أحداث مخيم عين الحلوة والاحتمالات المتوقعة
إعداد: أ. رأفت مرة [1]
اندلعت في نهاية شهر يوليو/تموز 2023، اشتباكات عنيفة في مخيم عين الحلوة، إثر قيام عنصر من الأمن الوطني الفلسطيني في مخيم عين الحلوة، من آل زبيدات، بقتل عنصر من جماعة إسلامية تُدعى «الشباب المسلم» اسمه عبد الرحمن فرهود، وأصاب عنصراً آخر على خلفية قضية اغتيال قديمة حصلت في شهر مارس/آذار 2023.
وفي اليوم التالي، اغتال مسلحون مجهولون، قرب حي الطوارئ الذي تتمركز فيه مجموعات إسلامية، العميد أبو أشرف العرموشي مسؤول الأمن الوطني الفلسطيني في منطقة صيدا وأربعة من مرافقيه، واتُّهم «الشباب المسلم» بتنفيذ الاغتيال. وقد تواصلت الاشتباكات بعنف، واستُخدمت فيها أسلحة متوسطة أدت إلى دمار كبير وتهجير للأهالي.
يقع مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة صيدا في جنوب لبنان، ويُعدُّ أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، بمحاذاة الأوتوستراد الشرقي الذي يوصل بين المناطق اللبنانية وجنوبي لبنان، وتحيط بالمخيم مناطق لبنانية سنية وشيعية ومسيحية، ويحيط الجيش اللبناني بالمخيم من جميع جوانبه، وله حواجز عسكرية على كافة مداخله، ويبلغ عدد سكانه مع الأحياء المحيطة به قرابة 70 ألف لاجئ فلسطيني.
في نهاية الثمانينيات والتسعينيات ازدادت قوة المجموعات الإسلامية في المخيم، وشكّلوا أكثر من حالة، لا يجمعها أي إطار تنظيمي أو فكري، ولا يزيد عدد عناصرها في المخيم عن 150 عنصراً. وكان من أبرز المجموعات التي شُكِّلت لكنها اندثرت وتفككت؛ جند الشام، وفتح الإسلام، وهي تشكيلات صغيرة.
وتتمركز في عين الحلوة «عصبة الأنصار» الإسلامية التي يرأسها الشيخ عبد الكريم السعدي (أبو إبراهيم)، و«الحركة الإسلامية المجاهدة» التي يتزعمها الشيخ جمال خطاب. وهاتان الحركتان من الفصائل الفلسطينية وتُشاركان في هيئة العمل الفلسطيني المشترك، وتمتلكان تأثيراً معنوياً على المجموعات الإسلامية الأخرى، لكنهما ليستا طرفاً في الاشتباكات الأخيرة. ولهذه المجموعات نفوذ قوي في عدد من أحياء المخيم، وتُشكل تحدياً بالنسبة لحركة فتح التي ترغب في بسط نفوذها على المخيم كله.
في السنوات الأخيرة عملت حركة فتح على استعادة نفوذها في الساحة اللبنانية، وأعادت تأسيس قواتها، واستحدثت مراكز عسكرية جديدة، ووظفت مئات العناصر في الأمن الوطني التابع لها، ودربتهم في معسكرات خاصة؛ حيث تعطي حركة فتح والسلطة الفلسطينية أهمية كبيرة للوجود الفلسطيني في لبنان نظراً لوزنه السياسي وموقعه الجغرافي.
من جهة أخرى، ففي العقدين الماضيين، ومع اتِّساع عمل المقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية ازداد اهتمام حركة حماس بالمجتمع الفلسطيني في لبنان، وعززت نفوذها ورفعت مستوى علاقتها مع حزب الله في إطار التعاون بين قوى المقاومة في المنطقة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. الأمر الذي دفع الاحتلال لتهديد حركة حماس أكثر من مرة.
اصطدم مخطط حركة فتح في إعادة السيطرة على مخيم عين الحلوة بالصراع مع المجموعات الإسلامية، فازدادت الاشتباكات في السنوات العشر الأخيرة، وارتفع عدد عمليات الاغتيال المتبادل. وتمكنت حركة فتح قبل ثلاثة أعوام من السيطرة على حي الطيرة شرقي المخيم، وأبعدت عنه خصمها «اللدود» بلال بدر، أحد رموز المجموعات الإسلامية، في عملية عسكرية كبيرة استخدمت فيها حركة فتح كميات وأنواع ضخمة من الأسلحة، تمكنت من خلاله من استخدام مواقع خارج المخيم للهجوم على حي الطيرة.
مواصفات الاشتباكات
تميزت الأحداث الأخيرة التي وقعت في مخيم عين الحلوة بالتالي:
- أطول معركة تحصل منذ أكثر من 20 عاماً، واستمرت 45 يوماً حتى إعداد هذا التقدير.
- استخدمت فيها أسلحة رشاشة متوسطة (رشاشات دوشكا، ورشاشات عيار 12.7، ورشاشات مضادة للطيران من عيار 14.5)، وقذائف صاروخية متطورة (لانشر وشامل)، وصواريخ كاتيوشا من عيار 107 ملم، ومدافع هاون قصيرة المدى، ومدافع عديمة الارتداد بي 10 – B10.
- تمّ استخدام هذه الأسلحة بكثافة ومن مواقع محيطة بالمخيم، ما يؤشر على وجود تعاون وغطاء من جهات لبنانية.
- شملت الاشتباكات غالبية أحياء المخيم والأحياء المحيطة، خصوصاً حي التعمير، وحي الطوارئ، وحي حطين، وحي الصفصاف.
نتائج الاشتباكات
1. الاستخدام الواسع للأسلحة أدى إلى إلحاق خسائر كبيرة بمخيم عين الحلوة، حيث تمّ تهجير آلاف اللاجئين الفلسطينيين، وتدمير وحرق وتضرر مئات المنازل والسيارات والمحلات التجارية والبنية التحتية والخدمات، وزادت هذه الاشتباكات من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها المخيم.
وبعد الجولة الأولى فقط من الاشتباكات التي دامت 6 أيام، قدَّرت وكالة الأونروا حجم الأضرار بقرابة 10 ملايين دولار، وحتى إعداد هذا التقرير بعد 45 يوماً من الأحداث تضاعفت الأضرار بشكل كبير، في الوقت الذي كانت مبادرات دعم المتضررين وتعويضهم ضعيفة، ولا تفي بالاحتياجات الضرورية.
2. أدت الاشتباكات إلى سيطرة المسلحين من حركة فتح والمجموعات الإسلامية على تجمع مدارس وكالة الأونروا شمال شرقي المخيم، والتي يتلقى فيها 5.600 طالب تعليمهم، وجرى تدمير ونهب هذه المدارس، الأمر الذي يعطل العام الدراسي، وهو ما دفع الأونروا للعمل على نقل المدارس خارج المخيم، بعدما نقلت مركزاً صحياً خارج المخيم أيضاً.
3. ألحقت الاشتباكات خسائر سياسية كبيرة بالقضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني في لبنان، وأساءت لقضية السلاح الفلسطيني ودوره، وللعلاقة مع المجتمع اللبناني، خصوصاً بعدما وصل الرصاص والقذائف إلى الأحياء اللبنانية المحيطة، وتعطلت الحياة الاقتصادية في مدينة صيدا والجوار، وتعطلت الحركة على الأوتوستراد الواصل إلى جنوبي لبنان.
4. لم تتوصل لجنة التحقيق الفلسطينية المشتركة (تضم مندوبين لعدد من الفصائل الفلسطينية) وبعد أسبوعين من العمل، إلى اتهامات ثابتة ومؤكدة تجيب عن سؤال: من قتل العميد العرموشي؟ وبالتالي ظلت ذريعة المجموعات الإسلامية قائمة برفض تسليم أي عنصر للتحقيق.
5. سقطت كلّ محاولات وقف إطلاق النار، وعجزت الجهود الكبيرة التي بذلتها قوى فلسطينية ولبنانية وجهات لبنانية رسمية في وقف مسلسل الاشتباكات وتثبيت الهدنة وسحب المسلحين وتسليم المتهمين بقتل العميد العرموشي.
6. ظهر أن حركة فتح تريد استغلال الفرصة لتحقيق مكاسب عسكرية واسعة ضدّ جميع خصومها في المخيم من المجموعات الإسلامية وكافة الخصوم السياسيين الآخرين، فهي حصلت على مهل زمنية متواصلة لتحقيق انتصارات عسكرية على خصومها لكن ذلك الانتصار لم يتحقق، ودفع المخيم والأهالي نتيجة ذلك التدمير. كما فشلت فتح والأمن الوطني في اعتقال أو قتل أو إصابة أي شخص من المجموعات الإسلامية المتهمين باغتيال العرموشي، بينما قتل لها العديد من العناصر.
7. يربط عدد من المتخصصين بين تفجير الوضع واتساعه وقدوم ماجد فرج مسؤول المخابرات الفلسطينية في سلطة رام الله (التابعة لفتح) قبيل الأحداث بأيام؛ بوجود أجندة أمنية من وراء الإصرار على الاستمرار في التصعيد وكسر كل اتفاقات الهدنة، تسعى من خلالها فتح للاستفادة من كونها تهيمن على «الشرعية الفلسطينية» والسفارة الفلسطينية في لبنان في محاولة بسط سيطرتها. ومع ترويج فتح لشعارات محاربة الإرهاب وضرب الإسلاميين تجاوز الأمر مجرد تسليم قتلة العرموشي، إلى محاولة السيطرة على مخيم عين الحلوة ومخيمات اللاجئين في لبنان وفرض أجندتها وبرنامجها.
8. في المقابل، ظلت المجموعات الإسلامية على مواقفها الرافضة للانسحاب من بعض الأحياء مثل حي الطوارئ، أو تسليم متهمين للدولة اللبنانية.
مساعي وقف العنف
بذلت القوى الفلسطينية واللبنانية مساعي كثيرة لوقف الاشتباكات، وتمّ إطلاق مبادرات كثيرة بهدف وقف النار وسحب المسلحين وتسليم المتهمين وإعادة النازحين، غير أن كلّ تلك الجهود لم تنجح. كما بذلت حركة حماس جهوداً كبيرة، حيث أجرى رئيس الحركة إسماعيل هنية اتصالات مكثفة شملت رئيسَي مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. وقال نبيه بري إن «ما حدث في عين الحلوة يجب ألّا يتكرر»، وقال نجيب ميقاتي كلاماً مشابهاً.
وأصدرت حركة أمل وحزب الله مواقف دعت إلى وقف المعارك، ورعى المدير العام للأمن العام اللواء إلياس البيسري لقاءين للفصائل لوقف المعارك. وكان ثمة انزعاج من هذه القوى اللبنانية من سلوك الأمن الوطني التابع لفتح وتوسيعه دائرة القصف في مناطق صيدا، ومحاولة توريط الجيش في الأحداث، حيث طُلب منها التوقف عن ذلك.
السيناريوهات المتوقعة
السيناريو الأول: نجاح طرف بالسيطرة
وهو سيناريو مستبعد، إذ تشير المعطيات الميدانية إلى أن الطرفين غير قادرين على حسم المعركة ميدانياً؛ فحركة فتح والأمن الوطني اللذان يمتلكان آلاف العناصر وترسانة من الأسلحة، لم يتقدما شبراً واحداً على الأرض طوال الفترة، وأعلنت المجموعات الإسلامية أنها تخوض معركة الدفاع عن النفس وهي ليست في وارد التقدم للسيطرة على مواقع فتح.
السيناريو الثاني: وقف نهائي لإطلاق النار
من المحتمل الوصول إلى وقف نهائي لإطلاق النار، غير أنه مع فشل الكثير من المحاولات، وأمام شدة العداوة بين الأطراف، وأمام حجم الأهداف الكبيرة لحركة فتح في السيطرة على المجتمع الفلسطيني في لبنان، ومع استبعاد تسليم عناصر إسلامية، يصبح هذا التوقف هشاً وعرضة للخروقات، ما لم تعالج القضايا الحساسة بشكل جذري.
السيناريو الثالث: استمرار الاشتباكات
من المحتمل أن تستمر المواجهة لفترة طويلة في مخيم عين الحلوة تقطعها هدنة بين وقت وآخر، نتيجة ضغوط الوسطاء، أو لأغراض تعبوية لدى المشتبكين؛ وهو سيناريو أقرب للواقع، خصوصاً بسبب عدم قدرة أي طرف على الحسم، وتباعد الأهداف، وحجم العداوة بين الطرفين، وكثرة اللاعبين، والواقع المحلي اللبناني الذي تضعف فيه الدولة، والواقع الإقليمي والدولي الذي تتصارع فيه البرامج، واستهداف قضية اللاجئين الفلسطينيين والمجتمع الفلسطيني.
وتزداد مخاطر هذا السيناريو، إذا ما نجحت عناصر الأمن الوطني التابعة لفتح في جر الجيش اللبناني أو أطراف لبنانية للمعركة، أو اضطرت أطراف فلسطينية أخرى للتدخل، مما قد يفتح الباب على تكرار سيناريو «نهر البارد»، وسيناريوهات ضرب النسيج المجتمعي الفلسطيني في المخيمات، واستعداء البيئة اللبنانية ضد السلاح الفلسطيني وضد المخيمات. غير أن إمكانات توسع المخاطر لا تزال غير قوية نظراً لوعي الأطراف الفاعلة، بتأثيرها السلبي الكبير على الجميع.
إن استمرار معركة عين الحلوة أو استمرار النزف أو تدمير وتهجير المخيم، عبارة عن نكبة فلسطينية جديدة سيكون الخاسر الأساسي فيها هو الشعب الفلسطيني وقضيته وحقّ عودة اللاجئين، مهما كان الرابحين.
التوصيات
من أجل المحافظة على الوجود الفلسطيني في لبنان وبهدف توفير الأمن والاستقرار، وبهدف المحافظة على العلاقة مع الجوار اللبناني، فإن الأهداف والمصالح الفلسطينية اللبنانية المشتركة تتمثل في التالي:
- تثبيت وقف إطلاق النار في عين الحلوة برعاية فلسطينية لبنانية.
- سحب المسلحين من الشوارع، وإنهاء حالة العسكرة.
- إعادة النازحين فوراً، والتعويض على الخسائر البشرية والمادية.
- انسحاب المسلحين من مدارس وكالة الأونروا وعودة الطلاب إلى مدارسهم.
- تثبيت دور هيئة العمل الفلسطيني المشترك التي تضم جميع الفصائل الفلسطينية، وعدم التفرد بالقرار، والحرص على العمل الجماعي لحل الأزمات.
- العمل على حلّ مشكلة المطلوبين للدولة اللبنانية، وإنهاء هذه الأزمة بسرعة.
- تفعيل دور الاتحادات والنقابات ومؤسسات العمل المدني والشعبي في خدمة المجتمع الفلسطيني في لبنان، وتعميق أجواء التكافل والتضامن، وتقديم نموذج حضاري متقدم لفلسطينيي لبنان.
- ضرورة المحافظة على الوجود الفلسطيني في لبنان ورفع الغطاء عن أي أطراف تسعى للعبث بأمن المجتمع الفلسطيني، وتشويه صورته، وزيادة معاناته واستنزافه، والتسبّب بتفكيك مخيماته، وحرف بوصلته عن أجندته الأساسية في العودة وتحرير أرضه ومقدساته.
- باحث وإعلامي متخصص في الشؤون الفلسطينية، رئيس تحرير مجلة «فلسطين المسلمة» سابقاً، ومؤلف كتاب «الحركات والقوى الإسلامية في المجتمع الفلسطيني في لبنان»، وكتاب «دليل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان».