أحمد أحمد: من الذي أعطى الطفل بندقية حقيقية؟
هل الأمر فعلًا بهذا القدر من السذاجة؟ كلما كنت أرى أحمد أحمد بضحالة تصريحاته، وشرود نظراته في المؤتمرات الصحفية، بل وحتى في لغة جسده الضعيفة في حوارته الجانبية بالمناسبات الرسمية. أتساءل: هل الأمر فعلًا بهذه السذاجة أم أن هناك سر ما وراء هذا الرجل سيأتي يوم ويفاجئنا به جميعًا؟
تمر الأيام وتبدأ الأخبار تتناثر عن قضايا فساد مالي. وما الجديد؟ نحن نعيش في الماما أفريكا وتلك الأنباء صارت بمثابة روتين يومي في الكرة الأفريقية. لكن رجل مدغشقر مجهول التاريخ يأبى أن يظل فساده مجرد روتين عادي في تاريخ القارة السمراء.
فضائح دون مواربة
بدأ الأمر بالحديث عن 100 ألف دولار تم صرفهم من خزائن الاتحاد الأفريقي لرحلات عمرة خاصة برئيس الكاف وأصدقائه من داخل الاتحاد وخارجه. ثم رسالة مسربة نشرتها صحيفة ماركا الإسبانية مُرسلة من رئيس الاتحاد الناميبي في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2018 يتساءل عن 20 ألف دولار لم يُرسلوا إليه بشكل شخصي كزملائه، فيتساءل الكل: ما قصة ال 20 ألف دولار؟
لنكتشف أن رئيس الكاف الجديد يقوم بإرسال 20 ألف دولار بشكل سنوي لرؤساء الاتحادات الأفريقية، فكان من الطبيعي أن يرسل 46 رئيسًا منهم من أصل 54 رسالة دعم لأحمد أحمد منذ شهور قليلة للترشح لدورة مقبلة.
بعد وقت قليل تظهر تسريبات أخرى بمجرد انتهاء مونديال روسيا، تفيد بحصول أحمد أحمد وأعضاء اللجنة التنفيذية بالكاف على بدلات كأس العالم ثلاث مرات: الأولى من الفيفا، والأخرى من الاتحاد القاري، والثالثة من المحلي!
لم ينقضِ عام واحد على كل تلك الفضائح، لنُفاجأ جميعًا بأخبار القبض على أحمد أحمد من قبل السلطات الفرنسية أثناء استعداده للمشاركة في افتتاح كأس العالم للسيدات. ما كان أغرب من خبر التوقيف هو سببه: إتمام صفقة مع شركة Tactical Steel الفرنسية والمملوكة لرجل الأعمال لويك جيراند صديق رئيس الكاف المُقرب.
يتم بموجب الصفقة توريد معدات وأدوات رياضية بقيمة 4.4 مليون دولار للأحداث التابعة للكاف. تم ذلك بدون عقد، وبدون أي مراسلات رسمية بين أي من موظفي الكاف وأي من ممثلي الشركة. كل شيء كان تحت الإشراف المباشر لرئيس الاتحاد الذي لم يكمل عامه الثالث داخل أروقة الاتحاد.
انتدب المكتب التنفيذي للفيفا -تحت ضغط دولي كبير- السنغالية «فاطمة سمورا» للتفتيش على الكاف، والتي استدعت بدورها شركة PWC «برايس ووترهاوس كوبرز» البريطانية للمراجعات المالية.
خرج تقرير الشركة للمخالفات المالية بالكاف في 55 صفحة كاملة. ملخصهم أن هناك ملايين الدولارات التي لم يستطيعوا تتبعها لعدم تسجيلها، وتعجبهم من عدم وجود نظام مالي يتوفر فيه الحد الأدنى من معايير المحاسبة والشفافية في مؤسسة بحجم الاتحاد الأفريقي.
السؤال الأهم الآن: ما الذي جعل أحمد أحمد يقوم بهذه الوقائع والسرقات بهذه البلاهة المفرطة؟ لماذا لم يبذل حدًا أدنى من الجهد في مواربة الباب أو التغطية على هذا الكم من الفساد المالي في مدة لم تتجاوز الثلاث سنوات فقط؟!
الإجابة ببساطة أنه رجل محدود القدرات، لا يدرك تمامًا أين يجلس وماذا يجب أن يفعل. رجل جلبه بعض الأشخاص لإزاحة عيسى حياتو. لم يهتم أحد من أين أتى، ولا خلفيته السابقة. اقتصر فقط اهتمام من جلبوه ألا يكون له أنياب مستقبلية وأن يفعل ما يُؤمر به.
ألا يذكرك ذلك بحدث شبيه في مصر عام 2012؟ عندما استيقظنا ذات يوم على أخبار ترشح رجل لا نعرفه لرئاسة الاتحاد المصري لكرة القدم. رجل أسمر اسمه «جمال علام» من صعيد مصر، يبدو من إيماءات وجهه ريبته الشديدة من الأضواء والإعلام. فجأة وبدون مقدمات وجدنا الإعلام يردد أنه صاحب الحظوظ الأوفر للفوز في انتخابات الجبلاية.
هل تعرف ما هو العامل المشترك الوحيد بين هذين الرجلين؟ الإجابة هي: هاني أبوريدة.
من الذي جلب أحمد أحمد؟
بدأت الحكاية كلها في نهاية عام 2016 وبداية عام 2017. الوقت الذي انتهى فيه عقد شركة «لاغاردير الفرنسية» صاحبة حقوق بث البطولات الأفريقية مع الكاف منذ عام 2008.
هنا كانت الحكومة المصرية تستعد -بدعم خليجي- لتقديم عرض ينافس عرض شركة لاغاردير، سعيًا منها لمنافسة دولة قطر في قوتها الناعمة، وكتمهيد لحصار خليجي لقطر كان يُخطط له في تلك الفترة بعد أيام قليلة.
وما علاقة قطر بشركة لاغاردير؟ تمتلك قطر 16.3% من أسهم الشركة الفرنسية، وهي نسبة تمنحها حق التصويت في قرارت الفئة الأولى للشركة والتي من ضمنها عقود البث بكل تأكيد.
باغت حياتو الحكومة المصرية، ومبعوثها هاني أبوريدة، ومرر عقد لاغاردير بدون عقد مزايدة علنية تتيح الفرصة لشركات عدة الدخول للمنافسة. عقد شابه الكثير من الغموض والأقاويل حول حصول حياتو على عمولة مباشرة من الشركة الفرنسية مقابل تمرير العقد.
صدر بيان حينها عن جهاز حماية المنافسة المصري يدين عملية المنح، دون إعطاء شركات أخرى فرصة المنافسة عبر مزايدة علنية، وهو ما جعل النائب العام المصري يصدر بيانًا يطلب التحقيق مع الرئيس الكاميروني للاتحاد والأمين العام للاتحاد ذاته.
قاد أبو ريدة تحالفًا «مصريًا – مغربيًا – جنوب أفريقي» بإشراف من الحكومة المصرية، للإطاحة بعيسى حياتو في أعقاب تلك التصرفات. وكما نجح رجل الأعمال البورسعيدي في جلب رجل مجهول من صعيد مصر عقب ثورة 25 يناير ليكون واجهة له، نجح في جلب رجل من مجاهل أفريقيا للعب الدور ذاته في الكاف.
لكن أبوريدة -ومن أقنعه من أصحاب القرار في مصر بضمان نجاح تلك التجربة- أغفلا اختلافين كبيرين بين ما فعله عام 2012 في مصر، وما فعله عام 2017 في أروقة الكاف. فما هما؟
ما الذي أسقطه أبوريدة من حساباته؟
الاختلاف الأول هو مدى إحكام قبضته على كل من التجربتين. ففي التجربة المصرية، كان أبوريدة يتحكم في كافة مقاليد لعبة مغرياتها المادية ليست كبيرة بالأساس، لكنها تعتبر درجة سلم للوصول إلى هدف ما.
أما في التجربة الأفريقية، فالمغريات المادية تتحول من مئات الآلاف من الجنيهات إلى ملايين الدولارات. وحين تأتي بشخص لا يدرك شيئًا من قواعد اللعبة ويجد نفسه أمام كل تلك المغريات، ستجده كالطفل يرتكب كوارث دون أن يدري أنها كوارث من الأساس.
الاختلاف الثاني في التجربة هو ظهور المنافسين الجُدد. ففي مصر، أبوريدة دائمًا مطمئن لفراغ الساحة الرياضية من أي منافس حقيقي بما فيهم أحمد شوبير. أما في أفريقيا اختلطت الأوراق بعد سلسلة الفضائح التي لم تتوقف من مبعوث مدغشقر، وصار الجميع يطمع في خطوة أكبر.
وبعد أن كان أبوريدة مطمئنًا للإطاحة بمحمد روراوة الجزائري من المكتب التنفيذي للكاف، صار المغربي فوزي لقجع يمثل خطرًا حقيقيًا على نفوذ الممثل المصري بالمكتب التنفيذي، هو والكونغولي كونستانت أوماري.
كم مرة سمعت في السنوات الأخيرة عن تراجع التأثير المصري للكاف لصالح تأثير دول شمال أفريقيا؟ هل لاحظت أن موعد ديربي الدوري المغربي بين الوداد والرجاء تم الإعلان عنه من الاتحاد المغربي قبل يوم واحد من مواعيد نصف النهائي لبطولة الكاف -التي تم تأجيلها- والتي كان طرفاها الآخران: الأهلي والزمالك المصريين؟
بعد 3 سنوات، لم يعد المكتب التنفيذي للكاف خاضعًا للنفوذ المصري كما كان مخططًا له، ولم ينجح أحمد أحمد ممثل التحالف المضاد لعيسى حياتو، سوى في جلب عشرات الفضائح لسمعة الكاف.
هل كان يعلم إنفانتينو؟
السؤال الذي قد تسأله بداخلك الآن: وهل كان إنفانتينو يعلم كل ذلك؟ بكل تأكيد من السهل على رئيس أكبر مؤسسة رياضية في العلم أن يعلم انتهاكات مالية وأخلاقية صارخة مثل تلك وبسهولة قبل وسائل الإعلام.
إذن وما الذي منعه من اتخاذ إجراءات صارمة وهو من جاء بالأساس لأخذ تلك الإجراءات بعد حقبة بلاتر التي انتهت بانتهاكات مالية أيضًا؟ الإجابة نجدها في تقرير نشرته صحيفة دويتش فيله الألمانية في يوليو/تموز السابق بعنوان: «التحقيق مع جياني إنفانتينو: الأسئلة الخمسة الكبرى».
اتهم التقرير إنفانتينو بعدم حياديته في حكمه على الأشخاص بقضايا الفساد التي خلفتها حقبة بلاتر. بل واستند إلى فحوى المحادثات السرية التي تم تسريبها على موقع «Football Leaks» بين إنفانتينو والمدعي العام السويسري السابق مايكل لاوبر.
سعى إنفانتينو لعقد الموازنات واستثناء بعض رجال الفيفا القدامي من المحاسبة والمحاكمة على المخالفات المادية السابقة لهم، وهو ما نجح به بالفعل قبل أن يتم تسريب الاجتماعات الثلاثة تلك. ليتم فتح تحقيق آخر منذ أيام من قِبل المُدعي العام السويسري الجديد «ستيفان كيللر» لفحص الأمر.
الشاهد في الأمر أن إنفانتينو وغيره من أعضاء الاتحاد الأفريقي كانوا على عِلم بفساد أحمد أحمد. فما الذي جعل موظفي الكاف ينتفضون بهذا الشكل؟ ولماذا لم يفعلوا الأمر ذاته في حقبة عيسى حياتو التي كان منها ما يزيد عن عامين تحت حُكم إنفانتينو أيضًا؟
الأمر كله يتعلق بمدى تقنينك للفساد، إلى أي مدى ستكون رائحة فسادك كريهة؟ إلى أي مدى سأستطيع العمل معك دون أن تلحق بي أنا أيضًا اتهامات مالية أمام الرأي العام؟
نجح حياتو طيلة 30 عامًا أن يشخصن الفساد المالي داخل الكاف بعيدًا عن اللجان المالية المراقبة. الفساد الكلاسيكي غير المزعج إن صح التعبير. الكل يعلم أنه موجود لكن طالما أنه لا يؤثر على صورتي فلا ضرر.
لكن أحمد أحمد كان كالطفل الذي أعطاه شخص أكبر منه بندقية حقيقية ليلعب بها، فأطلق منها الطلقات على الجميع دون وعي، حتى جاءت النهاية الحتمية للطفل: أصاب من أعطاه البندقية وقتل نفسه!