في أرض تجري من تحتها الأنهار ويتخللها العديد من الأهوار (بحيرات متكونة من الروافد المائية)، يعاني أهالي الأحواز من العطش والجفاف بعد قطع السلطات الإيرانية المياه عنهم بشكل متعمد في لهيب حر الصيف. تشكِّل الاحتجاجات المشتعلة منذ عدة أيام الحلقة الأحدث في سلسلة الاضطرابات التي تشهدها منطقة الأحواز كل عام، فما إن تهدأ حتى يستعر أوارها من جديد في العام التالي لنفس الأسباب، ولا تنطفئ إلا بدماء المحتجين على العطش، فالرصاص والاعتقالات هي الردود الحاضرة في وجههم دائمًا.

«أين هورنا؟»

أثار قرار النظام الإيراني تجفيف هور العظيم غضب سكان المنطقة، إذ تم تحويل مجرى المياه مما أدى لنفوق أعداد هائلة من الأسماك وحرمان الأراضي الزراعية من الري، وكذلك الماشية التي تشتهر المنطقة بتربيتها، بل إن مياه الشرب أصبحت سلعة يقف الناس طوابير لشرائها.

نظَّم السكان مظاهرات ليلية، وقطعوا عددًا من الطرق بالإطارات المشتعلة، وشملت هتافاتهم باللغتين العربية والفارسية عبارات مثل «أين هورنا؟» و«أبدًا لن نستسلم»، و«نريد الماء»، و«كلا كلا للتهجير»، و«أطلقوا حق مياه هور العظيم». قطعت الحكومة خدمة الإنترنت للسيطرة على الموقف في عدد من الأماكن، وانخفضت سرعته بشكل كبير في عاصمة المحافظة، كما تعطلت شبكة الهاتف المحمول.

وانتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي مئات المقاطع المصورة للتظاهرات، وأخرى تظهر قدوم تعزيزات كبيرة من القوات الأمنية وعناصر الباسيج التابع للحرس الثوري إلى المنطقة، ورغم ذلك وصف محافظ خوزستان، قاسم سليماني دشتكي، في حوار مع وكالة «إرنا» الحكومية، تلك الفيديوهات بأنها «مزورة»، متجاهلًا الأخبار التي نشرتها وكالات الأنباء الحكومية المحلية عن الأحداث.

وقع بعض القتلى خلال محاولة القوات قمع الاحتجاجات، لكن السلطات وجهت أصابع الاتهام إلى من وصفتهم بـ «مثيري الشغب»، ونشرت فيديوهات لأفراد من ذوي القتلى يرددون فيها الروايات الحكومية وينفون صلة أبنائهم بالاحتجاجات، لكن وسائل الإعلام الرسمية تناقضت، فبينما قالت وكالة أنباء «إيسنا» أن قتلة هؤلاء المحتجين تم اعتقال عدد منهم على أيدي عناصر الشرطة، نفت وكالة أنباء «فارس» التعرف على أي من مرتكبي هذه الجرائم.

وفي محاولة لاحتواء الغضب الشعبي نشرت الصحف أن النائب الأول للرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، أعطى توجيهاته بحل أزمة المياه في أسرع وقت، وتم إرسال وفد يقوده رئيس لجنة إدارة الأزمات إلى الأحواز، كما أعلنت مؤسسة «بركت» التابعة للمرشد الأعلى تدشين مشروع لتوصيل المياه إلى 471 قرية تواجه العطش، لكن المحتجين لم يأخذوا مثل هذه التصريحات على محمل الجد، نظرًا لأنهم تعودوا على سماع هذه الوعود كثيرًا وقت الاحتجاجات، لكنها لا تجد سبيلًا إلى التنفيذ عندما تهدأ الأمور.

التهجير بالتعطيش

تقع منطقة الأحواز (أو الأهواز) في جنوب غرب إيران؛ ويطلق عليها رسميًّا محافظة «خوزستان»، وتقطنها أغلبية عربية تطالب بالاستقلال عن طهران منذ عام ١٩٢٥.

يُمنع السكان من استخدام اللغة العربية في تعليم أبنائهم، ويعانون من التمييز ضدهم في توفير فرص العمل والرتب الوظيفية، ويتهمون طهران بتخريب مناطقهم وسرقة أنهارهم وتحويل مجراها إلى مناطق ذات أغلبية فارسية مثل أصفهان، كأداة للتغيير الديمغرافي، ولا يقتنعون بمبررات السلطات التي شيدت عددًا كبيرًا من السدود بدعوى تنظيم الري بينما تنحصر مهمتها الحقيقية في حجز الماء عن حقول العرب في الصيف وإغراقها في الشتاء حيث يتم فتح السدود على مصراعيها وتهجير قاطني القرى المنكوبة تحت لافتة إخلاء المناطق المتضررة.

وبجانب تجفيف الأهوار، تم تسجيل نقصٍ كبير في تدفقات الأنهار الخمسة الكبرى في المنطقة مؤخرًا، فقلَّت مياه نهر كارون بنسبة 24٪، ومارون بنسبة 31٪، ودز بنسبة 43٪، ونهر الكرخة 40٪، ونهر الجراحي 46٪.

تتحكم عشرات السدود في شريان حياة الأحوازيين، مما أدى لتفشي المشكلات البيئية المفتعلة كالتصحر والجفاف، وزيادة معدلات الغبار التي تسببت في ارتفاع نسبة الأمراض الصدرية بين السكان، كما أن تلويث المجاري المائية بالصرف الصناعي حوَّلها من متنزهات ذات مناظر خلابة إلى مستنقعات موبوءة تعج بالمواد السامة والأمراض.

وتعاني إيران من نضوب تدريجي للموارد المائية بسبب الاستنزاف الكبير للمياه الجوفية وتبديدها في مشروعات طموحة نفذها الحرس الثوري بدون دراسة وافية، وحذرت تقارير بيئية من أن الإدارة غير المستدامة للموارد المائية في إيران يمكن أن تؤدي إلى تبعات مدمرة على البيئة لا يمكن تعويضها، وكان الحل الذي ارتآه النظام هو تحويل الأنهار والأهوار الأحوازية لمعالجة الآثار السلبية لتلك المشروعات التي فشلت في المناطق ذات الوجود الفارسي، على حساب العرب الأحوازيين.

تعالت التحذيرات طوال السنوات الماضية من عدد من المسئولين الذين تحدثوا عن تهديد الخطط المائية للسلم والأمن في المنطقة، ومنهم ممثل المرشد الأعلى في الأحواز محمد علي جزائري الذي قال إن السكان لن يسمحوا بنقل مياههم.

الجنة المنسية

تعد منطقة الأحواز التي كانت تسمى رسميًّا «عربستان»، أي «أرض العرب» حتى عام ١٩٣٦، أغنى المناطق داخل الجغرافيا الإيرانية بلا منازع، فهي عصب اقتصاد البلاد لاحتوائها على منابع النفط والغاز ومصادر المياه والعديد من الثروات الطبيعية، فضلًا عن موقعها الاستراتيجي على ساحل الخليج العربي.

ورغم غنى المنطقة بالموارد ووجود المراكز الصناعية الكبرى بها، يعاني أهلها من الفقر والبطالة ويُحرمون من خيراتها، ولا ينالهم منها تقريبًا إلا عوادم صناعة البترول المستخرج من أرضهم. فمنطقة الغيزانية التي تضم المئات من آبار النفط كانت محور انتفاضة المياه في يونيو/حزيران العام الماضي عندما وجد أهلها أنهم يدفعون ثمنًا باهظًا لإصرارهم على البقاء في موطنهم.