أكرم الحوراني: العسكر هم جوهر التاريخ
لم تكن الأفكار التي تبناها «أكرم الحوراني» تختلف كثيرًا عما كتبه هيكل لـ «جمال عبد الناصر» في «فلسفة الثورة». كان «أكرم بك»، كما يدعوه أصدقاؤه، مؤمنًا تمامًا بتخلف مؤسسات المجتمع التقليدي وعدم قدرتها على إنجاز مشاريع الاستقلال والتحديث في المجتمعات العربية، المؤسسة الوحيدة التي نالها قدر من التحديث هي جيوش ما بعد الاستقلال، و التي تم تأسيسها أساسًا لحفظ الأمن الداخلي. بالتالي، فلا سبيل للقضاء على قوى المجتمع التقليدي التي تقف كحجر عثرة في طريق التحديث والتحرر الوطني سوى الاستعانة بالمؤسسة الوحيدة التي نالها قدر من التحديث؛ الجيش.
لم تكن فكرة الاستعانة بالجيش كفاعل سياسي بعيدة عن المناخ السياسي السائد خلال عقد الثلاثينيات، الذي شكل وعي الثوريين العرب الشباب وقتها، ومن ضمنهم أكرم الحوراني. كانت هناك حالة يأس عامة من السياسيين القدامى والأساليب القديمة في النضال الوطني التي وصلت لطريق مسدود. كان هناك حالة إعجاب بالتنظيمات العسكرية وعمليات التحديث والإصلاح من خلالها. كانت الأحزاب النازية والفاشية وما أنجزته خلال فترة قصيرة مثلاً أعلى للشباب الثوري العربي وقتها، ثم جاء عام النكبة 1948م؛ لتزيدهم يقينًا أن معارك التحرر الوطني لا يمكن خوضها أبدًا في إطار نزاع قانوني أو مرافعة أمام المجتمع الدولي. قيام الدول اليهودية ترك في النفوس مرارة و غضبًا لم تتركها عقود من الاستعمار المباشر.
ينحدر الحوراني الذي ولد في عام 1911م من أسرة حموية، كان والده تاجرًا للأقمشة و مالكًا صغيرًا للأراضي. تعرّض أكرم الحوراني لهزة نفسية كبيرة عندما فقد والده أرضه؛ مما فتح عينيه مبكرًا على مظالم الإقطاع التي يتعرض لها الفلاحون في حماه، فانخرط في حركة مقاومة محلية للعائلات الإقطاعية في حماه.
درس المرحلة الثانوية في مدرسة مكتب عنبر بدمشق، والتي تخرّج منها عدد من الشخصيات الوطنية السورية. خلال تلك الفترة قاد الحوراني المظاهرات الطلابية ضد الاحتلال الفرنسي، درس الطب لمدة عام في الجامعة اليسوعية ببيروت ثم ترك الجامعة ليتابع دراسته للحقوق في معهد الحقوق بجامعة دمشق. التحق في شبابه بـ «الحزب القومي السوري الاجتماعي» عام 1936م، بعد ثلاثة أعوام وعلى إثر خلافات مع قيادة الحزب حول مسألة العروبة فُصل من الحزب. كان يتطلع، في صغره، أن يكون ضابطًا في الجيش، هكذا ذكر أكرم الحوراني في مذكراته.
بدأت علاقة «أكرم الحوراني» بالجيش عام 1941م، حينما جمع حوله مجموعة من الضباط الشباب للقتال في صفوف ثورة «رشيد عالي الكيلاني» ضد حكم الهاشميين المتحالفين مع الإنجليز في العراق. في عام 1944م بعد تصاعد التوتر مع فرنسا، انضم أكرم الحوراني لمجموعة من الضباط الشباب في شن هجمات ناجحة على الحامية الفرنسية في حماه، وصلت لذروة نجاحها باقتحام قلعة المدينة وطرد الحامية الفرنسية. خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، زاد الحوراني نفوذه في الجيش عن طريق تقوية علاقاته بطلاب المدرسة العسكرية في حمص. أحد أهم مصادر قوة الحوراني ونفوذه السياسي بعد ذلك كان بسبب علاقته بهؤلاء الضباط الشباب الذين اعتبروا أكرم الحوراني معلمًا ومرشدًا سياسيًا وصديقًا ذا فضل. في عام 1948م، كان الحوراني من أوائل من عبروا الحدود مع مجموعته من الضباط للإغارة على المستعمرات اليهودية. خلال ذلك كان قد انتقل من مساندة الحزب القومي السوري الاجتماعي ومشروع «الهلال الخصيب» (سوريا و العراق) لمساندة «حزب البعث» الناشئ ومشروعه الداعي لوحدة عربية شاملة.
الفلاحون في ريف حماه كانوا هم المصدر الثاني لنفوذ أكرم الحوراني. «أكرم بك» كان قائدهم في كل انتفاضاتهم الفلاحية ضد كبار العائلات الإقطاعية في ريف حماه، العائلات السورية الكبيرة لم تجد ما يكفي من الوجاهة والوضع الاجتماعي في مناصب الضباط، فلم تشجع أبناءها على الالتحاق بالكلية العسكرية بحمص. على العكس، كان أكرم بك دائم التشجيع لأبناء أصدقائه من الفلاحين، بالذات من أبناء الطائفة العلوية، على الالتحاق بالجيش. كان الحوراني من حماه، حيث شعر بوطأة الإقطاع على الحياة الريفية التي شكل فيها العلويون فئة الفلاحين الفقراء آنذاك. لم يدرك الحوراني، وهو من الطائفة السنية، أنه سيدمر الحياة الديمقراطية الوليدة، بعسكرة طائفة أقلوية صغيرة. الرجل كان واعيًا تمامًا بما يخطط له مستقبلاً. أكرم بك هو فعلاً أول من تنبه في العالم العربي للدور السياسي المستقبلي للضباط الواعين سياسيًا، وللأمانة، الرجل لم يكن ممانعًا ولا معترضًا على هذا الدور، بل كان ساعيًا له بقوة ووعي كاملين.
الأربعاء 30 مارس/آذار 1949م، في تمام الساعة الثانية والنصف فجرًا، تحرك قائد الجيش السوري «حسني الزعيم» من مقر عمله في القنيطرة إلى دمشق بعد أن أعطى أوامره بقطع كافة أشكال الاتصالات بينها وبين العالم الخارجي. كان هذا أول انقلاب في سلسلة الانقلابات السورية. انقلاب حسني الزعيم هو الانقلاب الأول في الشرق الأوسط والعالم العربي، وبداية تدخل العسكر العرب في السياسة، وقد وصفه «فارس بك الخوري»، السياسي السوري، بكونه «أعظم كارثة حلت بالبلاد منذ حكم تركيا الفتاة». في حين دعمه أكرم الحوراني وأعد بيان الانقلاب الذي تلته الإذاعة السورية؛ ليصبح من بعدها أكرم بك هو الوجه المدني المشارك في سلسلة الانقلابات العسكرية التي ضربت سوريا حتى عام 1963م، عبد الناصر شرع في تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار» بعد أربعة أشهر من استيلاء «الزعيم» على السلطة في دمشق.
على الرغم من اختلاف، وأحيانًا تناقض، أهداف سلسلة الانقلابات السورية، حيث قام بعضها بتحريض من العراق لتحقيق وحدة الهلال الخصيب، وقام بعضها بتحريض من مصر والسعودية للحيلولة دون تحقيق هذه الوحدة، قام بعضها بتحريض من الولايات المتحدة لإنجاز خط أنابيب «التابلاين TAPLINE (Trans-Arabian Pipeline)» لنقل النفط السعودي المكتشف حديثًا، وقام بعضها الآخر للحيلولة دون إنجاز ذلك الخط، فقد كان أكرم الحوراني دائمًا ما يظهر خلال الأسابيع وأحيانًا الشهور الأولى من الانقلاب صائغًا للبيانات، و عضوًا في لجان تحقيق مساوئ العهد السابق. أكرم بك كان وزيرًا للزراعة في عهد «سامي الحناوي» الذي انقلب على «حسني الزعيم» وأعدمه، كان وزيرًا للدفاع في عهد صديقه وابن خالته «أديب الشيشكلي» الذي انقلب على سامي الحناوي، ثم مهندسًا لانقلاب 1954م الذي أطاح بأديب الشيشكلي والذي قاده تلميذه «مصطفى حمدون»؛ ليظل حتى عام 1958م أبرز الوجوه المدنية التي يتخذها العسكريون لحكمهم.
كان المشكل ألأساسي هو اعتقاده أن العسكر بعد إنجازهم للانقلاب يجب أن يعودوا لثكناتهم تاركين المجال للجيل الجديد حتى يحكم وينجز ما فشل فيه جيل الآباء. العسكر كان رأيهم يختلف تمامًا عن رأي أكرم بك في هذا الموضوع تحديدًا، كانوا بالنسبة له كالمارد الذي أخرجه من القمقم ولا يستطيع إعادته مرة أخرى للقمقم؛ لذلك لم يكن أمامه من سبيل لعلاج ما يعتقد أنه تصرفات خاطئة من المارد سوى بتحضير مارد آخر، أو بهندسة انقلاب جديد على الانقلاب القديم. كان هناك دائمًا سبب للانقلاب على الانقلاب، كان كمدني يشعر دائمًا بعجز عن تحقيق أهدافه سوى بتحالف ما مع العسكر، كل الجنرالات الذين ساعدهم على الوصول للحكم كانوا بعد فترة يعتقدون أنهم لا يقلّون عنه وطنية و ذكاءً؛ إلى أن قرر العسكر في النهاية أنهم لم يعودوا بحاجة لوجه مدني بارز مثله، فقاموا بانقلاب مارس/آذار 1963م أو انقلاب اللجنة العسكرية. دون علمه وإرادته، الأعضاء الفاعلون في اللجنة العسكرية التي قادت انقلاب 1963 كانوا ثلاثة ضباط علويين؛ اللواء «محمد عمران»، المقدم «صلاح جديد»، وأخيرًا النقيب الطيار «حافظ الأسد». اعتقلوه لفترة بسيطة ثم نفوه خوفًا من علاقاته الممتدة داخل الجيش. ظل أكرم الحوراني منفيًا إلى أن مات في الأردن في 22 فبراير/شباط 1996م.
عبد الناصر كان مهتمًا للغاية بمناقشة سلسلة الانقلاب السورية، حسب كلام هيكل عندما زاره في مكتبه في دار «أخبار اليوم» قبل انقلاب يوليو/تموز ٥٢. مصر في بداية الخمسينيات كانت في طريقها لثورة شعبية حقيقية، الرأسمالية المصرية في عنفوان ازدهارها الاقتصادي؛ شركات بنك مصر، مصانع الغزل والنسيج، حركة عمالية قوية، حركة طلابية قوية، أحزاب، غضب شعبي على الملك، ملل من المفاوضات التي لا تنتهي مع الإنجليز، النحاس باشا يلغي معاهدة ٣٦، عمليات فدائية في مدن القناة ضد القاعدة الإنجليزية، مظاهرات طلابية في الجامعات تدعو لسقوط الملكية و قيام الجمهورية، حرب فلسطين، حريق القاهرة. الجميع أدرك مدى اهتراء وتحلل النظام الملكي، كل الأمور تقود لثورة شعبية مشابهة لثورة ١٩١٩ مع فارق الوعي والخبرة، فجأة انقلاب عسكري في يوليو/تموز ٥٢.
كان انقلاب يوليو هو بمثابة فتح الصمام لتصريف البخار من القدْر الذي يغلي وعلى وشك الانفجار. كل القوى الوطنية انبهرت بتدخل الجيش وعزل الملك، …إلخ. بعد ذلك تم تأميم السياسة والاقتصاد والثقافة لتصبح كلها تحت إدارة الدولة. لأكثر من ستين عامًا تم تعطيل وقتل كل مقومات التطور في المجتمع، وعندما قامت الثورة البرجوازية أخيرًا في ٢٥ يناير/كانون الثاني كانت نقية وساذجة وعديمة الخبرة، مع شديد الأسف والألم.
كل الدول القومية في العالم كله تقريبًا كيانات متوهمة، وكل الحدود تقريبًا في عالمنا حدود استعمارية؛ البرازيل، الأرجنتين، بلجيكا، كندا، الولايات المتحدة، …إلخ. كل الكيانات القومية بدأت «متوهمة» وتحولت بمرور الوقت لدول حقيقية غير قابلة للتفكك. لماذا نحن إذن، دول «سايكس-بيكو»، عن دون خلق الله لم تنضج عندنا فكرة الدولة القومية؟، وهي حاليًا بالفعل تتفكك؛ العراق، سوريا، ليبيا، والباقي في الطريق. لماذا تبدو إسرائيل «المزعومة» أكثر تماسكًا بمراحل من جميع الدول العربية، بالرغم من كل القائمة الطويلة من عوامل التماسك (اللغة، الدين، التاريخ المشترك، …إلخ)؟.
أنظمة الحكم العسكرية التي توالت على العالم العربي منذ نهاية الأربعينيات عطلت أي احتمال لتطوير أنظمة سياسية واجتماعية قائمة على التنوع والعيش المشترك. النظام القائم أساسًا على انقلاب عسكري يبحث دومًا وأبدًا عن علاقات ولاء بسائر مؤسسات الدولة، النظام يقوم باستخدام من يتوسم فيهم ولاءً للزعيم والقائد والجيش. في سوريا، رقّى «حافظ الأسد» صديقه «مصطفى طلاس» وعينه وزيرًا للدفاع. في العراق، استعان «صدام حسين» بعشيرته وأقاربه وأزواج بناته وأبنائه. في مصر، استعان ناصر بـ «عبد الحكيم عامر». غياب أية إمكانية للتعبير أو لتداول السلطة أو للتغيير السلمي قوّى العلاقات القائمة على المصالح، والعائلة والقبيلة والطائفة. تحولت الدولة القومية الناشئة من شكل الدولة إلى كيان إقطاعي مقسم إلى كانتونات تحت سيطرة مصالح، وطوائف، وقبائل. غاب أي شعور بالمصلحة المشتركة أو الوحدة القومية. الرغبة والقابلية للعيش المشترك، كلها ضاعت في غياهب المعتقلات وتحت سياط الجلادين. واقعيًا، الانقلابات العسكرية في بلاد العرب السعيدة أجهضت كل احتمالات قيام «الثورات البرجوازية» في الدول العربية. كل مسارات السياسة والتطور الاجتماعي الطبيعي تم قطعها والقضاء عليها، كل الفرص المتاحة لإنشاء اجتماع سياسي مشترك في كيانات سايكس-بيكو حديثه التكوين تم طحنها حرفيًا. لم يعد هناك ما يغري بوحدة أو تكامل أو أخوة أو حتى مصالح مشتركة بالمفهوم البراجماتي الذي قام على أساسه الاتحاد الأوروبي، وهكذا، يا رعاكم الله، تم طحن كل أمل في «مستقبل لوليد ينام».
أنا طبعاً لا أستطيع القول إن كل ما حدث مسؤولية شخصية لأكرم الحوراني، لكنه بلا أدنى شك المسؤول الأول عن وضع نظرية استخدام العسكر، كوسيلة للتحديث وإعادة هندسة المجتمع، موضع التنفيذ. هو الذي يتحمل الجانب الأكبر من إقحام العسكريين العرب في السياسة العامة لبلادهم، ولقد عاش الرجل ليرى عواقب ويدفع ثمن ما جنته يداه. «أكرم بك» هو الرجل الذي قام بتحضير عفريت العسكر ولم يستطع أن يصرفه أبدًا بعد ذلك.