يوجد عالمان: عالم للآلة، وعالم للموسيقى، وهذان العالمان، حتى مع أقصى تحليل، لا يمكن إرجاعهما إلى أصل مشترك. فالأول مُركّب حيّزي كمّي من العلاقات والأجزاء وفقاً لمنطق علم الطبيعة والرياضيات. أمّا الثاني فيشمل تركيبة من الأنغام أو الكلمات منظومة في لحن أو قصيدة.

لذا قال أحدهم ذات مرة، إن الفن دعوة لخلق الإنسان، وإن كل علم ينتهي في التحليل النهائي إلى أنه لا وجود للإنسان، لذلك، فإن الفن في صدام طبيعي مع هذا العالم. لأن عالم الطبيعة يفسر وجود الإنسان عبر نظرية داروين، حتى انتهى إلى أنه لا يوجد إنسان بل حيوان أكثر رقياً وتقدماً عن الحيوانات في الغابة.

لذا فإن الدين والفن يقفان في صف واحد لإعادة تفسير وجود الإنسان والكون، فقضية المصير الإنساني، وغربة الإنسان في الكون وهشاشته، والموت، والخلاص من هذه المعضلات، كل ذلك لا يمكن أن يكون موضوع علم من العلوم، في حين أن الفن، حتى ولو حاول، لا يمكن أن يتغاضى عن هذه القضايا، فالشعر هو معرفة الإنسان، كما أن العلم هو معرفة الطبيعة.[1]

بداية التفاهة

ولكن مع بداية ستينيات القرن الماضي، حدث أن اختفى عالم الموسيقى ولم يبق إلا عالم المادة أو العلم، إذ نشر «ليونارد ماير» دراسته الشهيرة «نهاية عصر النهضة»، التي قال فيها إنَّ مفهوماً جديداً للجمال يُولد آنذاك، هذا المفهوم يتنكَّر لمبدأ الغائية ويكرِّس فنّاً لا يُهدف إلى شيء. وفي علم الجمال الجديد، حسب «ماير»، لم يَعُدِ الإنسان هو المعيار الذي تُقاس به الأشياء والموجودات؛ لأنه ببساطة لم يَعُد مركز الكون، كما ذهب فلاسفة الحداثة. [2]

فقد شهدت أوروبا تحولاً عام 1914 وهو بداية الحرب العالمية الأولى، ولا شك أن التاريخ الإنساني قد انقلب، باعتبار أنه قد أجهض في سنوات تلك الحرب، وهكذا يمكن فهم القرن العشرين: سبيل التقدم والتطور، وسبيل الأزمة والحرب والرعب، لذا لم تكن الحرب العالمية الثانية رداً على الحرب العالمية الأولى بل كانت استمرارية لها. [3]

وخرجت من رحم هذه الأزمات فلسفة العبث والعدم والفلسفة الوجودية، التي أوجدت جيلاً جديداً في أوروبا أكثر جنوحاً نحو المادة، تجلى في أحداث «مايو 1968» في فرنسا، أو ما يُطلق عليه الثورة الثقافية، التي لم يستطع بعض تفسيرها، إذ وصفها بأنها ثورة بلا سبب، كما قال «أندريه مالرو» إنها ثورة الشباب اللاعقلانية. فقد كانت مهرجاناً شبه تمردي لأخلاقيات جديدة ضد العالم القديم، من أجل تغيير العادات والعلاقات العاطفية والحرية الفردية، وكانت تاريخاً نرقصه على أنغام موسيقى الروك، بوصفها ثورة ثقافية بالصلصة الغربية الناعمة، ثورة بروليتارية من دون بروليتاريين ولا ثورة، بوصفها مُنقذاً للمراهقين القادمين من ازدهار المواليد بعد الحرب العالمية الثانية، بوصفه واقع الموضة بين الشعر الطويل، والتنورات القصيرة (الميني جيب). [4]

ومن هنا بدأت عملية التحرر من قيود وحدود الفن الأخلاقية والجمالية وتزايدت معدلات الإباحية والعنف، ثم جاوزتهما عملية التحرر، إذ أصبحت تحرراً من أي قيود أو معايير، حتى أن الفنان «أندي وارهول» الذي كان يوقع في منتصف الستينيات على علب القمامة وعلب الحساء القديمة، فتتحول بقدرة قادر إلى أعمال فنية تباع بآلاف الدولارات. [5]

وبشَّرَ بولادة فن ديمقراطي جديد بوسعه أن يُذيب الجُدُر الغليظة بين الثقافة العليا وثقافة الجماهير، ما يدعو إليه ماير -وآخرون- هنا يُشير إلى تغيُّر كلي في مفهوم الفن وفي تصوُّر الجَمال، تغيُّر تُجسِّده عبارة بيوز «إنَّ مجرَّد إزالة قشرة البطاطس يُمكن أن يكون عملاً فنيّاً لو اتسم بالوعي» [6]. مثل لوحة الموزة التي تعود للفنان الإيطالي «ماوريتسيو كاتيلان»، وهي ليست سوى قطعة من فاكهة الموز، موضوعة بلاصق على الجدار. والمثير للسخرية أن طالباً من كوريا الجنوبية تناول الموزة التي تشكل لوحة عالمية، معروضة بمتحف «ليوم» للفنون في العاصمة سيوول. وقال الطالب إنه أكلها بسبب الجوع، نظراً لأنه لم يتناول وجبة الإفطار، حيث انتزع الموزة المُعلقة بشريط لاصق على جدار المتحف، وقشَّرها وتناولها أمام الجمهور، الذي كان مذهولاً من تصرفه.

«السح الدح إمبو»

في فيلم الكيف نشاهد الفنان الراحل محمود عبد العزيز يطلب من أحد الشعراء أن يكتب له كلمات لأغنية لينتجها، فلما وجدها أغنية جادة رفضها بشدة، طالباً منه أن يكتب له أغنية أخرى، لأن الناس لا تريد ذلك، وكانت تعليماته للشاعر قصيرة واضحة محددة: «أريد كلمات تافهة يا سيدي». [7]

وذلك لأن ثقافة جديدة بدأت تنتشر في أرجاء الأرض خلال الستينيات، إذ أنتجت الفترة التالية لحرب 1967 رجالاً ونساء من نوع جديد في مصر تربعوا على عرش الثقافة في مصر، وكبسوا على أنفاس المثفقين المصريين بما لا يدع الموهوبين الحقيقيين فرصة تذكر للانتشار والنجاح إلا بشق الأنفس. [8] 

وهؤلاء، كما يرى «صلاح عيسى» في كتابه «مثقفون وعسكر»، دخلوا التاريخ من باب السيكولوجيا لا من باب الأدب أو الفن أو الفكر بعد هزيمة يونيو 1967. وفي المسح الاجتماعي الذي أجراه المركز القومي للبحوث الاجتماعية نهاية الثمانينيات، يُقسِّم المؤرخ الموسيقي «فرج العنتري» الغناء في السبعينيات إلى ثلاثة روافد رئيسية:

  • الرافد الأول يضم فئة «المتمسكين» أولئك الذين تمسكوا بالألحان العربية التراثية في صورة من صور التمسك بالهوية التي تعرضت لشكل من أشكال التحلل مع نكسة 1967.
  • الرافد الثاني تعبر عنه الفئة التي صدمتها النكسة ولجأت إلى استلهام وسماع الألحان الغربية، تعبيراً عن حالة من حالات الاغتراب.
  • الرافد الثالث عبر عن اغترابه بدعم أغنيات عدوية والترويج لها.

ويرى «وولتر أرمبرست» أن ظهور أحمد عدوية يأتي في إطار الحداثة، فالأغنية التي شهرته في بداية السبعينيات كانت «السح الدح إمبو»، فعبارة «السح الدح» يستخدمها الأطفال في الريف لدعوة الخراف للعراك، أمّا «إمبو» فيستخدمها الأطفال لطلب الماء، والأغنية لا علاقة لها لا بالماء، ولا بالخراف التي تتعارك. [9]

ويأتي ذلك لأنه تمت إزالة الحدود بين الثقافة النخبوية والثقافة الجماهيرية، فإذا كان الفن قديماً حكراً على طبقة بعَينِها، فإنَّ الفن في الحِقبة ما بعد الحداثية متاح للجميع؛ فالسطحي والعميق، في نظر ما بعد الحداثي، كلمتان يَستعملهما النخبويون، لا كحكم جمالي، إنما للتمييز الطبقي. لذا تَرفُض ما بعد الحداثة تراتبية الأذواق والثقافات.

من هنا يرى «روشنبرج» أن عالم الفن الشعبي هو «عالم الفن المتسع»، في حين يرى «دانيال بل» أن انحلال سلطة الثقافة العليا في الذوق الثقافي منذ الستينيات واستبدالها بالذوق العامي، لا يُمكن النظر إليه إلا بوصفه رمزاً للمتع الغبية في الاستهلاك الرأسمالي -أو ما سمي في مصر الانفتاح- ويقول هويسينز: لقد أصبح هذا اللون الآن هو المرادف لأسلوب الحياة الجديد للجيل الحالي؛ أي أسلوب الحياة الذي انقلب على السلطة، وأراد التحرُّر من معايير المجتمع، وكان من نتائج ذلك تسليع الفن وهو ما حاول الحداثيُّون تجنُّبه، ولكن ما بعد الحداثة استطاعت أن تمدَّ سلطة السوق على سلسلة طويلة من المنتجات الثقافية، ومن ضمنها الفن المشتمل على إنتاج تافه لا يهدف لشيء [10]. وهو ما يشير إلى ما أصبح الآن يعرف بـ «أغاني المهرجانات».

فقد غدت الشركات الكبرى هي المُوجّه الرئيس للفن بكل المقاييس، وليست معايير وقيم علم الجمال الذي كان أحد علوم الفلسفة، وخرج منها على يد الفلاسفة الوضعيين مثل «ليونارد ماير» الذي أعلن نهاية عصر النهضة بميلاد فن جديد لا يهدف إلى شيء، سوى تجسيد عالم الآلة أو المادة، فيما غاب عالم الموسيقى الذي يقدم -والدين- تفسيراً لوجود الإنسان والكون، فالفن المنفصل عن القيمة مثل «السح الدح إمبو» يساوي الدين بلا أعباء أخلاقية، وذلك لأن الإنسان لم يعد مركز الكون، بينما أكّد الإسلام أنه مركز الكون:

إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّي جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ
المراجع
  1. علي عزت بيجو فيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، الفصل الثالث، ظاهرة الفن.
  2. د. بدر الدين مصطفى، دروب ما بعد الحداثة، صـ 69.
  3. إدغار موران، إلى أين يسير العالم، ترجمة أحمد العلمي، صـ 22.
  4. آلان باديو، لغز 8 مايو: لنا الحق في التمرد، ترجمة أحمد حسان، صـ 3.
  5. د. عبدالوهاب المسيري، العلمانية والحداثة والعمولة، تحرير: سوزان حرفي، صـ59.
  6. د. بدر الدين مصطفى، دروب ما بعد الحداثة، صـ 69.
  7. آلان دونو، نظام التفاهة، صـ61.
  8. د. جلال أمين، ماذا حدث للمصريين؟، صـ 145.
  9. وولتر أرمبرست، الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر، صـ 206.
  10. د. بدر الدين مصطفى، دروب ما بعد الحداثة، صـ 81.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.