ثورة أياكس: هكذا خطط كرويف للإطاحة بالريال واليوفي

طبعًا أنت لا تصدق ما حدث للتو. وربما لن تصدق أبدًا أن أياكس وصل لنصف نهائي دوري الأبطال، وقد أزاح في طريقه بطل النسخة السابقة، ثم هم بالإطاحة بأقوى مرشحي النسخة الحالية. لا بأس، لست وحدك. العالم كله يشاركك هذا الذهول بما حققه صغار أياكس على ملاعب عمالقة القارة الأوروبية، وينظر بعين الإعجاب لشجاعتهم وإيمانهم بحظوظهم.

لحظة ملحمية نادرة. وعلى قدر الإثارة التي تحملها مثل تلك اللحظات إلا أنها تغطي أحيانًا على تفاصيل عدة، إذ قد يظن أحدنا أن السر خلف انتصارات أياكس المفاجئة هو جرأة أشبال الفريق الهولندي فقط، أو عبقرية مدربهم «إيريك هاج» فقط، ويهمل في المقابل عوامل أخرى ربما تكون أكثر تأثيرًا فيما تحقق.

أياكس لم يفز بالصدفة، بصراحة من الصعب أن تفوز على الريال في إسبانيا ويوفنتوس في إيطاليا بالصدفة. هذه الانتصارات نتاج تجربة طويلة ومثيرة وقعت بين جدران النادي الهولندي. أهم أبطالها هو الأسطورة «يوهان كرويف»، وهذا وحده يضفي عليها مزيدًا من السحر.

تجربة تستحق أن تروى لأنها تعلمنا أحد أهم دروس كرة القدم، وربما في الحياة كلها، وهو الإيمان بالعمل المتواصل ومراكمة النجاحات الصغيرة في سبيل تحقيق نجاح أكبر. تمامًا مثلما فعل رفاق «دي ليخت»، ليلة أمس، بصعودهم لنصف النهائي لأول مرة منذ 23 عامًا!

في مديح الانهيار

بالتأكيد لا أحد منا يتابع الدوري الهولندي، ومعلومة أن أياكس فشل في الصعود لمنصة التتويج بين عامي 2004 و2010 ليست بالأهمية الكافية، لكنها كانت كل شيء بالنسبة لشخص واحد فقط اسمه يوهان كرويف. كان الغضب يتراكم داخل نفس يوهان مع كل إخفاق، إلى أن وجد في لحظة ما أن السوس قد نخر القلعة الهولندية، وأن واجب الوقت هو الهدم وليس الترميم، ومن ثم البناء على الأنقاض.

أشعل كرويف سيجارة، ودخل إلى غرفته باحثًا عن ورقة وقلم، ومن ثم قضى ليلته في كتابة مقال أشبه بإعلان حرب على إدارة أياكس. اتهمهم يوهان بكل شيء تقريبًا؛ التقصير، إهدار الموارد، وطبعًا التسبب في ضياع هوية النادي. هذه الأخيرة كانت أزمة أياكس الحقيقية، بعد أن فقد ما يميزه من أسلوب لعب وأصبح ناديًا مستأنسًا أوروبيًا ومحليًا، ولا يكاد يرتبط اسمه في الصحف سوى ببيع «سواريز» لليفربول، و«إيريكسين» لتوتنهام، و«فيرمايلين» لأرسنال.

يمكن وصف هذا المقال بأثر الفراشة الذي بدأت بعده الأحداث تتوالى. فأولًا استدعته الإدارة لتتقي شره وعرضت عليه موقعًا استشاريًا، لكنها أرادت منه أن يبدي رأيه فقط دون صلاحيات أوسع، وهنا بدأت الخلافات تتصاعد حتى تسرب شعور للمتابعين أن كرويف لن ينجح في إنجاز أي شيء. وقد كتب المحرر «أليكس بيكر» بعد تعيين يوهان معبرًا عن يأسه وإحباطه من استمرار تراجع أياكس خصوصًا على الصعيد الأوروبي.

بيكر لم يكن يعرف أمرين؛ أولهما، هو أن كرويف كان عازمًا بجنون على إجراء تغييرات وقلب طاولة الإدارة. والثاني، هو أنه اختصر الطريق وبدأ فعليًا في تجنيد بعض الأشخاص لتنفيذ أفكاره مباشرة. أهم هؤلاء: «مارك أوفرمارس» على صعيد القرارات الإدارية، والثنائي «فيم يونك، وروبين يونكيند» في إدارة أكاديمية الناشئين وفرق الشباب. كان انقلابًا عسكريًا كما قال الكتاب!

أدرك يوهان أن أياكس لن يخسر أكثر مما خسر، وقد حرره ذلك من الضغوطات والتردد، وبدا صداميًا وغير عابئ بأي شيء سوى تنفيذ إرادته. لذلك نجح انقلابه واستقالت الإدارة في النهاية، ومن ثم بدأ العمل فورًا على إعادة هيكلة أكاديمية أياكس رفقة الثنائي الطموح.

جودو في الملعب

كانت المرحلة التالية، كما يصفها محرر التليجراف «شارلي إكليشير»، هي مرحلة تحديد الأولويات. وقد استقر يوهان على أربعة مبادئ رئيسية تحكم قطاع الكرة؛ أولًا، هو الالتزام بأسلوب لعب أياكس المعروف تاريخيًا. وثانيًا، هو أن يشتمل الفريق الأول على خمسة لاعبين على الأقل تم تصعيدهم من الأكاديمية. أما ثالثًا، فهو تجهيز ناشئي الأكاديمية من الناحية البدنية والفنية كما النفسية. وأخيرًا ضرورة عمل مدربي فرق الشباب سويًا طوال الوقت.

المشكلة أن هذه المبادئ عامة ونظرية جدًا، وتحتاج إلى من يحولها لخطوات وإجراءات فعلية ملموسة. وهذا كان دور الثنائي: فيم وروبين.

عقد الثنائي مع عرّاب المشروع جلسات عديدة من العصف الذهني، وبدؤوا في طرح اسئلة تأسيسية من عينة؛ ما هي فلسفة أياكس تجاه كرة القدم، ما أسلوب اللعب الذي ننتهجه؟ بعدها كان في جعبتهم أسئلة أكثر عملية مثل؛ كيف يمكننا اللعب بعشرة أو تسعة لاعبين أمام فريق كامل، كيف يمكننا ضرب التكتلات الدفاعية لخطة 4/4/2؟ وأخيرًا كانوا بصدد نوع ثالث من الأسئلة تبدأ بماذا؛ ماذا نفعل لتنتقل هذه الأفكار لفريق تحت 13 عامًا؟ وفريق تحت 17 عامًا؟

كان كرويف أمام كل تلك الأسئلة، وبمجرد أن يفتح فمه للإجابة كان الثنائي يفتح الكراريس لتدوين كل كلمة ينطق بها. ومن ثم يبدأ التشاور والإضافة والحذف، حتى وصل روبين إلى تصور متماسك عما هو الهدف الأكبر المعني به الأكاديمية، وما الأهداف الصغري التي تخدم ذلك الأكبر، وكيف يمكن تحقيق هذا وذاك؟

النقطة الأخيرة تحديدًا كانت تعني القرارات، وقد ارتكزت قرارات الأكاديمية على أولوية واحدة؛ وهي إعداد اللاعب الفرد أكثر من امتلاك فرق ناشئة تفوز. في الواقع كان كرويف يرى أن الفوز بدوري تحت 13 عامًا أو 15 عامًا لا يعني شئيًا على الإطلاق، هو فقط يريد تصعيد لاعب يفهم أسلوب لعب أياكس جيدًا، ويستطيع التكييف مع أي مدرب.

لذلك قام الثنائي بتكليف كل مدربي الأكاديمية بأسلوب لعب واحد دون النظر إلى النتائج الفوز والهزيمة، بل إنهما قاما بتدوير المدربين على مختلف الفئات السنية، بمعنى أن ينتقل مدرب فريق تحت 17 عامًا ليقود حصة تدريبية لفريق تحت 13 عامًا، والعكس صحيح. الهدف؟ هو تعرض اللاعبين لخبرات مختلفة.

أكثر غرابة من ذلك هو ما يفعله يونكيند عندما يتم اكتشاف ثغرات بدنية أو فنية للاعبين، إذ ينتدب للأكاديمية مدربي جودو، قفز بالزانة، وراجبي، ومن ثم يبدأ التشاور بينهم وبين مدربي كرة القدم للتوصل لأفضل الحلول. ويحكي شارلي اكليشير واقعة فريدة عندما اكتشفوا أن المدافع دي ليخت لا يركض بشكل سليم، وهو ما سيؤثر على سرعته وتفاعله مع الكرة سلبيًا، فما كان منهم سوى التعاقد مع العدّاء الهولندي «برام سوم» خصيصًا ليدرب الولد الصغير.

هكذا مع مرور الشهور، بدأت تبرز أسماء واعدة من قطاعات سنية مختلفة، كان الكل يعرف أن هناك حارسًا واعدًا اسمه «أونانا»، وأمامه سيلعب دي ليخت بعد أن عالج مشكلة الركض، بالإضافة للاعب وسط ملعب رائع اسمه «دي يونج» يعيبه فقط بنيته الجسمانية لذا سيواصل العمل في صالات الجيمانزيوم، معه سيلعب «فان دي بيك» بعد أن يكثف تدريبات استخلاص الكرات الهوائية. كل هؤلاء سيصبحون في غضون سنوات القوام الأساسي لفريق أياكس اليوم.

هذا الجهد الذي قام به الثنائي: يونكيند، فيما يتلخص، كما كتب محرر سكاي سبورت «أدم بات»، في تحويل أفكار كرويف لاستراتيجية عمل، ثم الاتفاق على أهداف تحقق تلك الاستراتيجية، وأخيرًا التفكير بتمعن في سبل تحقيق هذه الأهداف. هذه أمور ليست بالغة التعقيد أو مستحيلة التنفيذ، لكن مع الأسف نحن نجهلها أو نتجاهلها في بلادنا، صدقًا لست متأكدًا.

من اليمين: المدافع ماتياس دي ليخت، الحارس أندريه أونانا، لاعب الوسط فرانكي دي يونج.

إيريك هاج: ظل جوارديولا

قبل بضع سنوات من الآن، لم يكن إيريك هاج يحلم بأن يقود فريقًا لنصف النهائي التشامبيونزليج. إذ كان لاعبًا هولنديًا مغمورًا، قضى أغلب سنوات مسيرته مع فريق اسمه «توينتي» ينشط حاليًا بالدرجة الثانية، ثم اتجه بعد عشر سنوات من اعتزاله لمجال التدريب. في البداية، عمل مساعدًا في فريقه، ثم انتقل لإيندهوفن، حتي جاءه ذات يوم في 2013 اتصال من ألمانيا سيغير حياته.

إنه نادي بايرن ميونخ، يعرض عليه العمل مدربًا للفريق الرديف، في نفس الأثناء التي كان يقود فيها «بيب جوارديولا» الفريق الأول. بالطبع وافق إيريك على الفور، لأنه كان يحمل نفس أفكار يوهان كرويف عن كرة القدم، لكنه لم يتمكن بعد من تطبيقها، وها قد جاءت له الفرصة للعمل رفقة أفضل من يطبقها في الوقت الحالي.

طار إيريك نحو ألمانيا، وبدأ في اختبار أفكاره على أرض الملعب، بالإضافة للتعلم من أسلوب عمل جوارديولا وهو ما ساعده على تطوير تصوراته عن الاستحواذ والضغط واللعب بين الخطوط. المدرب الهولندي يتميز بقدرة كبيرة على رصد التفاصيل، والتركيز مع أخطاء لاعيبه.

لكن ميزة أخرى أهم ستظهر عندما يتولى بعد عامين تدريب نادي أوترخت الهولندي وهي: المرونة. إذ لعب إيريك برسوم تكتيكية مختلفة مثل 4/4/2 الجوهرة و5/3/2، بالإضافة لـ4/2/3/1 و3/3/3/1، كما أنه يجري تعديلات على مراكز لاعبيه بين الحين والآخر – يكفي أن تعرف أنه غير مركز لاعب من صانع ألعاب حر لقلب دفاع. وقد ساعده ذلك على قيادة الفريق لمركز متقدم كالرابع، بل والفوز على كبار الدوري بما فيهم أياكس.

لن يمر وقت طويل على هذا الفوز، إلا وسيطلب أياكس التعاقد معه، وبالفعل سيتولى المسئولية في ديسمبر 2017. ومنذ ذلك الحين، كان إيريك يعمل على ثلاثة أمور رئيسية؛ الضغط، الانتشار، الحركة ككتلة واحدة هجوميًا ودفاعيًا.

هذه الأمور الثلاثة ساعدته على تطبيق أسلوب اللعب المباشر السريع الذي يستهدف تهديد الخصوم بأسهل السبل، كما استفاد من قدرات لاعبيه على حمل الكرة من مناطقهم لمناطق الخصم بالإضافة لدقة التمرير والفوز بالكرات الثنائية. هذا الموسم برزت شخصية أشبال أياكس بشدة، حيث يتألقون دائمًا في ملاعب الخصوم الكبيرة كالبايرن والريال واليوفي، ويبدو أنهم لن يفرطوا بسهولة في حظوظهم بنصف نهائي دوري الأبطال، حتى لو كان خصمهم حينها هو بيب جوارديولا: ملهم إيريك هاج.