«أحمد جرار» وإخوته: شهداء ورثة شهداء
كان يعلم أن مصيره الاستشهاد أو الاعتقال. ولكن مثله مثل غيره من أبطال المقاومة لم يكن الخوف يجد طريقًا إلى قلبه، فكل ما يريده ويسعى إليه هو الانتقام من ذلك الاحتلال الغاشم الذي اغتال أباه.
استطاع ذلك الشاب العشريني إرباك دولة الاحتلال بكل أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، كاسرًا هيبتها أمام شعبها حتى وصل الأمر إلى الصراخ:
أكثر من ثلاثة أسابيع أمضاها الاحتلال في البحث عن ذلك الشبح حتى جن جنونه؛ فكيف لهذا الشاب أن يهرب وسط تلك التعقيدات الأمنية والرقابة وعمليات المداهمة المكثفة؛ كيف له أن يتمكن من الهرب من ثلاث مرات في يومواحد!سقط أحمد جرار شهيدًا، ليلحق بإخوته في المقاومة، الذين ساورا على درب الآباء.
شهداء أبناء شهداء
«أحمد جرار»
كان هذا ما كتبه أحمد قبل أربع سنوات على صفحته على «فيسبوك» طالبًا الشهادة. واليوم تحقق له ما تمناه والتحق بوالده الشهيد «نصر جرار» القائد في حماس الذي اغتالته قوات الاحتلال في 2002.
ستة عشر عامًا عاشها الشهيد العشريني يتيمًا. ومثله مثل غيره من الشباب الفلسطيني ذاق مرارة الاحتلال وعانى ويلاته. إلا أنه أكمل حياته مشتغلًا بالتجارة والبيع والشراء بعد أن أنهى تعليمه الجامعي.
كان «جرار» كتومًا هادئًا لم يعرف عنه أي نشاط أو اهتمام خارج عمله التجاري، إلى أن ذاع صيته في التاسع من يناير/كانون الثاني 2018، حينما اتهمته إسرائيل بقيادة الخلية التي نفذت «عملية نابلس»، والتي قتل فيها المستوطن «أزرائيل شيفح» قرب البؤرة الاستيطانية «حفات جلعاد».
كما هو المعتاد منه عاد «جرار» إلى مزاولة أعماله التجارية. لم يظهر عليه أي ملامح للارتباك، حتى إن أمه التي تعيش معه في بيت واحد لم تكن تعلم أو تشعر أن ابنها اتخذ من المقاومة سبيلًا، مقتديًا بأبيه الشهيد.
بالرغم من هذه الحالة من الهدوء فإن دولة الاحتلال وقواته ما كانت لتهدأ قبل أن تتعرف إلى منفذ العملية. فبدأت إجراءاتها في البحث عنه إلى أن وجهت أصابع الاتهام إلى «جرار». وكما تم مطاردة أبيه من قبل الاحتلال على مدى عام ونصف -حيث كان المسئول عن التخطيط للعمليات الاستشهادية– تم مطاردة الابن لمدة ثلاث أسابيع.
نفذت قوات الاحتلال على مدى الأسابيع الثلاثة حملات عسكرية واسعة في مناطق عدة من محافظة «جنين» بحثًا عن «أحمد»، الذي تحول إلى رمز للمقاومة. إلى أن تمكنت في النهاية من الوصول إلى مكانه. وما إن شعرت بتحركه داخل منزل مهجور حتى باغتته بنيران كثيفة ومباشرة. استمرت العملية لأكثر من ثماني ساعات، قاتل خلالها ابن الشهيد من مُنتصف الليل حتى الثَّامنة صباحًا، ظل مُحاصرًا طوال الليل من قبل 100 من جنود الاحتلال، رافضًا الاستسلام.
أمام هذا الصمود الباسل لم يكن أمام قوات الاحتلال سوى نَسف جُزء من المَنزل الذي احتمى فيه للوصول إليه. حتى تمكنت من إسقاطه شهيدًا. وبالرغم من نجاحها في هذا، فإنه تحول إلى رمز جديد من رموز المقاومة يحظى بشعبية هائلة ونموذج فلسطيني يحتذى به.
«مصباح فايق شبير»
لم يمضِ على ولادته سوى ثلاث سنوات، حتى زادت جرائم الاحتلال وطالته هو وأسرته كاملة. فقد استشهد والده «فايق شبير» في 1993 على أيدي قوات الاحتلال، ليعيش مصباح حياة اليتم والبأس.
حاولت الأم تعويض غياب والده، إلا أن ذلك لم يمنعه من اختيار سبيل المقاومة كسائر أبناء جيله. التحق مصباح بصفوف «كتائب القسام» عام 2008، وأبدى الكثير من الحماس والشجاعة حتى تم اختياره ليكون أحد أفراد وحدة الاستشهاديين بالكتائب.
خاض الشهيد الابن العديد من الدورات العسكرية التي أنهاها بتفوق كبير، ما أهّله لاحقًا لأن يصبح أحد أفراد قوة النجدةٍ والإنقاذٍ التابعة لـ«كتائب القسام». ومن خلال تلك الوحدة كان مصباح يساهم في عمليات إنقاذ المجاهدين في الأنفاق حال انهيارها أو تعرضها للضرب من قبل قوات الاحتلال.
كانت الحادثة الأشهر في عمليات الإنقاذ التي شارك خلالها مصباح يوم أن حُوصر 30 مجاهدًا، في أحد الأنفاق التي تم استهدافها من قبل الاحتلال خلال عدوان 2014، حيث جرى إنقاذ 24 منهم بعد 21 يومًا من احتجازهم بداخله.
استمر مصباح في القيام بمهامه ومساعدة المجاهدين وأفراد المقاومة يومًا بعد الآخر إلى أن جاء اليوم الموعود في الـ 30 من أكتوبر/تشرين أول الماضي. حيث استشهد مصباح ولحق بأبيه بعدما قصف الاحتلال نفقًا لعناصر «سرايا القدس»، فأسرع الشهيد لإنقاذ العالقين في النفق إلى أن استشهد هو الآخر.
أبناء سبقوا آباءهم إلى الاستشهاد
«إبراهيم نزار ريان»
سلك «إبراهيم» طريق المقاومة ضد الاحتلال اقتداءً بأبيه القائد السياسي والعسكري البارز في حركة حماس «نزار ريان»، الذي اغتالته إسرائيل عام 2009، بقصف جوي على منزله في مخيم «جباليا».
كان للقائد الأب تاريخ مشرف في مسار المقاومة؛ فقد تم اعتقاله العديد من المرات من قبل الاحتلال إلى أن تمكنت حماس من السيطرة على القطاع في يونيو/حزيران 2007، حيث التحق بها ليكمل مساره في مقاومة الاحتلال.
وبالرغم من أن «إبراهيم» قد سبق أباه إلى طريق الاستشهاد، إذ اسُتشهد عام 2001، فإنه كان قد تشبع بفكر المقاومة وحمل لواءه وحقق به هو الآخر العديد من الإنجازات. حيث التحق بحركة بالكتائب،وبدأ يشارك في عمليات المقاومة النوعية، وزراعة العبوات الناسفة للدبابات الإسرائيلية، وكان من الأوائل الذين استطاعوا اقتحام الاحتلال في عقر داره كاسرًا نظريته الأمنية والعسكرية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2001 استطاع «إبراهيم» اقتحام مستوطنة «إيلي سيناي»، شمال بلدة «بيت لاهيا»، حيث اشتبك مع قوات الاحتلال، ما أدى إلى إصابة 13 إسرائيليًا منهم ضابط كبير بالجيش، حتى استشهد على أيدي قوات الاحتلال.
«محمد أحمد الجعبري»
ابن القائد العسكري «أحمد الجعبري» الذي اغتالته إسرائيل في 2012. انضم الشهيد الابن لصفوف حماس بعد خروج والده من سجون الاحتلال عام 1995 بعدما أمضى فيها 13 عامًا. فكان الذراع اليمنى لوالده، يرافقه في كل تنقلاته، فكان بمثابة الابن والصديق لوالده.
كان لوالده سيرة مشرفة في مقاومة الاحتلال منذ شبابه؛ حيث تعرض للسجن وانضم إلى حركة حماس التي ترقى فيها سياسيًا وعسكريًا حتى صار نائب القائد العام لذراعها العسكرية، كتائب القسام. واستطاع تطوير إمكانيات الكتائب وتحويلها خلال فترة وجيزة من تشكيلات متفرقة إلى ما يشبه جيشًا نظاميًا يُقدر عدده بنحو 20 ألف مقاتل منضبط، ويمتلك ترسانة متنوعة من الأسلحة المتوسطة والخفيفة تُمكّنه من إدارة معركة كاملة.
وكما اتخذ من والده رفيقًا له، اتخذ كذلك من مساره نهجًا له في الحياة. حيث انضم إلى «كتائب القسام» وتمرس في العمل العسكري ضد الاحتلال حتى أصبح أحد أعضاء فرقة التصنيع والتجريب التابعة للكتائب.
استطاع «محمد» كذلك أن يثبت نفسه حتى تم اختياره ليكون ضمن فرقة الوحدة الخاصة (وحدة بكتائب القسام تتكلف بأصعب المهام وأقساها، ومدربة على معظم الأسلحة والتدريبات العسكرية من خطف وقنص ومواجهة في أشد الظروف). ومن خلال عمله بتلك الوحدة قام بالعديد من عمليات المقاومة ضد الاحتلال.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصبح «محمد» مُدرِبًا لأبناء المقاومة، وتخرّج من تحت يديه ما يزيد على 20 دورة عسكرية تابعة للقسام.
وفي أغسطس/آب 2004 استهدفت طائرات الاستطلاع التابعة للاحتلال بيت الشهيد «الجعبري»، حتى استشهد «محمد» وأفراد أسرته وتناثرت دماؤهم وأشلاؤهم جمعيًا. إلا أن القدر شاء أن ينجو والده القائد «أحمد الجعبري» ليستكمل مسيرة المقاومة، إلى أن تم استهدافه هو الآخر بغارة جوية في 2012، ونال الشهادة على إثرها.
ختامًا، يجب التأكيد أن هذه هي مجرد نماذج على سبيل المثال وليس الحصر لأبناء حملوا مسيرة آبائهم في المقاومة ضد الاحتلال، وانتهى الأمر بهم إلى الاستشهاد. وإذا كانت إسرائيل قد استطاعت اغتيال هؤلاء الشهداء وآخرهم جرار، فلها أن تسأل الآن: هل انتهى الأمر بذلك؟ هل ستتنفس الصعداء؟ وماذا عن بقية المقاومين؟