أحمد خالد توفيق: في رثاء أسطورتنا
يعز عليّ أن أكتب عنه كلامًا أنا أعلم يقينًا أنه لن يكون بوسعه أن يقرأه أو يعرفه أبدًا، لكني سأقوله على أية حال، فلو لم أفعل لاختنقت به، ولأنني مدينة له بذلك على الأقل.
كانت بدايتي مع عالمه صدفة، فقد كنت حينها – مثل الكثيرين ممن كانوا في عمري – عضوًا مخلصًا في نادي د. «نبيل فاروق» المشوق بكل تفاصيله، ولم أكن أتصور شكلًا آخر للقراءة أو القصص، وإذا بأحد أعداد فانتازيا – «حكايات من والاشيا» – يقفز بين يدي دون قصد مني أو سابق معرفة، داعيًا إياي في صمت أن أفتحه وأتصفحه، وقد فعلت وظللت – دون مبالغة – أكثر من نصف ساعة واقفة على قدمي دون أن أشعر بمرور الوقت حتى أنهيت أكثر من نصفه، وشعرت حينها أني مقبلة على عالم آخر كنت أفوته على نفسي لوقت طويل، عالم أنتمي إليه حقًا. ومنذ تلك اللحظة الفارقة تعددت زياراتي لهذا العالم كثيرًا حتى بلغت حد الإدمان! لكنه الإدمان الذي يرقى بصاحبه ولا يؤذيه، ويهذب أفكاره ومشاعره ورؤيته للحياة ولنفسه باستمرار.
لست ناقدة أدبية، لكني مؤمنة بأن ما جذبنا لقصصه شيء خاص أكبر بكثير من الحبكة أو المضمون أو عنصر التشويق، شيء أشبه بالسحر الخام الذي يبثه الكاتب من روحه دون أن يشعر. البساطة التي يخاطب بها قراءه وهو عاجز عن الإتيان بغيرها، لأنه عاجز أن يصبح شخصًا آخر غيره. الصدق الذي يشع من كل كلمة وكل حرف، والذي جعله أثيرًا دون جهد. إنه هو الذي أسرنا أكثر من كتاباته!
كان حلمي لفترة طويلة جدًا أن أقابله وجهًا لوجه، ولو أني أعرف مسبقا أني لن أجد ما أقوله وقتها لكثرة الكلام الذي يتزاحم في نفسي من أجله، لكن كان سيكفيني فقط أن أخبره أنه قدوتي الحقيقية في الحياة منذ طفولتي، وأنه خلال تلك الفترة وكل ما تلاها قد ساعدني أن أنضج بشكل صحي، وأن أسعى على الدوام لأن أصبح شخصًا أفضل.
خطر ببالي هذا الحلم العزيز وأنا أقرأ خبر وفاته – الذي لا أكاد أصدقه حتى هذه اللحظة! – مما أشعرني بالحسرة مرتين، لأني قد ودعت حلمًا ملحًّا في نفس اللحظة التي ودعت فيها إنسانًا كان أقرب إليّ – في بعده – من كثيرين حولي لم يستطع أحدهم أن يترك في نفسي نفس الأثر الذي تركه هو.
لكن عزائي أني قد تواصلت معه قبل رحيله بفترة كافية عبر بريده الإلكتروني، وقد فاجأني باهتمامه بالرد دائمًا رغم كثرة رسائله وأعبائه، لذا لم يكن غريبًا على كل من قابله شخصيًا أن يعود ليؤكد لنا أن الصورة التي رسمها كل منا في خياله له لا تفيه حقه على الإطلاق، وأنه في الواقع أكثر سحرًا بكثير مما ظننا.
ببساطته المدهشة، وتواضعه الجم، وصدقه النبيل، وسخريته التي لطالما أثارت فينا عمق التفكير وليس الحنق، استطاع بجدارة أن يكون عرّاب هذا الجيل وحامل همه. اللقب الذي لم يسع إليه لحظة، بل على العكس كان يرعبه ويشعره بثقل المسئولية الملقاة على عاتقيه ظنًا منه أنه لا يستحق هذه المكانة!
ممكن التفهم كم هو من الصعب على من هم خارج نطاق عالمه الرحب – الذي يتحدث أفراده نفس اللغة ويضحكون على عبارات لا يفهمها سواهم – أن يفهموا لمَ كل هذا الحزن؟ لمَ كل هذه الحرقة؟ لكن يظل من العسير علينا أيضًا أن نشرح أو نبرر علاقة دامت لسنوات وسنوات وكان قوامها ود الصداقة أو الأبوة بمعنى أدق، ودفء الموهبة الهادفة.
سنوات عشناها أطفالًا ثم مراهقين ثم شبابًا مع رجل عرف كيف يربينا ليزرع فينا كل ما هو جميل بقلمه وبخياله، دون أن يلقي علينا المواعظ أو يخط لنا الدروس المستفادة في نهاية كل قصة.
كان هو فقط، وكان ذلك كافيًا، حقيقيًا دون زيف، ثابتًا على مواقفه مهما تغير الجميع، حافظًا لبريق بساطته الخلاب رغم شهرته الواسعة، متنازلًا بإرادته الحرة –كما اعتاد أن يقول – عن الكثير مما يستحق مقابل حب صادق من أولاده وأبناء قلمه. أعتقد أن حلمًا بسيطًا حمله معه حتى رحيله وهو أن يكتب على قبره (جعل الشباب يقرأون) يلخص حياته وكل ما كان عليه بشدة.
قالها من قبل ولم يقصد بها نفسه طبعًا لكننا الآن نقصده. كان وجودك في حياتنا إضافة جميلة سنفتقدها ما حيينا، لكننا ممتنون لها إلى الأبد. سيؤلمنا لفترة طويلة كونك لن ترد على رسائلنا ولن تقرأها حتى كما اعتدت أن تفعل دومًا، وأن بريدك الإلكتروني سيصبح فارغًا بعد فترة تمامًا كأرواحنا الحزينة على فراقك.
سيؤلمنا أن ننتظر بأمل ردك الساخر على كل مشكلة أو قضية كبرى تعصف بنا دون جدوى، وأن نجد أنفسنا لأول مرة وجهًا لوجه مع الألم دون أي مسكن كالذي كانت كلماتك تمدنا به. سيؤلمنا أننا سنطالع أحدث إصدارات الكتب بلهفة أولًا بأول فلا نجد بينها ما يحمل اسمك.
سيؤلمنا طويلًا أن حكمتك، ونبل أخلاقك، وإنسانيتك، وموهبتك قد غابوا عنا إلى الأبد. كم تمنيت لو تقرأ كل ما كتب عنك الآن، أن ترى بعينيك صدق الحب الذي منحته لأبنائك فقاموا برده إليك أضعافًا، لكنك على الأرجح كنت ستحني رأسك في خجل قائلًا بصدق: