أحمد حسن الزيات: الحج .. لبيك اللهم لبيك
في هذا المقال يحث الأديب الكبير، ومؤسس مجلة الرسالة المصرية العريقة، الأديب الأريب «أحمد حسن الزيات» (1885- 1968م) القراء على أداء فريضة الحج في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، وقد تيسّرت سُبل النقل، وعم الأمن في بلاد الحجاز، ولا يكتفي الزيات بهذا النداء؛ إذ يُصدّر المقال بإشراقة من إشراقته الأديبة اللطيفة عن ماهية الحج وفوائده!
اغتسال النفس
الحج والزكاة هما الركنان الاجتماعيان من أركان الدين، يقوم عليهما الأمر بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة، كما يقوم على الثلاثة الأُخَر الأمر بين المرء وربه، وبين المرء ونفسه؛ فالزكاة تُقيم نظام المجتمع على التعاطف والرحمة، والحج يقيمها على التعارف والأُلفة، فيحقق الأول بنفي العقوق معنى الإخاء، ويحقق الثاني بمحو الفروق معنى المساواة؛ والإخاء والمساواة شِعار الإسلام، وقاعدة السلام، ومِلاك الحرية، ومعنى المدينة الحق، وروح الديمقراطية الصحيحة.
كان الحج وما زال مَطْهرَ الدنيا: ترحضُ (تغسل) فيه النفوس عن جوهرها أوزارَ الشهوات وأوضار المادة؛ وكان الحج وما زال ينبوع السلامة: تَبْرد عليه الأكباد الصادية، وترفُه لديه الأعصاب الوانية؛ وكان الحج وما زال مثابة الأمن: تأنس فيه الروح إلى موضع الإمام، ويسكن الوجدان إلى منشأ العقيدة، وينبسط الشعور بذلك الإشراق الإلهي في هذه الأرض السماوية؛ وكان الحج ومازال موعد المسلمين في أقطار الأرض على (عرفات): يتصافقون على الوداد، ويتآلفون على البعاد، ويقفون سواسية أمام الله حاسري الرؤوس، خاشعي النفوس، يرفعون إليه دعوات واحدة، في كلمات واحدة، تَصعدُ بها الأنفاس المضطرمة المؤمنة تصعد البخور من مجامر الطيب، أو العطور من نوافح الروض!
هنالك يقف المسلمون في هذا الحشر الدنيوي حيث وقف صاحب الرسالة، وحواريو النبوة، وخلفاء الدعوة، وأمراء العرب، وملوك الإسلام، وملايين الحجيج من مختلف الألوان والألسن، فيمزجون الذكرى بالذكر، ويصِلون النظر بالفكر، ويذكرون في هذه البقعة المحدودة، وفي هذه الساعة الموعودة، كيف اتصلت هنا السماء بالأرض، ونزل الدين على الدنيا، وتجلى الله للإنسان، ونبت من هذه الصحراء الجديبة جنات الشرق والغرب، وثمرات العقل والقلب، وبينات الهدى والسكينة.
الحج مؤتمر الإسلام العام، يجدد فيه حبله، ويتعهد به بأهله، ويؤلف بين القلوب في ذات الله، ويؤاخي بين الشعوب في أصل الحق، ويستعرض علائق الناس كل عام فيوشجها بالإحسان، ويوثقها بالتضامن، وينضح من منابعه الأولى على الآمال الذاوية فتنضُر، وعلى العزائم الخابية فتذكو، ثم يجمع الشكاوى المختلفة من شفاه المنكوبين بالسياسة المادية، والمدنية الآلية، والمطامع الغربية، فيؤلف منها دعاء واحداً تجأر به النفوس المظلومة جؤاراً تردده الصحراء والسماء!
آلام الأمة في ثلاثينيات القرن العشرين
وما أحوج المسلمين اليوم إلى شهود هذا المؤتمر! لقد حصرهم المستعمرون في أوطانهم المغصوبة، ثم قطعوا بينهم الأسباب، وحرموا عليهم التواصل، وفصلوهم عن الماضي الملهم والمستقبل الواعد، بطمس التاريخ، وقتل اللغة، وإطفاء الدين، فلم يبق لهم جُمعة إلا في هذا الموسم.
إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثراً للتضحية ورمزاً للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر: هنا غار «حراء» مهبط الوحي، وهنا «دار الأرقم» رمز التضحية، وهنا «جبل ثور» منشأ المجد، وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر وعمر وعلي وعمرو وسعد وخالد، وهذا الشِّعب وذاك مَجرُّ أذيال الغطاريف من بني هاشم وبني أمية، وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قُواد العالم وهُداة الخليقة!!
«ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً». أما شرط الاستطاعة فقد بطل اليوم، وأصبح الحج فريضة عين لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يَسوغُ في تركها معذرة؛ فأنت تستطيع بالمال اليسير وفي الزمن القصير أن تحج على الباخرة والسيارة والطيارة، دون أن تعرِّض حياتك للموت، وثروتك للنهب، وصحتك للمرض!
هلموا إلى الحج
وهذه «شركة مصر للملاحة البحرية» تتعهد لك «بزمزم» و«الكوثر» أن تكفلك وتحملك وتعلمك وتغذيك وتؤويك وتحميك في البحر والبر تحت عَلم دولتك، ورعاية مواطنيك، فلا تكابد وعث الصحراء وعبث الأشقياء، ولا تقاسي بُعدَ الشقة وطول الغربة.
لقد كان الحج لرهَقه الشديد وجهده الجاهد يكاد يكون مقصوراً على الطبقات الخشنة من الزراع والصناع والعملة؛ أما الناعمون المترفون من أولي الأمر، وذوي الرأي، وأصحاب الزعامة، فما كانوا يقدمون عليه ولا يفكرون فيه، فظل جَداه على المسلمين ضئيلاً لا يتعدى الحدود الخاصة من قضاء المناسك، وأداء الزيارة فماذا يمنع الكبراء والزعماء اليوم أن يتوافوا على ميعاد الله، ما دامت هذه الشركة المصرية الخالصة قد تحمّلت عنهم أكلاف السفر، وضمنت لهم وسائل العيش، ووفَّرت عليهم أسباب الرفاهية، حتى ليكتفي المسافر بحقيبة ثيابه؟
إن في حج سراة العرب والمسلمين إعلاء لشأن الملة، وإغراء بأداء الفريضة، وسعياً لجمع الكلمة، وسبيلاً إلى الوحدة المرجوة. وإن مقام إبراهيم الذي انبثق منه النور، ونزل فيه الفرقان، وانتظم عليه الشمل، لا زال مناراً للأمة، ومثاراً للهمة، ومشرق الأمل الباسم بالعصر الجديد.
* نُشر في مجلة الرسالة، العدد 81، في 21 يناير/ كانون الثاني 1935م/16 شوال 1353م.