د. أحمد خالد توفيق: وداعًا للأبد وحتى تحترق النجوم
عندما أشعر بالألم، أخلد إلى النوم، وعندما أصحو أجده اختفى.. لماذا إذن لم يختفِ الألم الذي يعتصر قلبي منذ الأمس؟ ذهني مشوّش وأشعر أنني أتنفس في ماء ثقيل. للمرة الأولى أعرف ماذا تعني لفظة «حزن كثيف». أنا أشعر بالحزن من حولي، يمكنني لو مددت يدي أن أمسكه.
مشهد 1 ليل داخلي، مساء أمس
أجلس في الفراش ممسكة بطفلي الصغير، ألاعبه وأتصفح هاتفي الذكي، يصلني إشعار أن زميلي محمدًا نشر شيئًا على مجموعة العمل، شيء ما دفعني لفتح المنشور رغم أنني أعرف أنه لا يخص عملي بأي شكل، وجدته يقول إن خبر وفاة دكتور أحمد خالد توفيق صحيح، في البدء لم أستطع استيعاب ما قرأته، ابتسمت كما أبتسم تلقائيًا عندما أقرأ اسمه، ثم ترجم عقلي الكلمات دفعة واحدة.
أشهق، ينتفض زوجي ويلتقط طفلنا من بين يدي يسألني ماذا حدث، أنظر له في ذهول، أحاول أن أنطق فلا أجد كلمات ولا أجد صوتي، أنظر له فقط وأشهق، يلتقط الهاتف من يدي ويصرخ سائلاً ماذا حدث، ماذا رأيت، يقرأ الكلمات ويجلس أمامي بصمت، طفلنا المشاكس يهدأ أيضًا، يصمت كل شيء لثوان قبل أن يربت زوجي على ركبتي فأنطلق في البكاء، يحتضنني فأظل أردد: «الدنيا عمالة توحش.. الدنيا عمالة توحش».
مشهد 2 نهار داخلي، قبل أربعة أشهر
أمسك بهاتفي مترددة، أحزم أمري وأكتب: «أصبح لك حفيد – أنا نصبتك أبي منذ الأبد – يبتسم بزاوية فمه اليسرى مثلي ومثل سالم وسلمى، و(اسمه أدهم)».
بعدها بساعات أتلقى رسالة أفتحها فأقرأ: «ألف مبروك يا ابنتي العزيزة، و(اسمه أدهم) كمان؟».
مشهد 3 نهار داخلي، قبل أكثر من عام
يدق هاتفي برقم غير مسجل، أرد بعدائية كعادتي فيتلقاني صوت مرتبك، أستاذة إنجي؟ أنا أحمد خالد. أتقافز وأردد كلامًا أبله يجعله يرتبك أكثر، يخبرني أنه يهاتفني ليشكرني على مقالي عنه في الجريدة، أتقافز أكثر، أمازحه فيلتقط الخيط في ذكاء وبراعة، أشكره بحرارة على كل شيء، يغير الموضوع كي لا أشكره أكثر، أغلق الهاتف وأنا أضمه إلى قلبي.
مشهد 4 ليل داخلي، قبل عشرة أعوام تقريبًا
أسافر من الإسكندرية إلى طنطا كي أحضر ندوة لأراه فيها، يرتدي بدلة رمادية وحذاء جلديًا أسود، نتبادل أطراف الحديث ثم يتساءل من سيوصلني إلى محطة القطار عندما عرف أني أتيت من بعيد كي أراه، يحفظ اسمي الذي سيطارده بعدها طويلاً.
بالأمس
مات صديقي ومعلمي وأبي، انتقل فجأة إلى عالم آخر لن يمكنني فيه أن أقابله وأرفض أن ألتقط معه صورة وأقول لأصدقائي أن علاقتي به أعمق من ذلك، ذهب إلى عالم لن يغريني فيه أحدهم أن أذهب إلى ندوة يحضرها هو وأرفض وأقول إنني لا يجب أن أراه وسط الحشود كالآخرين، اختفى من عالمي حبيبي الأول الذي علمني نصف ما أعرفه وأشار لي إلى الطريق الذي عرفت منه النصف الآخر.
كنت مراهقة سمينة سمراء ترتدي عوينات مدورة ومتجهمة دائمًا، أحمل في قلبي ثقلاً لا يفهمه أحد ولا يريدون أن يفهموه، كنت أحمل عقدي ومشاكلي النفسية وحدي، أمشي بها بين الناس فيبتعدون عن طريقي، كنت مرفوضة، أول من رفضني كانت المراهقة السمينة السمراء التي تطل علي من المرآة.
فجأة وجدته، شخصًا يخبرني أنه لا بأس أن أكون قبيحة، في الحقيقة هو أخبرني أنني لست قبيحة أصلاً، هل كان هذا الكلام موجهًا إلى كل من قرأ رواياته أم كان يكتبه لي خصيصًا؟ هناك شخص ما آمن بي عندما كفر بي العالم وكفرت بنفسي، هذا الشخص اسمه أحمد خالد توفيق، هذا الأحمد خالد توفيق مات أمس، مات وتركني أتساءل كيف يمكن لكل هذا الحزن أن يولد في لحظة داخل قلبي، مات وتركني أجتر مشهد معرفتي بخبر موته وتلقي كلمات أصدقائي الذين يعزونني فيه فلا أعرف بم أجيبهم؟
عشت طويلاً أتخيل وقْع خبر موته على نفسي، وضعت سيناريوهات كثيرة كان أكثرها راحة أن يتأخر موته حتى أكبر أنا، كنت أحسب عمره وأقول لنفسي عندما يرحل سأكون في الأربعين مثلاً، كبيرة بما يكفي لأتقبل الخسارة، ناضجة بما يكفي لأفهم الموت، مشغولة بما يكفي لئلا أتذكر ماذا كان يمثل لي، فيرحل وأنا في الثلاثين وأفاجئ نفسي بهذا الألم الذي يعتصر عقلي، أنا لست كبيرة عليك يا حبيبي، كل يوم أكبره تترسخ في داخلي أكثر، لولاك ما كنت أنا أنا، وما كانت حياتي ستستقيم.
أحاول أن أتخيل كيف كانت حياتي ستكون لو لم أقابله، لو لم تشتر لي أمي أسطورة التوأمين في طريقنا للمدرسة الإعدادية كي نقدم أوراقي؟ هل كنت سأصبح عادية فقط أم كنت سأصبح سيئة أيضًا؟ هل كان غضبي المراهق من العالم سيتطور ليكون قسوة وسخط دائمين، أم أنني كنت سأهادن العالم وأتعلم الخضوع؟ ماذا كنت سأعمل؟ كيف سيكون شكل مزاحي؟ كيف كنت سأختار من أحبه؟ كيف كنت سأحزن؟ ماذا كنت سأصبح الآن، وأنا على مشارف الثلاثين؟
الأكيد أنني كنت سأصبح أي شيء سوى ما أنا عليه الآن، حتى أصدقائي لم أكن سأتعرف عليهم، عملي وحياتي، شكل منزلي، حتى ميدالية مفاتيحي ستكون مختلفة ولن يكتب عليها «للأبد.. وحتى تحترق النجوم»، لولاه لما حققت أي شيء، لولا هذا الحب الذي غمرني به كنت سأكبر لأكون مسخًا مشوهًا، أو ربما دجاجة بلهاء لا تفقه شيئًا عن أي شيء.
لا أتخيل أنني أرثيك اليوم، أنت مت فجأة أيها الغالي، مصابي فيك كبير جدًا، أنت لم تكن كاتبًا ولا حتى رمزًا بالنسبة لي، أنت كنت أكثر شخص حقيقي قابلته طوال العشرين سنة الفائتة، سوف أشهد أمام الله أنه لم يأتيني منك إلا خير، أعرف أنك تهاب الموت ولكن لا تقلق، نحن هنا جميعًا ندعو لك.
سأتذكرك، سأتذكر صوتك وحركة رأسك المائلة في خجل، تشبيكة أصابعك وأنت تتحدث، شعرك المشتعل شيبًا مبكرًا جدًا، شفاهك الداكنة وحاجبيك الكثيفين، ابتسامتك الخجول ومشيتك المتأنية، طريقتك في الكلام وأصابعك المستندة لجبهتك أو ذقنك وأنت تستمع، مخارج ألفاظك المميزة وحرفي السين والصاد فيهما، سأظل أتذكر طيبتك ورقتك ونبلك، لن أنسى أخلاقك ولا رقيك، ولن أنسى الثاني من أبريل يوم فقدتك للأبد.
وداعًا يا صديقي، وداعًا يا أبي، وداعًا يا حبيبي، عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيرًا.