أحمد منيب وحمزة الدين: رحلة موسيقى النوبة حول العالم
ربما استمعت للموسيقى النوبية، موسيقى أحمد منيب وحمزة الدين، وبعدهما محمد منير، ولاحظت أن موسيقاهم دائمًا تملك روحًا مختلفة عن غيرهم روحًا تميِّز النوبة، هذه الروح المميزة أتت نتيجة لقرارات المطربين النوبيين بالاعتزاز بأصلهم النوبي وإضافته لثقافة أهل القاهرة والأقاليم الشمالية.
في أحد المقابلات لمنير مع عمر طاهر يقول منير إنه حرص على المساهمة في التنوع الإيقاعي، فلم يذهب للإيقاعات المشهورة، واحتفظ بالإيقاعات العرجاء Syncopated النوبية، وكذلك حرص على التنوع النغمي (الميلودي) في مصر بإضافة السلم الخماسي الأشهر في النوبة إلى فن الأغنية المصرية؛ لأن الوطن واحد ومشاعره واحدة على الرغم من اختلاف طرق التعبير.
تكوين الأغنية النوبية
تتكون الأغاني المصرية بشكل عام من ثلاثة مكونات، الشعر الغنائي والإيقاع واللحن، وإذا نظرنا إلى الأغاني النوبية فلغة الأشعار القديمة كانت نوبية بالأساس، وهي اللغة الأم للنوبيين، وليست العربية، أمَّا الإيقاعات العرجاء – التي يقول منير إنه جمعها لأنها تمثله – فهي الإيقاعات النوبية، سواء الهادئة أو الراقصة منها، وهي كاللغة النوبية تمامًا تختلف عن باقي الإيقاعات المصرية، فلغة الجنوب الموسيقية كانت غير لغة الشمال، ولكن أحداث النوبة والتهجير دفعت النوبيين نحو الشمال رويدًا رويدًا، حتى اختلطت لغتهم باللغة العامية المصرية، فتحولت لغة الغناء والأشعار النوبية إلى الفصحى العربية أو العامية المصرية دون أن تتغير الإيقاعات، فحافظت على أصلها الجنوبي.
وأمَّا اللحن فيتميز النوبيون بالتعدد اللحني بين المقامات الشرقيَّة وبين السلم الخماسي القديم، وهذا الأخير ذو علاقة طويلة مع المصريين تمتد لآلاف السنين اختفت في الشمال في بعض الوقت، ولكنها عادت مرة أخرى على أيدي فناني النوبة.
أصول السلم الخماسي والإيقاع النوبي
ما نراه ليس معادلة رياضية، أو هي كذلك ولكن بمفهومنا الحالي عن الرياضيات، ولكن لو عدنا خمسة آلاف عام للماضي لوجدنا أن هذه المعادلة البسيطة هي الحياة الإنسانية كاملة عند المصريين القدماء.
يعبر الرقم 2 عن إيزيس في ترتيب قصة الخلق المصرية القديمة، والتي تمثل عقل الكون، ويعبر الرقم 3 عن أوزوريس الذي يمثل روح الكون، ولا بد عند ذلك من أن تتحد هاتين الصفتين ليظهر الجسد فيولد حورس الرقم 5، الذي يعبر عن الأمل والحيوية المتجسدة، وهو خير شبيه للإنسان من وجهة نظرهم يعيش حياة بشرية، يواجه خصومه ويعتز بقيمه قبل أن يعود مرة أخرى للأعالي.
كان الإنسان المصري القديم مؤمنًا بأن كلًّا من إيزيس وأوزوريس قد اتحدا لوضع المساحة الموسيقيَّة ليجسدها حورس كما يجسد الصفات البشرية كلها برقمه المميز 5 الذي يتوافق مع عدد النغمات الموسيقية في السلم الخماسي. تتعاقب الحضارات على مصر، وتمر القرون ويبقى السلم الخماسي محافظًا على مكانه وسط النوبيين في مصر، فلا عجب إذا رأينا حمزة الدين يشرح أصوات الدف كأنها مقابلة لعناصر الكون الأربعة في مصر القديمة، تتحد العناصر الأربعة معًا حتى يعزف لاعب الإيقاع ذاته.
وهكذا الإيقاع النوبي الذي قدمه حمزة علاء الدين ليس مجرد إيقاع بسيط بل يحمل إحساس الإنسان النوبي بالطبيعة حوله وبالمساحات الواسعة والزراعة وبالنيل والنار. هذه الإيقاعات تحمل بداخلها القدرة على تحريك جسد أي إنسان على الطريقة النوبية لاختلافها تمامًا عن الإيقاعات الشرقية العربية، ومن هنا يمكننا أن نفهم اعتزاز محمد منير بالإيقاعات العرجاء؛ لأنها تمثل شخصيته وتاريخه وأصلًا خاصًّا من أصول الثقافة المصرية.
رحلة موسيقى النوبة
(1) من الجنوب المصري للعالم: حمزة علاء الدين
شاب في منتصف الثلاثينيات يسمى حمزة علاء الدين يتقدم لإحياء حفل الأمم المتحدة في عام 1964، فيتعرض للرفض في البداية بدعوى أن موسيقاه ليست كلاسيكية! فيرد حمزة بكل ثقة بل هي أكثر كلاسيكية من موسيقاكم، أنا أعزف موسيقى نوبية، وهذا الحفل يمثل الأمم جميعًا، فتوافق اللجنة ليصبح أول موسيقار مصري يحيي حفل الأمم المتحدة.
تبدأ رحلة حمزة علاء الدين في ثلاثينيات القرن العشرين في أراضي النوبة قبل بناء السد والتهجير، حيث كان حمزة يستخدم البوص ليصنع منه التار، وهو آلة موسيقية نوبية قديمة، ويقلد به صوت الحمام، ثم تطور الأمر لاستخدامه الدف والغناء حتى أرسل له والده الذي كان يعمل في القاهرة حتى ينضم إليه، فعمل في شركة سكك حديد مصر، و اشترى بأول راتب له عوده، وضبطه له الراحل الشيخ زكريا أحمد.
من القاهرة للنوبة مجددًا ثم السودان وإيطاليا واليابان وأمريكا، امتدت رحلة حمزة علاء الدين سفيرًا للموسيقى النوبية على مستوى العالم، حتى إنه كان أول موسيقار عربي يقدم موسيقاه على مسرح الأمم المتحدة في الستينيات.
قدم حمزة الدين أحد عشر ألبوم من عام 1964 وحتى عام 1999، منها أغانٍ تراثية نوبية، ومنها أغنيات أخرى بالعربية الفصحى والعامية المصرية والسودانية.
أما على مستوى الألحان فقد تنوعت استخدمات حمزة للمقامات الموسيقية، فبين السلم الخماسي وبين المقامات الشرقية قدم حمزة تجديدًا في شكل اللحن النوبي، وجعله ينطق بمقامات لم يكن ينطق بها من قبل.
ولهذا يعتبر حمزة علاء الدين في الخارج من رموز ما يسمى الموسيقى العالمية World music التي انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين من أجل التواصل الموسيقي والحضاري بين شعوب العالم.
(2) من الجنوب المصري إلى كل بيت في مصر: أحمد منيب
أحمد منيب من مواليد العشرينيات، تعلم العزف وبدأ حياته الموسيقية كعازف عود في الخمسينيات وقدَّم مع الشاعر النوبي الكبير محيي الدين شريف عددًا كبيرًا من الأغاني النوبية.
وفي أواخر السبعينيات وبدايات الثمانينيات بدأ تعاون أحمد منيب مع فرقة يحيى خليل وهاني شنودة، وبعد ذلك حميد الشاعري بشكل جعله يقدم قالب الغناء المصري بطعم نوبي، محافظًا على الإيقاعات في الموسيقى والروح النوبية في الكلمات؛ روح ذلك الجيل النوبي الذي يستشعر الشوق لأرضه والغربة في المدينة الكبيرة. فتتميز ألحان أحمد منيب بالأصالة النوبية وإحساس النوستالجيا لأراضي النوبة الغارقة، واستخدام مقام الكرد بشكل متكرر في أغانٍ كثيرة لقدرته على التعبير عن الشجن كما يفهمه المصريون.
وفي الثمانينيات استطاع حميد الشاعري أن يقدَّم لون الغناء الإلكتروني بشكل يحبه المستمع المصري بعد محاولات أولى لم تلقَ النجاح الكافي، وكان تعاونه مع محمد منير في ألبوم اتكلمي وأحمد منيب في ألبوم مشتاقين عن طريق توزيع بعض من ألحانه النوبية دليلًا على التنوع الفني حينها، فمؤلف ومغنٍّ مصري وموزع ليبي يقدمان أغاني تحقق نجاحًا كبيرًا في مصر.
واستمر أحمد منيب في الإبداع، في خلال عشر سنوات استطاع أحمد منيب بالتعاون مع المطرب الصاعد حينها محمد منير والشاعر عبد الرحيم منصور دخول كل بيت مصري بكلماتهم وألحانهم، وانتزعوا إعجاب الملايين بموسيقى النوبة التي طالما تعرضت للتهميش في الإذاعة المصرية بعدما لحَّن 45 أغنية لمحمد منير.
ربما لم يحظَ حمزة علاء الدين بنفس شهرة أحمد منيب في مصر، وربما لم يحصل منيب كذلك على حقه كاملًا كما يقول حميد الشاعري عنه وعن عبقريته الفطرية، ولكن بلا شك فإن كل مهتم بالموسيقى النوبية يعتبر كلًّا منهما قدوة ويستطيع أن يستمع لتراث النوبة القديم في ألبوماتهما محفوظة من الضياع، فلم يكونا مجرد مطربين أو ملحنين، بل كانا حريصين على نقل التراث النوبي والحفاظ عليه من الغرق في الماضي.