إن فيلم «العزيمة» يعرض مضموناً فكرياً يشغل قطاعاً هاماً من قطاعات المجتمع، ويعتبر هذا الفيلم أحد الأفلام الرائدة في تاريخ السينما العالمية، الذي يشير لظهور المذهب الذي عرف بعد ذلك في إيطاليا باسم “الواقعية الجديدة”، لقد وقفت السينما المصرية بهذا الفيلم على أرض صلبة ودخلت به مجال التعبير الواقعي في مجال الفن والفكر

بهذه الكلمات عبر الناقد والباحث السينمائي الشهير «جورج سادول» حينما شاهد فيلم «العزيمة» في عام 1965 ضمن تحليله ودراسته للسينما العالمية وكيفية تطورها.

والبحث المبدئي عن الفيلم يُشير إلى عدة حقائق هامة فالفيلم من إنتاج عام 1939 ومُصنف على رأس قائمة أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، كذلك فقد كان الفيلم الوحيد الذي أدرجه «جورج سادول» ضمن موسوعته عن تاريخ صناعة السينما في العالم، وصنفه ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما، وهو في ذلك الشأن الفيلم العربي الوحيد.

وقد نشرت مجلة الهلال قائمة سادول في عام 1967 تحت عنوان «الروائع المائة للسينما العالمية». ويمكن القول إن فيلم «العزيمة» تحول إلى أيقونة مجتمعية مما جعل الشاعر الكبير «فؤاد حداد» فى إحدى قصائده يقول:

النهار روحه سليمة والمسا مسرح وسيما ويا فاطمة في العزيمة قولي سي محمد كمان يا أمل دق البيبان يا جديد اظهر وبان

ومن خلال السطور القادمة نسعى لمعرفة كيف تحول هذا الفيلم الثلاثيني إلى أن يُصبح على رأس قائمة الأبرز في تاريخ السينما المصرية.


القصة والسيناريو والحوار

قام «كمال سليم» بكتابة الصيغة الأولى من الفيلم والتي حملت اسم «في الحارة» عام 1932، كما قام «وديع خيري» بصياغة الحوار، ويذكر «جان ألكسان» في كتابه «تاريخ السينما في الوطن العربي» أن المسئولين باستوديو مصر رفضوا الاسم الأصلي «في الحارة» فاضطر كمال سليم إلى تغييره إلى «العزيمة».

ويمكن القول إن سيناريو فيلم العزيمة يحمل الكثير من أسباب ريادته، فقد خرج تصميم سيناريو الفيلم عن كل ما هو سائد مُتّبع في صناعة السيناريو، مُقدما صوراً جديدة غير معهودة، فتناول الطبقات الفقيرة والمُعدمة وعلاقاتها بالوسط المحيط وصراعاتها مع الأوفر حظًا، على نقيض الأفلام في ذلك الحين والتي تناولت قصص الصعود من زاوية مُعاكسة، فكان محور الأحداث دائمًا القصر والسراية والباشا والعلاقات ولكن العزيمة تناولها من منظور الحارة المصرية عاكسًا الهرم السائد جاعلًا الباشا والقصر مجرد أدوات ثانوية على الخط الأصلي للأحداث. ولرسم صورة أعمق لفهم سيناريو الثلاثينيات يمكن الإشارة إلى قول الراحل أحمد بدرخان في مجلة الصباح 1932:

إن القصة السينمائية (السيناريو) التي تدور في أوساط وضيعة كأوساط العمال والفلاحين يكون نجاحها محدودًا، لأن السينما قبل كل شيء مبنية على المناظر، والطبقة المتوسطة -السواد الأعظم من رواد السينما
لا تحب أن ترى العالم الذي تعيش فيه، بل على العكس تطمح إلى رؤية الأوساط التي تجهلها. السيناريو المتقن يتكون من قصة حب، تدور خلال مدة قصيرة، حول ثلاثة أو أربعة أشخاص، في بلد جميل المناظر أو في منازل بديعة، ويتخلل القصة عقبات سواء أكانت طبيعية أو طارئة

ومن ثمّ نلاحظ الوصفة الفنية المُتبعة آنذاك. والمهتم بأفلام تلك الفترة التاريخية يكاد يُلاحظ تطابقا مدهشا لوصف بدرخان على صناعة السينما في مصر كما في أعمال مثل «الوردة البيضاء».

الملاحظة الثانية، في هذا الشأن تكمن في درجة عالية من الإحكام في حبكة القصة وتعقيدها فيدور حول أكثر من مستوى، إذ نلاحظ تداخل العديد من الدوائر الاجتماعية والثقافية والسياسية في الأحداث.

فالخط الأساسي للأحداث يتناول قصة حب بين شاب وفتاة في حي شعبي، فنجد صراعا أوّليا داخل الحارة نفسها بين البطل و«المعلم العتر»، فضلًا عن اصطدام البطل بطبقة النبلاء الممثلة في صديقه ابن الباشا، بالإضافة إلى صراع البطل مع الظروف الاجتماعية المتمثلة في البيروقراطية والفساد والمحسوبية، وكل هذا يدور في إطار مركب من الظروف الاقتصادية العامة للدولة التي تقع تحت طائلة الاحتلال وفي ظروف الحرب العالمية الثانية.

كذلك فقد عمد «سليم» إلى إضفاء أبعاد نفسية لأبطال عمله في لافتة لم تكن متداولة، فدائما ما يسير الخير والشر على خطوط متوازية لا تتقابل، ومن ثمّ فإن بطل العمل هو شخص مثالي ملائكي يتمتع بكافة الصفات البطولية والأخلاقية أو العكس. وهو ما تفاداه سليم ببراعة فائقة.

فأبطال العمل أشخاص متعددو الأبعاد تتأثر بالظروف والملابسات القائمة في الواقع، فلم تكن شخصية البطل ملائكية إلى درجة فلسفية يصعب تصديقها، فعلى الرغم من كونه حسن الصفات إلا أن ذلك لم يمنعه من إظهار درجة من التعالي بهدف الانتقام لكرامته المهدرة في تعامله مع فاطمة والتي جاءت مترجية في مكتبه الجديد، الأمر الذي لامه عليه صديقه موجها لومه بأنه كان «شخص تاني غير اللي عرفه طول عمره».

كذلك شخصية فاطمة المحبة ظهرت بها تعقيدات بسيطة ومنطقية حال رفضها لزوجها في بدلته الصفراء التي رأت أنها انتقاص من شأنها على الرغم من حبها له كذلك الشخصيات المتعالية لم تكن في حالة فجة من الاستهتار كما كان سائدًا في كثير من أفلام الأربعينيات على سبيل المثال مثال شخصية أنور وجدي صديق البطل.


الإخراج

نجح المخرج كمال سليم في خلق صور فنية مميزة وغير معهودة للحارة المصرية فقد نجح سليم في رسم صور بديعة للحارة المصرية من خلال الديكور، دون الاستعانة بالمشاهد الحية الأمر الذي يُضفي صعوبة بالغة في تقديم صورة واقعية وحقيقية بهذا الشكل.

ولكن المميز في الصورة ليس فقط مجرد المحاكاة الشكلية للحارة المصرية، وإنما نجاح المخرج في تقديم صور بصرية وسمعية جديدة للحارة، فنجد الأجواء الرمضانية، والأذان، والسحور، ولعب الأطفال في الشوارع، ونداء الباعة المتجولين، أصوات فرق الإنشاد، وسعي المسحراتي، والاحتفال بالمولد، كلها صور نابضة بالحياة لا تستشعر فيها الأداء التمثيلي وكأنها اقتطعت من أجواء حية بالفعل.

كذلك سعى سليم للاستقصاء العكسي للمعاني من مشاهد العمل الأمر الذي ظهر بشكل أقرب للكوميديا السوداء والتي ستسود غالبية تيماتها في السينما لاحقا فعلى سبيل المثال نجد مشهد العزاء، فنتيجة للديون يتم تحديد موعد للحجز على ممتلكات والد «محمد» لاستيفاء آجال سداد الديون، وفي الخلفية موسيقى جنائزية فيلتفت محمد للجنازة وإذا بـ«روحي» يهرول ليعطي محمد أجر الجنازة ليقوم بالسداد وإيقاف الحجز قائلًا جملته الشهيرة «يا قوي على كل قوي، يا كاشف ستر الأعادي، يا فارسهم بقوتك يارب. اللي دبرها في الحجز يدبرها في الوظيفة والنبي لتفرج»، وهكذا من دون ابتذال تظهر مشاعر الأمل والحياة من رحم الموت.

في مفارقة كوميدية أخرى لمشهد يختصر أزمة الواسطة في العمل حينما يتحدث الباشا مع مسئول بشركة المقاولات الكبرى والتي حاول محمد التقدم للعمل فيها مرارا، بينما ينهره السكرتير- بشكل فج لتكرار زيارته وطلباته المتكررة بالتوظيف في الشركة- قائلا: «نعم … أظن التوشيح إياه بتاع كل يوم … مش كده … مفيش وظايف مفيش هباب مفيش قطران» ثم يستطرد؛ «يا ناس اختشوا على دمكم روقونا سيبونا نشوف أشغالنا». وعندما يصطدم بكون محمد قادم بتوصية من «نزيه باشا» فتتغير نبرته تمامًا، والملاحظ أن تلك التيمة ستكرر كثيرًا فيما بعد في السينما، فلربما استقى منها أنور وجدي فكرة مشهده الشهير في «غزل البنات» عندما يخطئ الأستاذ في معرفة الباشا.

وكذلك يُلاحظ أن سليم ابتعد عن النمط السائد في سينما الثلاثينيات من حيث الاعتماد على الغناء وفي هذا الشأن نلحظ ما قاله سادول كان «العزيمة» حدثاً خطيراً في السينما المصرية التي كانت تهيمن عليها الأفلام الغنائية والمسليات السمجة والمغامرات الغريبة الوهمية والميلودرامات المبكية، لأنه أظهر الواقع اليومي والحياة الشعبية بصدق وشاعرية، وتذوق الجمهور هذا التجديد وقدّره تقديراً كبيراً، خلافاً لما كان متوقعاً.

ولعل من أبرز صعوبات الفيلم اعتماد سليم على فتوات حقيقيين في مشهد الخناقة كما جاء على لسان الباحثة ناهد صلاح في كتابها الفتوة في السينما المصرية، وتكمن الصعوبة على حد وصف سليم في عدم اقتناعهم بفكرة التمثيل وخضوعهم للتوجيه وتقبل الضرب. وكتب سليم:


التكاليف والإنتاج

إن ما ينشده المخرج هو الطبيعية، إلا أن هذه كثيرا ما تفسد عليه الترتيب الذي رسمه، لصعوبة التوفيق بين طبيعية الضرب، وبين تكوين المنظر. وقد اضطررت من أجل ذلك إلى إعادة المنظر مرات، وكنت أتحايل على الأمر بأن أصورهم أثناء البروفات دون علمهم، حتى أستطيع إخراج المنظر وفق رغبتي، لكن الفتوات الذين ظهروا في منظر المولد كانوا يتباهون بقوتهم وعضلاتهم المفتولة، وكان من الصعب إقناع بعضهم بوجوب الانهزام، كما يتطلب المنظر، واستغرق تصوير المنظر ثلاثة أيام متتالية من السادسة مساء إلى السابعة صباحا، وكان الوقت شتاء والبرد قارسا، والمنظر خارجيا.

العديد من الصعوبات التي واجهت الفيلم كانت بالأساس صعوبات إنتاجية بداية من الاعتراض على اسم الفيلم الأصلي «في الحارة»، مروًرا باعتراض العاملين باستوديو مصر -وغالبيتهم من الألمان – على الفيلم وعلى رأسهم المخرج «فريتز كرامب» والذي كان يعمل خبيرا فنيا بالاستوديو. وجاء رفض الفيلم بحجة أنه لن يحقق أي مكاسب مالية ومن ثم سيؤدي إلى خسائر عدة نظرًا لمحتواه، فاعتذر مدير الصوت وكذلك التصوير فاستعان سليم بالمصور المجري «فاركاش».

وعن التكاليف الإنتاجية يذكر الكاتب الصحفى «محمد السيد شوشة» فى كتابه «فيلم العزيمة» أن تكاليف إنتاج الفيلم بلغت 9000 جنيه، وتقاضت «فاطمة رشدي»، نجمة الشباك الأولى آنذاك، 160 جنيهًا في سابقة لم تحدث لأي نجمة في هذا الزمن، وتقاضى «حسين صدقي» 80 جنيهًا، وكان العرض الأول بدار سينما ستوديو مصر في نوفمبر/تشرين الثاني 1939. وكانت المفاجأة أن توزيعه حقق ربع مليون جنيه في سابقة لم تحدث، حيث استمر عرضه لمدة 38 أسبوعًا.

وختاما يمكن القول إن أحد العوامل الهامة في تقييم فيلم العزيمة هي صلاحيته لإعادة الإنتاج في الوقت الحالي حيث يكاد المُشاهد لا يلحظ تأثير الزمن على الأحداث كما يعد صالحًا في أحداثه وحبكته للتقديم من جديد.