يُنتخب رئيس الإنتربول، المنظمة الدولية للشرطة الجنائية، بأغلبية ثلثي الأعضاء. يُنتخب هو ونوابه الثلاثة من بين المندوبين في المنظمة، رئاسته تمتد لأربع سنوات، ونوابه لثلاث سنوات، وتلك المدد غير قابلة للتجديد. ويضطلع رئيس الإنتربول بالمهمة الأساسية للمنظمة، وهي التنسيق بين 194 دولة لتقديم المعلومات اللازمة والقبض على المجرمين الهاربين من دولة عضو لأخرى عضو في المنظمة.

لكن ما عدا ذلك فيمكن القول بأن وظيفة رئيس الإنتربول هي وظيفة شرفية، دوام جزئي وبلا أجر، لأن الرئيس يمارس مهامه الأساسية بدوام كلي وبأجر في بلده الأصلي. أما السلطات الحقيقية فتكون في يد الأمين العام للمنظمة. وتنتخب الجمعية العامة الأمين من بين عدة أسماء تقترحها اللجنة التنفيذية للإنتربول، وهي لجنة تتكون من الرئيس ونوابه الثلاثة و9 مندوبين من دول مختلفة.

وطبقًا للقواعد لا توجد ضوابط محددة لاختيار رئيس المنظمة، الذي يشغله حاليًّا أحمد الريسي، فيحق لأي دولة ترشيح مندوبها للمناصب التنفيذية. وحين تكتمل اللجنة التنفيذية فإنها تنتخب من بينها الرئيس ونوابه الثلاثة. غياب الاشتراطات الواضحة لما يجب أن يتمتع به رئيس المنظمة الدولية للشرطة الجنائية يبدو أنه قد يفتح الأبواب أمام بعض الدول لاستغلال الإنتربول لخدمة مصالحها.

وتعتبر الإمارات من أوائل الدول التي استغلت الإنتربول للقيام بمهام ليست من اختصاصه. استخدمت الإمارات النشرات الحمراء لمطاردة بعض الأجانب الذي غادروا البلاد دون أن يسددوا ديون بطاقات الائتمان، أو بعض التجار الذين دخلت معهم الإمارات في نزاعات تجارية. رغم أن النشرات الحمرات هي الطريقة الرسمية في الإنتربول للتبليغ عن مجرم دولي، فإن الإمارات استخدمتها للإبلاغ عما سبق وهي في الأصل أمور لا تُعتبر جناية في غالبية دول المنظمة.

فتش عن التمويل

لعل السؤال الأهم عند الحديث عن المنظمات الدولية هو سؤال التمويل، من يدفع للمنظمة؟

الموقع الرسمي للمنظمة يقول إن موارده تأتي من مساهمات إلزامية تدفعها الدول الأعضاء. ويتحدد مبلغ تلك المساهمة سنويًّا من قبل الجمعية العامة. لكن في الوقت نفسه يقول الموقع بأن المنظمة تقبل التبرعات الآتية من جهات غير حكومية أو تبرعات طوعية تقوم بها الدول الأعضاء، ويؤكد الموقع أن ذلك لا يتعارض مع استقلالية المنظمة وحيادية مواقفها.

لكن في عام 2017 قدمت الإمارات تبرعًا تاريخيًّا للإنتربول بقيمة 54 مليون دولار أمريكي، من أجل تمويل الحرب على الإرهاب والجرائم الإلكترونية. كانت تلك الهبة كما وصفتها فرنسا البلد المقر للإنتربول بأنها هبة تاريخية. خاصة أن الإمارات تقدم ما يكفي بالفعل عبر استضافتها شديدة الكرم للجمعية العمومية للإنتربول.

 لكن بالعودة للمنحة فقد كُشف لاحقًا أن الإمارات لم تقدم المنحة بنفسها، بل قدمتها عبر شركة تدعى مؤسسة الإنتربول لعالم أكثر أمانًا. وهي الشركة التي تضم بين صفوفها متهربين من الضرائب وشخصيات سياسية تحوم حولها قضايا الفساد.

لم تلقَ تلك المنحة الضوء الإعلامي الكافي لها من قبل الإنتربول؛ لأنها تزامنت مع تقرير هيومان رايتس ووتش الصادر عام 2018، والذي تحدث عن انتهاكات الإمارات ضد حقوق الإنسان. المؤسسة التي قدمت الإمارات من خلالها التبرع يقع مقرها في جينيف في سويسرا، وتزعم أنها ليست لها صلة مباشرة بالإنتربول، ويؤكد الإنتربول كذلك أن تلك المؤسسة لا تؤثر في قراراته، لكن وجود مكتب لتلك المؤسسة داخل مبنى الإنتربول نفسه لتنسيق عملها مع الإنتربول ربما ينفي مزاعم الطرفين.

اتهامات بالتعذيب

لا يمكن لأحد أن يثبت بالدليل القاطع عدم استقلالية الإنتربول، كما لا يمكن لأحد أن يثبت سيطرة الإمارات على المنظمة، لكن بمعرفة ما سبق وبوجود ناصر الريسي رئيسًا للمنظمة يكون التساؤل والشك أمرين منطقيين، فاللواء ناصر أحمد الريسي متهم بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان، ليس فقط ضد إنسان الشرق الأوسط، بل ضد إنسان العالم الأول.

الصحف الأمريكية والبريطانية تواترت على نقل شهادة طالب بريطاني حُبس في الإمارات بتهمة التجسس، وقال الطالب إنه أُجبر على تجرع خليط من المخدرات أثناء حبسه. وفي شهادة أخرى قال مشجع كرة قدم بريطاني إنه ضُرب وصُعق بالكهرباء تحت إشراف الريسي شخصيًّا واعتباريًّا كونه المفتش العام لوزارة الداخلية، فهو المسئول عن التنسيق بين قوات الأمن والشرطة الإماراتية.

ماثيو هيدجز، الطالب المقصود، أوضح أن السلطات الإماراتية راقبت اتصالاته الهاتفية، وأجبرته على توقيع اعتراف غير صحيح بأنه عميل بريطاني، وأعطته المخدرات بكثرة للسيطرة على نوبات الهلع التي أصابته لوجوده في الحبس الانفرادي لستة أشهر. حُكم على ماثيو بالسجن مدى الحياة لاحقًا بعد محاكمة قصيرة، لكن حصل على عفو بعد سلسلة من الضغوط الدولية.

أما علي أحمد، مشجع الكرة، فقد كان نصيبه من التعذيب أسوأ كون اسمه يكشف عن أصوله العربية؛ ولأن تهمته هي ارتداء قميص قطر في إحدى المباريات. علي قال إنه طُعن بسكين في صدره وذراعه، وضُرب على فمه ففقد أسنانه الأمامية، وخُنق بكيس بلاستيكي، وأضرم ضابط إماراتي النار في ملابسه. كل تلك التفاصيل رواها علي لصحيفة التليجراف البريطانية، ولم تنفِ السلطات الإماراتية تلك المزاعم.

سجل حافل بالإنجازات

الريسي يحمل العديد من الألقاب والشهادات، منها دبلومة الإدارة الشرطية من جماعة كامبريدج عام 2004. كما حصل على درجة الدكتوراه في الشرطة وسلامة المجتمع من جامعة لندن عام 2013. وعدة جوائز منها جائزة محمد بن راشد للتميز الحكومي، وجائزة راشد للأداء الأكاديمي المتميز، وجائزة أبو ظبي للتميز الحكومي. كما حصل على ميدالية قيادة المقدمة من وزير الداخلية الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، وميدالية الإنقاذ من الدرجة الأولى المقدمة من وزير الداخلية.

 تلك الشهادات هي التي أضافت للرجل بُعدًا أكاديميًّا مرموقًا، جعلت اختياره من قبل مندوبي الإنتربول أمرًا مُفسرًا. فسجل الرجل حافل بالانجازات لدرجة حصوله على جائزة التميز في ميلان بإيطاليا عام 2007. لكن ذلك لم يمنع من أن يلاحقه العديد من النداءات الدولية المطالبة بمنع رئاسته للإنتربول؛ لوجود شكاوى ضده في فرنسا، مقر الإنتربول، وإسطنبول، التي استضافت الجمعية العمومية 89 للمنظمة، وفي السويد وبريطانيا والنرويج.

حتى منظمة هيومان رايتس ووتش أصدرت بيانًا تقول فيه إن وجود الريسي على رأس الإنتربول يدق ناقوس الخطر حول نزاهة الإنتربول. وإن الإنتربول بذلك الاختيار يعرض مصداقيته للخطر كجهة دولية لإنفاذ القانون تحترم الحقوق المدنية.

كذلك كتبت رئيسة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الأوروبي رسالةً وقع عليها 3 نواب آخرون إلى رئيسة المفوضية الأوروبية بأن وجود الريسي سوف يؤثر على قدرة الإنتربول على القيام بمهامها بفعالية. كما اعترضت 19 منظمة غير حكومية على وجود الريسي قائلين إنه عضو في مؤسسة أمنية تستهدف بشكل منهجي المعارضة السلمية.

تلك المناشدات الدولية الكثيرة قد تكون أكبر من قدر الدور الحقيقي الذي يلعبه رئيس الإنتربول عمومًا، لكن ما تدركه تلك المنظمات أن وجود شخص محاط بسمعة غير جيدة كما هو حال الريسي قد يعطي إشارة للدول السلطوية بأن استغلال الإنتربول لتنفيذ أجنداتها وملاحقة معارضيها بالخارج أمر مقبول ولا يُعتبر عائقًا أمام استمرار وجودهم في المنظمة، بل رئاستها أحيانًا. خصوصًا أن كل تلك المناشدات والدعاوى القضائية ضد الريسي لم تؤدِّ إلى أي نتيجة حتى وقت كتابة هذه الكلمات.