الأرجوزة: التاريخ المنظوم
الشعر ديوان العرب، وجزء من هويتهم، فهو الكلام الموزون المقفى، الذي شهد عناية العرب قبل الإسلام وبعده، وتنوعت بحوره ومنها بحر الرجز.
والرجز عُرف بأنه أسهل بحور الشعر، وفيه الشاعر يصف الوقائع ويذكر الحكم والأمثال، دون أي إثارة للعواطف، ولذلك اختاره العلماء ومصنفو الكتب في وضع المتون العلمية، ولهذا يقول طه حسين في كتابه «أدبنا الحديث ما له وما عليه»، إذا كان الشعر العربي متن اللغة فيمكن أن يقال إن الرجز كنز اللغة العربية.
الأراجيز وثيقة تنافسية
مع اتساع رقعة الدول الإسلامية ظهر ما يعرف بالأراجيز العلمية كوسيلة سهلة وبسيطة لنشر المعرفة، والتي نظمها العلماء على بحر الرجز، ونال هذه النوع من التدوين اهتمامًا شديدًا في العالم الإسلامي، رغم أن كتابها أدباء بالدرجة الأولى وليسوا مؤرخين محترفين.
ولم يبقَ فن أو علم من العلوم إلا وتم تدوينه على نسق الرجز، كعلم القراءات والنحو وتفسير القرآن الكريم والحديث والأنساب وغيرها من العلوم التي برع فيها العرب، كما اهتم مؤلفو الأراجيز بالتدوين عن التاريخ.
وقد بدأ تدوين الأراجيز التاريخية مع بداية القرن الثالث الهجري وظل حتى القرن العاشر، حسبما ذكر يوسف السناري في كتابه «أرجوزة في تاريخ الخلفاء»، هذا بخلاف الأراجيز التي كُتبت في دولة الأندلس، والهدف من هذه الأراجيز عرض تاريخ الأمة الإسلامية، بشكل موثق يجعلها مصدرًا من مصادر التاريخ الإسلامي.
بكر الكنانية وخزاعة
أقدم أرجوزة في الإسلام كانت لعمرو بن سالم الخزاعي، الذي ذهب إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) طالبًا دعمه لاعتداء قبيلة بكر الكنانية على خزاعة، ونقضها صلح الحديبية، فقال:
ووصف في أرجوزته حوادث القتل التي تعرضت لها قبيلته، ومكان الحادث، فقال:
كما لم يخلُ العصر الأموي من بعض هذه الأراجيز، لكنها تناولت الصراعات المذهبية في ذلك الوقت، لذلك تظل البداية الحقيقية للأراجيز التاريخية في العهد الأموي.
ابن الجهم: يمدح آل البيت
في 333 بيتًا كتب علي بن الجهم (ت 249هـ) ما عُرف بالأرجوزة في تاريخ الخلفاء، وفيها ذكر الأحداث منذ بدء الخلق والأنبياء والخلفاء حتى عهد الخليفة العباسي المستعين بالله (248-252هـ).
واستطاع أن يوجز قصة خلق آدم وحواء وما كان منها مع إبليس، ثم ذكر الأنبياء وأعمارهم وما حدث لهم من أحداث ومعجزات، في عدد محدود من الأبيات، بشكل سلس وشيق للقارئ.
وحكى في قصيدته سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بشكر مختصر، وكيف عرف العرب بداية التأريخ، فقال:
ومن أهم ما في قصيدة ابن الجهم مدحه لعلي (كرم الله وجهه) وذمه من قتل ابنه الحسين، أما عن الأولى فقال:
وفيه ذكر فترة خلافته، وأنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، ثم ذكر تولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة (رضي الله عنه) وبداية عهد الدولة الأموية، ثم ابنه يزيد وما كان منه في حق الحسين، فقال:
أما عن البيت العباسي فقد امتدحه، قائلًا:
ابن عبد ربه: يسجل انتصارات عبد الرحمن الناصر بالأندلس
دوَّن أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه (ت 328هـ) في الجزء الخامس من كتابه العقد الفريد المكون من ثمانية أجزاء، سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين، وأخبار دولة بني أمية وبعضًا من أخبار الدولة العباسية، ثم تناول قيام الدولة الأموية بالأندلس، وأفرد أرجوزة كاملة عن أمير الأندلس عبد الرحمن بن محمد، وتناول فترات حكمه سنة تلو الأخرى، راصدًا جهوده في إعادة توحيد الأندلس، وهي مكونة من 441 بيتًا، وافتتحها قائلًا:
أما عن أول حروب عبد الرحمن المعروفة بغزوة المنتلون، وافتتح فيها سبعين حصنًا فقال:
وعلى هذا النهج باقي الأرجوزة تصف المعارك والحروب وحال الناصر فيها وما حدث له.
أرجوزة الشقري: يحكى عن صعود الأندلس وهبوطها
خلال القرن الخامس الهجري كتب أبو طالب عبد الجبار الشقري، المعروف بمتنبي الأندلس، أرجوزة بدأها بمدح الله والثناء عليه، ثم ذكر بعض فنون العلوم، ثم ذكر الأنبياء على الإجمال، ثم تحدث عن الخلفاء الراشدين، ثم ذكر دولة بني العباس وما كان فيها، ثم أنهى قصيدته بما كان من عبد الرحمن الداخل في الأندلس وما آلت إليه من بعده، وأخيرًا دولة الموحدين.
وذكر ما كان في الأندلس من صراع قبل أن يدخلها عبد الرحمن بن معاوية (صقر قريش)، فقال:
كما امتدح الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، موضحًا قوته وحفظه لدولة الأندلس، فقال:
ومضى يصف في أرجوزته ما كان من حوادث الاضطراب في دولة الأندلس، فقال:
وعن نهاية دولة ملوك الطوائف وبداية دولة المرابطين وما فيها قال:
الصفدي: دمشق التي لا نعرفها
أما صلاح الدين الصفدي (ت 764 هـ) فقد نظم أرجوزة عن التاريخ السياسي لمدينة دمشق، وترجم فيها لكل من حكم دمشق منذ الفتح الإسلامي، مرورًا بالخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، ثم الطولونيين والفاطميين والقرامطة والحمدانيين والسلاجقة والنوريين والأيوبيين والمماليك حتى ولاية المارداني عام 760هـ.
أيضًا تناول الحياة الاجتماعية في دمشق وفضائلها، ووصف مبانيها وشوارعها وأسواقها، فقال:
ومن أجمل ما في الأرجوزة أنه ربط بين أنهار دمشق ونهر النيل في مصر فقال:
ومضى يحكي في أرجوزته عن دمشق في عهد الخلفاء الراشدين وبني أمية، ولم يغفل عن هدم الحجاج للكعبة في عهد عبد الملك بن مروان الأموي فقال:
ثم استرسل في ذكر ملوك وأمراء دمشق والحوادث التي شهدتها في عهدهم.
الباعوني: يختصر تاريخ مصر الإسلامية
في نحو ألف بيت عرض محمد بن أحمد بن ناصر شمس الدين الباعوني (ت 870 هـ) في أرجوزته المعروفة بـ «تحفة الظرفا في تاريخ الملوك والخلفا» تاريخ مصر الإسلامية ذاكرًا أسماء من تولى حكم مصر منذ الفتح الإسلامي حتى عهد الأشرف برسباي، مع ذكر أهم الأحداث في عهد كل منهم.
وأوضح أهمية قراءة التاريخ بعد الحمد والثناء على الله، فقال:
وأشاد في منظومته بدولة المماليك ومحاربتها للتتار فقال:
كما استعرض حالة الصراع على الملك في عهد دولة المماليك فقال:
وعلى هذا النسق ظهر العديد من الأراجيز التاريخية، سواء في المشرق أو المغرب الإسلامي، مثل أرجوزة ابن الحكم البكري المعروف بالغزال (ت 250 هـ) وابن المعتز (ت 296 هـ) الملزوي المغربي (ت 697 هـ) ولسان الدين الخطيب (ت 776 هـ) والسيوطي (ت 911 هـ)، وغيرهم الكثير الذين أجادوا في تدوين التاريخ في قالب شعري شيق جذاب ممتع للقارئ.
- أرجوزة في تاريخ الخلفاء تحقيق يوسف السناري