يذهب عقله فيمن يحب. ولمّا انتهى «كعب» من إنشاد قصيدته التي ذكر النبي فيها في آخر عشرة أبيات، خلع النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) بردته وأهداها لكعب، كنايةً عن أن كعب صار من أصحاب النبي، بل وأنه في مأمن بينهم، وأنه ما زال- كما هو- صاحب عز وشرف بين المُسلمين، ولهذا سُميت القصيدة «البردة»، إشارة لتلك القصة.
وبعد ما يقرب من 600 عام، خرج من مصر شيخ يُدعى «محمد بن سعيد البوصيري»، والذي انتهج طريقة مدح «كعب» للنبي، وبعد «البوصيري» بنحو 600 عام حضر أمير الشعراء «أحمد شوقي» لينتهج نفس الأسلوب في مدح النبي الأعظم. وفي عصرنا الحالي، وتحديدًا عام 2010، جاء الشاعر الفلسطيني المصري «تميم البرغوثي» بنسخة جديدة من هذا الفن، «فن البردة».
المُعاناة سببٌ للفن
قد تختلف الأسباب بين الثلاثة– البوصيري وشوقي والبرغوثي- إلا أن هناك سببًا واحدًا قد جمع بينهم، وهو عامل الغربة، فثلاثتهم عاشوا حياة المُغترب المنفي– فعلًا لا كناية- ابتداءً بالصوفي «البوصيري»، وانتهاءً بالسياسي «البرغوثي»، فقد لعبت الغربة دورها الأكبر في تشكيل نواة ذلك الفن، فقد عانقتهم كل الأسباب الرومانسية التي جعلت من كل واحد فيهم يحن إلى الرسول كأنه وطن وملاذ له في منفاه، وقد يكون ذلك لتشابه المعاناة نفسها مع معاناة النبي، والذي كان غريبًا مطرودًا، عاش كأنه في المنفى، ودُفن بعيدًا عن وطنه الأول «مكة»، ولذلك أوجد التشابه نفسه بين المادحين الثلاثة والممدوح الأعظم.
وقد يكون هناك سبب آخر، وهو أساس للسبب الأول؛ عامل الاستعمار، فقد شهد البوصيري بأم عينيه وعلى مسمع من أُذنيه ما حل بالشام على أيدي الصليبيين الغاشمين، وقد عاش «شوقي» احتلال مصر من قِبل المستعمر الأبيض الأوروبي، وأبصر «البرغوثي» بلاده يعيث فيها الصهيوني فسادًا، ورأى مخيمات «صبرا وشاتيلا» تدب فيها النيران، لتُطفِئها دماء الأطفال، وسط عالم لا يُحقِّق أي معنى من معاني العدالة.
بين التشابه والاختلاف
لكن، رغم التشابه بين القصائد الثلاث، فإن هناك عدة اختلافات، فكما ذكرنا: أن الثلاثة جمعهم سبب واحد أو سببان، إلا أن الأسلوب ليس بواحد، فقد اختلف كل من البوصيري وشوقي وتميم في عدة مواضع، وانتهج الأخيران نهج الأول في مواضع أُخرى، إلا أن الفكرة العامة واحدة، وقد نُحدد بعضًا من ذلك في عدة نقاط:
أولاً: الغزل
كما بدأ كعب قصيدته بالغزل، بدأها البوصيري كذلك، ذاكرًا ديار الحبيب، وهي في مكان بالقرب من مكة، فيقول:
إلى أن يشكو من شدة الغرام قائلًا:
ويُعلل للعُذال– وهم كثيرو اللوم- ذلك بأن القلب إن ذكر الحبيب لا يَكُف عن الهيام، والعين من الفراق لا تكف عن الدمع، لينتهي بهم أنهم وإن أطالوا في لومه وتوبيخه فهو في عالم آخر، أو بالأحرى ملكوت آخر، لا يسمعهم أو يراهم من خلاله:
وعلى ذات النهج يسري شوقي بقلمه، ليبدأ قائلًا:
ويسترسل شوقي مُشبهًا نظرات الحبيب كما السهم المُريق لدمه، فيقول عن جرح الحبيب أنه ليس بذي ألم:
وعلى نفس الوتيرة يفتتح تميم مُناشدته الطويلة شاكيًا من الغرام وفراق الأحبة، الذي وإن طال فراقهم إلا أنهم من القلب أقرب من أي قريب، فالأحبة تملكوا من تميم تلافيف روحه وجسده، فصار رهينَ ذكرهم:
إلا أن الفرق أن أحبة تميم ليسوا كأحبة صاحبيه، فتميم منذ مطلع القصيدة عرَّف لنا أحبته بأنهم النبي وأصحابه والشهداء والمُرابطين في بيت المقدس.
ويُوجِّه كل من الثلاثة عتابه للعُذّال قائلين: إن الحب ليس بيدهم. وقد اختلف كل منهم في تصنيف السبب، فالبوصيري قال:
بينما علّل شوقي أن الحب قدرٌ:
أما تميم بصيغة وقافية أُخرى:
واللدد هو شدة الخصومة.
ثانيًا: التحذير من هوى النفس
لقد تناسق الثلاثة في التحذير من الانجراف وراء النفس، حيث إنها قد تُلقي بصاحبها في التهلكة، فالبوصيري عاتب النفس مُذكَّرًا إياها بذلك الضيف الذي زار رأسه وهو الشيب، فيقول:
كذلك شوقي حاك بُردته بنفس تلك التفاصيل، فيقول ناصحًا للنفس أن تحذر من أخاديع الدنيا:
ثم تميم والذي ينصح نفسه– على طريقة شوقي- قائلًا:
ثالثًا: انشقاق تميم في مدحه عن الوليين
فمن يُقارن بين قصيدة تميم وقصيدة البوصيري وشوقي، يرى أن تميم اتفق واختلف في مواضع عدة، فأول الاتفاق؛ هي الفكرة العامة لدى القصيدة، في مدح النبي. أمّا الاختلاف؛ فمنه العائد إلى المضمون، ومنه إلى الأسلوب. أمّا المضمون: فتميم لم يلتفت إلى المعجزات كما فعل السابقان، مُعللًا أن ما يلتفت إليه ذلك الثمن الذي دفعه النبي لبناء تلك الأمة وتعبه وجهده لقيام أركانها:
كأن تميم أراد عقلنة القصيدة، وإلباسها لباسًا عصريًا يليق بكل الأجناس والعصور. وأمّا عن الأسلوب: فقد اختلف تميم في قوافي الأبيات عن صاحبيه، فالبوصيري حين بدأ القصيدة جعل القافية هي الميم المكسورة، والميم أول حرف من اسم النبي محمد، وأما الكسرة، فهي بالأحرى حال الأمة وقتذاك، ثم جاء تميم وجعلها بالدال المفتوحة، والدال آخر حرف من اسم النبي محمد، والفتحة –بحسب رأيي- لاستحضار الأمل يومًا ما، بدليل اختتام تميم للقصيدة بقوله:
وقد علّلّ تميم الاختلاف والاتفاق مع صاحبيه قائلًا:
فلسان حال تميم يقول: إنه اتبع صاحبيه لنفس السبب الذي أشرنا إليه فيما أعلاه، حيث التحنان أي الحنين الشديد، سواء كان للوطن أو للنبي ذاته، وأمّا الاختلاف لم يكن إلا ليُعرف، عملاً بقول «خالف تُعرَف»، وحتى تُحفظ القصيدة بدم جديد كان على تميم أن يسعى للاختلاف.
رابعًا: عدد الأبيات
اختلف الثلاثة في عدد الأبيات، وكل منهم زاد في أبيات المُعارضة خاصته، ليس لإظهار التفوق الشعري، أو كتحية من اللاحق إلى السابق، وإنما القصيدة أساسها نداء استغاثة، وكلما مرت السنون طال ذلك النداء وامتدت أوتاره وخيوطه التي تُحاك منه البُردة، فالبوصيري كان نداؤه من 160 بيتًا، أما شوقي فمن 190 بيتًا وأما تميم في عصرنا زاد على شوقي بعشرة أبيات فقط، كأنه يُبلغنا أن الحال منذ عهد شوقي إلى يوم الناس هذا لم يتغير.
الخاتمة
البُردة كما البناء العاجي، وضع أساسه رجلٌ كان من ألد خصوم النبي، وحين ضاقت عليه الأرض، وانقطعت كل السبل، لجأ إلى النبي ذاته، ثم أقام قواعدها شيخٌ كهلٌ أتى من صعيد مصر، رأى الشام مخضبة بالدماء، وحين ضاقت الأرض وانقطعت السُبل، لجأ فورًا إلى النبي، ثم أقام أعمدتها شاعر من مصر ذو أصل كردي، رأى المستعمرَ الأبيض يتحنن بدماء الأبرياء في كل مكان، فلم يجد بُدًا إلا اللجوء أيضًا إلى النبي، ثم أقام سقفها وأطال أمدها رجلٌ عاش منفيًا عن وطنه، لم يره إلا من خلال قصص أمه، وحكايات أبيه، ولمّا رأى الأطفال يُقتلون، والمساجد تُدك من الطائرات، لم يجد له ملاذًا إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
كذلك نحن القارئين والمستمعين، ليس لنا ملاذًا إلا باستنهاض ذكرى النبي، وقد صدق تميم حين قال:
- أحمد الزيات وآخرون، المُعجم الوسيط، دار الدعوة، القاهرة، الجزء الأول، صـ 48.
- أبو القاسم الطبراني، المعجم الأوسط، تحقيق طارق بن عوض وعبد المحسن إبراهيم، دار الحرمين، القاهرة، الجزء الأول، صـ 147.