أحمد الجعبري: الشبح الذي حيّر الاحتلال
أب لعائلة مكونة من 10 أبناء وبنتين، يتقن اللغة العبرية ويحمل بكالوريوسًا في التاريخ الإسلامي من الجامعة الإسلامية في غزة. غزة التي انتقلت إليها عائلته من الخليل منذ عقود، فباتت غزة مسقط رأسه وموطن كفاحه. كان أحمد الجعبري واعيًا لما تمر به فلسطين، وقطاع غزة تحديدًا، تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، فقرر الانضمام إلى المقاومة.
كان الجعبري مناضلًا نشطًا في حركة التحرير الفلسطينية، فتح. ثم تعرض للاعتقال بتهمة التخطيط لعملية فدائية ضد الاحتلال عام 1982. لم يكن السجن نهاية كفاحه، بل كان البداية الحقيقية له. في معتقله تعرّف الجعبري على أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي وإبراهيم المقادمة. جماعة كوّنت لاحقًا ما عرف بحماس، لكن الجعبري انضم لهم قبل أن تُنشأ حماس رسميًا عام 1985.
خرج الجعبري من السجن عام 1995، وكان مقربًا من قيادات حماس، فترك فتح وانضوى تحت لواء حماس. بدأ الأمر بالسياسة، فتولى مسئوليات سياسية وتنظيمية داخل حركة المقاومة الإسلامية حماس. فكان مسئولًا عن دائرة شئون الأسرى والمحررين. وفي عام 1997 صار مسئولًا في حزب الخلاص الإسلامي. حزب تابع لحماس وأنشأته حماس من أجل التحايل على العراقيل التي وضعتها السلطة الفلسطينية في طريق الاعتراف الرسمي بحماس. وعمل كذلك عضوًا في المجلس السياسي لحماس دورتين متتاليتين.
توثقت علاقة الجعبري بالضيف وبعدنان الغول، مهندس المتفجرات الأول في حماس، وبالقيادي البارز سعيد العرابيد، فساهم معهم ومع آخرين في تأسيس كتائب عز الدين القسام.
ثالث ثلاثة في كتائب القسام
في الكيان الوليد تولى الجعبري قيادة منطقة غزة، والمسماة تنظيميًا بلواء غزة. اعتقاله لم يتأخر بعد أن شاعت علاقته بكتائب القسام العسكرية اعتقله الأمن الوقائي التابع للسلطة الفلسطينية بتهمة الارتباط بالكتائب. كان الاعتقال عام 1998، وخرج منه عام 2000.
لم تتركه مخالب الأمن الوقائي بإرادتها، بل حررته إسرائيل بصورة غير مباشرة. عام 2000 شهد انتفاضة الأقصى، فرد الاحتلال الإسرائيلي بقصف عنيف لم يفرق بين مقار حماس والسلطة الفلسطينية، فخرج بعد قصف مقر احتجازه.
فور خروجه نشط الجعبري في قيادة عمليات الانتفاضة، وكان من أوائل رجال حماس الذين نشطوا في العمليات العسكرية المنظمة. وكان الجعبري ضمن أول ثلاثة شكلوا وحدهم المجلس العسكري لكتائب القسام، وحين اغتالت إسرائيل الشيخ صلاح شحادة عام 2002، بات هو ثاني اثنين في المجلس.
عام 2003 حاولت إسرائيل اغتيال محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، لكن فشلت. خرج الضيف من محاولة الاغتيال الفاشلة بجروح بالغة وشخصية أسطورية بالنسبة للفلسطينين والاحتلال على حدّ سواء. لكن صار الجعبري هو القائد الفعلي لكتائب عز الدين القسام، وأصبح في الإعلام الإسرائيلي المسمى برئيس أركان حماس، والملقب بالرقم الأصعب في الجناح العسكري لحماس.
وفي العدوان الإسرائيلي على غزة في نهاية عام 2008، برز نجمه طوال عشرين يومًا من العدوان. اعتبرته القوات الإسرائيلية مهندس التصدي، وصاحب التخطيط لكل ما تقوم به حماس طوال الأيام العشرين. وطوال تلك الأيام وما تلاها حصد الجعبري لقبًا جديدًا، الشبح، لقبته بذلك وسائل الإعلام الإسرائيلية بسبب عجز القوات عن اغتياله أو اعتقاله طوال عشرين يومًا كاملة.
من المجموعات إلى الجيش
الجعبري بالنسبة لإسرائيل كان مطلوبًا أكثر من غيره، بسبب قدراته العسكرية التي استطاعت تحويل مجموعة الكتائب إلى ما يشبه الجيش النظامي بقوام 20 ألف مقاتل. واستطاع باستراتيجياته تكوين ترسانة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وتمكن من تحويل تلك الترسانة غير المخيفة إلى أدوات مرعبة تستطيع بها حماس خوض معركة طويلة الأجل.
الجعبري يعتبر من القلائل الذين حصلوا على اعتراف من الحكومة الأمريكية ببراعته العسكرية منقطعة النظير، وكتبت نيويورك تايمز عنه مقالًا في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2012 بأن كتائب عز الدين القسام تحت قيادته أصبحت تتبنى أنظمة تدريب وتسلسل واضحين. ويستمر المقال في الحديث مضيفًا أن الكتائب صارت ذات تنظيم عال ومهنية متزايدة.
وأردف المقال بأن الكتائب تحت قيادته صارت أكثر مؤسسية، بحيث لو فقدت حماس كامل قيادتها في لحظة واحدة، فإن قيادة جديدة سوف تنهض من فورها لتحل محلّها، فمع القائد العام دائمًا ما يوجد قادة آخرون. وأصبحت القسام هي الميليشيا المسلحة الأقوى والأوسع انتشارًا بين كافة التنظيمات المسلحة في غزة. وكانت غزة المقسمة إلى 6 مناطق لكل منطقة لواء، تخضع جميعًا لسلطة الجعبري الذي أصبح على وصف نيويورك تايمز بطلًا شعبيًا تملأ صوره وملصقاته قطاع غزة بالكامل.
لعل مقال نيويورك تايمز الآتي بعد اغتياله بأيام قلائل لم يكن رثاءً للرجل بقدر ما هو تفسير لأسباب كون الرجل هو المطلوب رقم 1 على قائمة الاغتيالات الإسرائيلية طوال حياته. لدرجة أن إسرائيل نفذت 4 محاولات اغتيال لقتله، إحداها كانت في أغسطس/ آب 2004 حيث قصفت طائرة إسرائيلية منزله. أصيب الجعبري بجروح طفيفة، واستشهد ابنه الأكبر وشقيق الجعبري وصهره وأقارب آخرون كانوا في بيت الجعبري، بيت العائلة كما يُعرف.
يأست إسرائيل من اغتياله، فوضع جهاز الشاباك الإسرائيلي خططًا لاختطافه وحاولت أجهزة الشاباك مرتين بالفعل، إحدى المرتين كانت في منتصف عام 2008 لكن فشلت كذلك.
الوهم المتبدد على يده
مع كل تلك المحاولات للاغتيال والاختطاف كان نجم الجعبري يزداد سطوعًا، وأسطورته تزداد ألقًا. خاصة مع دخول جلعاد شاليط على الخط. كان الجعبري هو من أشرف شخصيًا على أسره في 25 يونيو/ حزيران عام 2006 في العملية المعروفة بالوهم المتبدد. ظل شاليط طوال 6 سنوات كاملة في عهدة القسام دون أن تستطيع إسرائيل الوصول لمكانه ولا لأي معلومة تتعلق به.
الوهم المتبدد أدى لوفاء الأحرار، فحُرر جلعاد شاليط مقابل 1047 أسيرًا فلسطينيًا. فوصفته قيادات حماس بأن عمله في ملف الأسرى أكسبه مهارة بجانب مهاراته العسكرية، ولذلك أيضًا كانت إسرائيل تصف خطورته بأنه في الوسط بين الجناح العسكري لحماس والجناح السياسي لها. لهذا لم يكن الجعبري مستعدًا للتخلي عن المقاومة كمبدأ ضد الاحتلال، لكن كما وصفه الإعلام العبري، كان بإمكانه أن يقبل بوقف طويل لإطلاق النار.
بعد تلك الصفقة وصفته الصحف الأمريكية بأنه أكثر العناصر عملية داخل حركة حماس، وأنه رجل حماس القوي المسئول عن اختطاف شاليط، وهو مهندس عمليات وقف النار التي تُوقع بين حماس وإسرائيل برعاية المخابرات الإسرائيلية، وأن كلمته فقط دون غيره هي التي تضمن لإسرائيل وفاء الحركة بتطبيق اتفاقيات وقف إطلاق النار.
أبناء المقاومة الفلسطينية تحدثوا عنه كثيرًا في سردهم لسيرته وسيرة أبطال آخرين، فذكروا عنه أنه كان يحرص على تعليمهم اللغة العبرية. وهو ما عزا إليه المحللون سبب تميز الجعبري عن قادة حماس الآخرين، إتقانه للعبرية ومتابعته الكثيفة للإعلام العبري، فكان يعرف أكثر ما يخشاه الجانب الإسرائيلي، ويضرب فيه.
الموت أو الرحيل
على النقيض مما يبدو من نجوميتيه إلا أن الرجل عاش حياته بسرية شديدة، وأبعد نفسه بالكامل عن كافة وسائل الإعلام. ولا يُذكر له ظهور إعلامي إلا ظهور واحد في وثائقي يسرد فيه قصة كتائب القسام. وبجانب ذلك الظهور الإعلامي حرص الرجل بين فترة وأخرى أن يثبت أنه لا يزال على قيد الحياة فكان يظهر في التدريبات العسكرية لحماس.
وأبرز ظهور له كان يوم تسليم شاليط للمخابرات المصرية، فكان الجعبري ممسكًا به من جهة، ورائد العطار القائد القسامي ممسكًا به من اليد الأخرى. أما دون ذلك فكان الجعبري يبرز في بعض الاحتفاليات لدقائق معدودة ثم يختفي.
14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، الجعبري في سيارته بجوار مجمع الخدمة العامة بمدينة غزة، بعد أسبوع من عودته من مكة. عاد الجعبري بعد أداء مناسك الحج ليلقى الشهادة التي تنتظره، وليكون الصاروخ الإسرائيلي الموجه لسيارته مقدمةً لعدوان غاشم سيمطر سماء غزة بالقنابل والصواريخ لعشرة أيام متتالية.
نعته المقاومة الفلسطينية، واحتفل باغتياله الإعلام الإسرائيلي، وظلت مقولته ثابتة رغم رحيل جسده، ما دام الصهاينة يحتلون أرضًا فلسطينية فليس لهم إلا الموت أو الرحيل عنها.