منذ سنوات عديدة، كتب الراحل العظيم «عبد الوهاب مطاوع»، مقالاً في مجلة «الشباب» عندما كان يرأس تحريرها، كان يتحدث فيه عن مهنة منقرضة كانت تمارس في قريتهم تسمى «تعليمجي غفر»، كان هذا الشخص مسئولاً عن تدريب الغفر الجدد مبادئ المهنة، فكان يجمعهم بتكليف من رؤسائه في ساحة فارغة في القرية ويقوم بتدريبهم ليصبحوا غفرًا.

كان «تعليمجي الغفر» يفخر بممارسة مهنته كمن يحمل شعلة مقدسة، ويرى نفسه، بشكل ما، مسئولاً عن حماية القرية، فهو المسئول عن تدريب من سيحمونها بعد تاريخ طويل من ممارسته للغفارة، كان يمشي في القرية مزهواً بنفسه وبمهنته وعلو شأنه في مجتمع القرية الفقير، وكان من ضمن تدريبات الغفر المهمة أن يدربهم على استخدام السلاح، كان يعلمهم كيف يصوبون على الهدف، ثم يأمرهم أن يضربوا النار على أهداف غير موجودة ودون حتى أي «خيال مآتة» يقومون بالتصويب نحوه، الأهم أنه لم يكن يستخدم في تدريبه أي بنادق، كان يجعلهم يصوبون على الهدف ثم يصرخ فيهم «اضرب» بصوته الجهوري، يتبعه أصوات المتدربين هاتفين «دي دي» محاكين أصوات البنادق التي كانوا من المفروض أن يتدربوا عليها.

في مقاله البديع يقول «عبد الوهاب مطاوع» أن مهنة تعليمجي الغفر تلك استشرت بين الأوساط بدرجة ملحوظة، فكل من يفعل أشياء ليست ذات قيمة يمشي مزهوًا بنفسه مختالاً بأفضاله الكبيرة على المجتمع، مخدوعًا في نفسه وفي أهميته الزائفة كما كان يفعل تعليمجي الغفر في قريته بالضبط.


الأكثر مبيعًا

انتشرت في السنوات القليلة الماضية ظاهرة «البيست سيلر»، أو الكتب الأكثر مبيعًا، وأصبح الكاتب الذي تدخل كتبه تلك القائمة يعتبر نفسه مبعوثًا إلهيًا أتى للبشر حاملاً شعلة المعرفة التي يجب أن يمررها للآخرين، وفي الغالب حاملو هذه الشعلة لا يكونون سوى من الكتاب صغار السن نسبيًا، فمن بين تسعة كُتاب تصدرت أعمالهم قائمة الأكثر مبيعًا بمعرض الكتاب هذا العام، ثمانية منهم تحت سن الأربعين.

استتبع تلك الظاهرة ظاهرة أخرى، وهي ورش الكتابة. ورش الكتابة التي تمثل بالنسبة لهؤلاء الكتاب محرابًا مقدسًا يجمع فيه الكاتب حوارييه ويملي عليهم تعاليمه، والغريب في الموضوع أن ورش الكتابة تلك لا يقوم بها أي كاتب من الكتاب ثقيلي الوزن، فنحن لم نسمع عن ورشة أقامها كاتب قديم ترجمت أعماله لعدة لغات وتحول بعضها لأعمال سينمائية أو تليفزيونية.

ولكن يمكننا ببساطة أن نسمع عن ورشة كتابة لكاتبة إنتاجها الأدبي لم يتخطّ الخمسة كتب؛ هي «شيرين هنائي». وإذا تفهمنا أن الكاتبة شيرين هنائي لديها ما يبرر سعيها لإقامة ورش كتابة حيث أن روايتها كانت من ضمن الكتب الأكثر مبيعًا، فما الذي يمكن أن نتفهمه من قيام عدد آخر من الكاتبات والكتاب المغمورين تمامًا بإقامة ورش كتابة لتدريب آخرين على المهنة؟ أو قيام ياسمين الخطيب بزف بشرى مشاركتها في ورشة كاتبين آخرين، في حين أن ياسمين الخطيب أصلاً لا تمتهن الكتابة الأدبية، وبالتالي لا يفهم أحد كيف يمكن لها أن تمرر خبرتها لآخرين، أين هي تلك الخبرة بالأساس؟

ثم يخرج للنور إعلان الكاتب «أحمد مراد» عن ورشته «الصفحة الأولى» والتي يتكلف الانضمام إليها أربعة آلاف وخمسمائة جنيه فقط لا غير، الورشة مدتها شهر واحد وسوف يقوم المتدربون فيها بالاطلاع على أساليب الكتابة من خلال مناهج خاصة قادمة من الخارج، ولن يقبل أي متقدم للورشة دون إجراء اختبارات مسبقة؛ لأنه وحسب كلام «مراد» فإن الكتابة تتطلب موهبة في الأساس.

إعلان ورشة الكتابة «الصفحة الأولى» لأحمد مراد


ما هو أكثر من الموهبة

بالطبع تحتاج الكتابة عوامل أخرى مع الموهبة للخروج بعمل أدبي قيم ومحترم، وهناك طرق عديدة لصقل الموهبة دون دفع آلاف الجنيهات، والأعمال الأدبية العظيمة كلها –تقريبًا– خرجت للنور دون الالتحاق بأي من ورش الكتابة الجديدة. ربما تنوعت تلك الطرق بين القراءة الغزيرة لأعمال أدبية، وقراءة كتب عن فنون الكتابة وتقنياتها، والممارسة المستمرة للكتابة حتى يحسن الكتاب من أسلوبه ولكي يمتلك أدواته، الدراسة أيضًا يمكنها أن تكون عاملاً مهمًا جدًا، والدراسة تختلف عن التلقين كثيرًا.

الكاتب الذي لا يمكنه أن يبحث عن كيفية تطوير موهبته ويبحث فقط عن أسماء براقة تلقنه كيف ينتج عملاً أدبيًا، ربما استطاع النجاح بسبل أخرى كتلك التي تدفع بعض الأعمال الأدبية الضعيفة إلى قائمة الأكثر مبيعًا، هذا إن كتب له النجاح من الأصل. وإذا كان «مراد» قد اهتم بأن يكون كل من يلتحقون بورشته يمتلكون موهبة، فهناك غيره لا يهتمون كثيرًا بموضوع الموهبة، الأهم أن يلتحق عدد لا بأس به بالورشة حتى يستطيع تسديد إيجار المكان الذي سيقيم فيه الورشة.

هؤلاء الكتاب الذين يعتبرون وجودهم في قائمة الأعلى مبيعًا مبررًا كافيًا لجعلهم كهنة يحملون رسالة الكتابة لم يفكروا كثيرًا في أن أعمالهم الأدبية ربما لاقت رواجًا لأسباب مختلفة عن كونها أعمالاً عظيمة، وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك، ربما لتدني الذوق العام الذي يسمح بخروج كتاب مرتفع السعر يحوي أخطاءً إملائية مذهلة وبرغم ذلك يحتل مرتبة متقدمة في الكتب الأكثر مبيعًا، وهناك من الأعمال الأدبية التي تقتنص مكانها بين إخوتها من الأكثر مبيعًا لمهارة في التسويق، وبخاصة التسويق الإلكتروني؛ هنا يمكننا أن نتوقف ونسترجع كلمات «عبد الوهاب مطاوع» عن مهنة تعليمجي الغفر.


اضرب.. «دي دي»

أحمد مراد، الصفحة الأولى، ورشة الكتابة
أحمد مراد، الصفحة الأولى، ورشة الكتابة

يمكننا أن نرى بعين الخيال مشهدين متوازيين؛ غفير قديم يدرب مجموعة من الشباب الصغير مهنة الغفارة ويدربهم على استخدام السلاح الوهمي ويصرخ فيهم أن «اضرب»، وكاتب يجلس أمامه مجموعة من الشباب الصغير أيضًا يدربهم هو الآخر على استخدام مواهبهم التي ليس من المؤكد أنهم يمتلكونها ويصرخ فيهم أن «اكتب».

ربما كانت جلسات العصف الذهني ممتازة، ولكنها لا يمكن أن تكون مبررًا وحيدًا لإقامة ورش الكتابة بكل تلك الكثافة، وهذا ليس رأيًا شخصيًا، فعندما يتصدر كاتب بحجم «مكاوي سعيد»للحديث عن تلك الظاهرة ووصفها بـ«الكلام الفارغ» لا يجب علينا أن نصم آذاننا، فربما كانت بالفعل كلامًا فارغًا و«سبوبة» لا تستأهل كل تلك الضجة المثارة حول أهميتها، خاصة أن هناك العديد من الورش التي يقوم بها كتاب مبتدئون، لم يجنوا من الخبرة ما يكفي لتصديرها للآخرين.

نتيجة ذلك أن يخرج للسوق يوميًا كتب ركيكة مليئة بالأخطاء الفادحة، حيث أن نشر الكتب الآن لا يحتاج سوى لامتلاك بضعة آلاف من الجنيهات، وحضور ورشة أو اثنتين حتى يسمى الكاتب كاتبًا. ليت الحياة بكل تلك السهولة، وليت حماية القرى لا تحتاج سوى لصوت جهوري ينطلق في الظلام صارخًا «هااااا.. مين هنااااك».