أهميتشي: المجزرة المنسية في حرب البوسنة
جثث متناثرة هنا وهناك وقد تفحّم بعضها حتى ظهر العظم.. بيوت جميعها محترق بما فيها من أناس.. مئذنة مسجد منهارة.. حتى الحيوانات ظهرت مقتولة في أنحاء الطرقات. هذا هو المشهد الذي صادفه رجال الأمم المتّحدة لحظة دخولهم قرية أهميتشي ظهيرة الجمعة السادس عشر من أبريل/نيسان ٩٣.
كانت المذبحة قد بدأت منذ أولى ساعات اليوم حين كان الرجال يؤدّون صلاة الفجر في مسجد القرية، وإذ بقذيفة تخترق المسجد وتتناثر الدّماء، يتراكض النّاجون إلى الخارج، فتعاجلهم قذيفة أخرى تقتل من تبقى منهم.
وفي هذه الأثناء، كان أفراد قوّات جيش الدّفاع الكرواتية الذين أحاطوا بالقرية منذ الليل يمشّطون ويقتلون سكّانها الذين لم يستيقظوا بعد ويحرقون بيوتها، في مجزرة تعد الثّانية بعد سربرينتسا من حيث الفظاعة وعدد القتلى، حيث قتل فيها ١١٦ شخصًا، من بينهم ٤٣ امرأة وطفلًا، أصغرهم عمره ثلاثة شهور، وأحرق ١٨٠ بيتًا من بيوت القرية المائتين.
بحسب أحد الشّهود من جيش الدّفاع الكرواتي،كانت الأوامر ألا يبقى أحد يستطيع حمل السّلاح حيًّا في القرية، وألا يبقى أحد من الشّهود على المذبحة على قيد الحياة.
نعود إلى نقطة البداية
اجتماع سري في مدينة كاراجورجيفو الصربية، بتاريخ ٢٥ مارس/آذار ١٩٩١، بين الرئيس الصّربي سلوبودان ميلوشيفيتش والكرواتي فرانيو توجمان، لم تصدر بعده تصريحات، ولم تعلن بعده مواقف. في الحقيقة ظهرت نتائجه بشكل واقعيّ، وفي أقسى مراحل الحرب على مسلمي البوسنة والهرسك.
منذ بداية العدوان الصربي الخاطف والوحشي على أراضي البوسنة، تمكّنت القوات الصربية من السيطرة على ٧٠٪ من الأراضي. وقتها كان المسلمون يعيشون مرحلة الخروج من الصّدمة ومحاولة لملمة القوى للتّصدّي لهذا العدوان، مستعينين بحلفائهم كروات البوسنة الذين يواجهون مع المسلمين نفس الخطر التوسعي الصربي، وكان الرئيس البوسني علي عزت بيغوفتش قد وقّع اتفاق التعاون العسكري مع الرئيس الكرواتي فرانيو توجمان بهدف توحيد القوى للتصدي للعدوان الصربي على الأراضي البوسنية والكرواتية.
ولكن لم تكد تمضي شهور على هذا العدوان حتى بادرت قوات جيش الدفاع الكرواتي (المكوّنة من كروات البوسنة والمدعومة من دولة كرواتيا) لمحاولة السيطرة على أراضٍ يسكن فيها كروات البوسنة، وكانوا يريدون ضمّها لكيان «هرسك بوسنة» الذي أسّسوه في يونيو/حزيران ٩٢ ليكون دولة خاصة بهم، ولتكون الفرصة متاحة فيما بعد للانضمام إلى كرواتيا وتشكيل «كرواتيا الكبرى». هنا ظهرت معالم الاتفاق القائم بين رئيسي جمهوريتي صربيا وكرواتيا بتقسيم البوسنة والهرسك بينهما، مع ترك مساحة صغيرة في المنتصف لتكون دولة للمسلمين.
كان لا بد من إزالة العقبات من طريق تحقيق هذا الحلم، فبدأت قوات الدفاع الكرواتية المكوّنة من متطوعين ومن أفراد شرطة عسكرية بالاستيلاء على المناطق والمدن التي تتضمن خليطًا من الإثنيتين: الكرواتية والبشناقية، ودفع سكانها البشناق إلى المغادرة،فامتلأت معسكرات الاعتقال، ونشطت التفجيرات التي تستهدف البشناق المسلمين، ونقض الكروات تحالفهم مع البشناق وتعاونوا مع الصرب في محاولة الاستيلاء على البلدات المسلمة.
لوحة لصور من المجازر التي تعرض لها مسلمو البوسنة والهرسك
ما بعد اتفاقية السّلام
حاولت القيادة السياسية الكرواتية تغطية القضية بأكملها أو إلقاء اللوم على الطرف الآخر في الحرب في البوسنة، وحصل تبادل للاتهامات حول من هو المسئول عن المجزرة، ثمّ ألقت السلطات الكرواتية في عام ٢٠٠٠ القبض على اثنين اتهمتهما بالضلوع فيها، وذلك بهدف تثبيت مساهمتها في مكافحة جرائم الحرب، وهو الموضوع الذي شكّل أهمية استراتيجية لقبول كرواتيا في المجموعة الدولية وتحسين فرص انضمامها للاتحاد الأوروبي.
أما المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، فقد اعتبرت ما جرى في أهميتشي جريمة ضد الإنسانية، وحاكمت عدة مسئولين من كروات البوسنة منهم قائد قوات كروات البوسنة السابق الجنرال تيهومير بلاسكيتش بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وحكمت على الجنرال بالسجن ٤٥ عامًا خُفّفت بعد الاستئناف إلى ٩ سنوات، كما حكمت على داريو كورديتش، العضو السابق في رئاسة «هرسك بوسنة» الكرواتية، بالسجن ٢٥ عامًا، وأحالت قائد كتيبة الشرطة العسكرية الرابعة باشكو لوبيتشيتش إلى السلطات القضائية في البوسنة والهرسك التي حكمت عليه بعشرة أعوام.
وفي ١٥ أبريل/نيسان ٢٠١٠، قام الرئيس الكرواتي المنتخب حديثًا حينها إيفو يوسيبوفيتش، يرافقه الكاردينال البوسني فينكو بولجيتش، بزيارة إلى النصب التذكاري لضحايا أهميتشي، ووضع إكليلًا من الورد، وقدّم اعتذارًا رسميًا يحسّن صورة كرواتيا أمام الرأي العام البوسني والعالمي، ولكن لا يمحو هذه الجريمة النّكراء من سجل عدوّ غادر كان حليفًا يومًا ما.