الثورة الزراعية: نعمة أم نقمة على البشرية؟
ماهية الثورة الزراعية
قبل أن نتناول نقد دايموند للثورة الزراعية، يجب أن نأخذ نبذة عنها، حتى يكون هناك تصور واضح لما سنتحدث عنه.
قبل عشرة آلاف عام في منطقة الهلال الخصيب حيث يحدها غرباً البحر المتوسط وشرقاً الخليج العربي، قام بعض من البشر باستحداث أمر غريب في ذلك الوقت ألا وهو “الاستقرار”. كان هذا إذعاناً بوقف الترحال والتجوال، ومثلما كان ذلك إعلاناً جسدياً بالسكون، كان أيضاً إعلاناً عقلياً بالتفكير الهادئ. فالإنسان العائش على الصيد لا يلبث في مكان محدد وبذا فهو في حالة حركة مستمرة يبحث فيها عن طعامه وما يضمن بقاء نوعه. أما ما قام به إنسان الهلال الخصيب كان ثورة من حيث التفكير، حيث ماذا سيحدث إذا استقررت في منطقة معينة؟ كيف سأكل وكيف سأضمن بقائي؟ وقبل ذلك لماذا توقفت عن التجوال والصيد؟ لكن في الهلال الخصيب [1] رأى الإنسان القمح البري والشعير وتعلم كيف يقوم بزراعته وشيئاً فشيئاً تعلم الإنسان التخلي عن الصيد والاتجاه إلى الزراعة وبناء المنازل بجوار الحقول، فإعجاز الزراعة لم يظهر من العدم بل كان نتيجة مجهودات ومحاولات ما قبله من البشر.
وأتت الدلائل الأركيولوجية من جنوب تركيا في منطقة “جاتال هويوك”، حيث اكتشف علماء الآثار أكثر من اثني عشر مسكناً من الطوب اللبن متجمعة بشكل وثيق بجانب بعضها البعض يبلغ عمرها حوالي 9600 سنة ويقدر أن ما يقارب من ثمانية آلاف شخص عاشوا في تلك المنطقة ومارسوا طقوساً فنية ودينية حيث دفنوا موتاهم تحت منازلهم ورسموا على الجدران كيف كانوا يصطادون. كانت هويوك دليلاً على الاستقرار، أما دليل الزراعة فيأتي من سوريا. فعلى ضفاف نهر الفرات في منطقة تل أبو هريرة كان الإنسان يسترزق من صيده للغزلان والحيوانات البرية، لكن في حوالي عام 9700 قبل الميلاد لوحظ أنهم بدأوا في حصاد الحبوب وتم العثور على أدوات حجرية تساعد في طحن تلك الحبوب [2]. ومع مرور الوقت تعلم هذا الإنسان زراعة الأنواع المختلفة مثل الأرز والقمح والدخن والعدس والكتان وتعلم كيف يدجن ويُربي الحيوانات حتى يستفيد من لحومها مثل البقر والجاموس والخنازير والماعز واستخدام تلك الحيوانات في المساعدة في أعمال الزراعة.
كان من أهداف اتجاه إنسان الصيد إلى الزراعة، هو خوفه من الموت جوعاً. لذلك قام بالبحث الحثيث عن أي طريقة تساعده على البقاء حياً أكبر فترة ممكنة. فمع الوقت أدرك هذا الإنسان أن الحيوانات أو النباتات التي تستحق الأكل محدودة وقام بعملية تصنيف لتحديد ما يؤكل وما لا يؤكل وما هو قليل القيمة الغذائية وما هو أعلى. وبالتالي حينما تعلم الزراعة أسقط ما عرفه على الأرض الزراعية والحيوانات. ومع وجود الاستقرار والمسكن الثابت نشأت التجمعات البشرية التي تعتمد بشكل أساسي على ما ينتجه الحقل. فالأم التي اعتادت على الصيد والتنقل من مكان لآخر، لم يكن في وسعها إلا إنجاب طفل واحد تستطيع حمله ولا تستطيع الإنجاب مرة أخرى إلا قبل أن يتعلم الوليد الأول المشي والاعتماد على نفسه، أما المرأة المزارعة فإنه باستقرارها تستطيع إنجاب العديد من الأطفال بدون خوف من أي شيء، ونتيجة ذلك ظهر كيف يستطيع الإنسان التكثيف من عدده وإقامة مجتمع بشري واسع. وظهر مع ذلك مقدرة الإنسان على تخزين طعامه نتيجة وجود فائض عن الحاجة.
نقد دايموند
في بداية نقده للثورة الزراعية [3]، يُثني دايموند على العلم ويدين بالفضل له في التغييرات الجذرية التي حدثت على يديه. ومن منطلق علم الآثار فهو يهدم اعتقاداً مقدساً أن تاريخ البشرية هو تاريخ التقدم بمعناه الغربي وبذا فاكتشاف الزراعة كانت خطوة تقدمية لحياة أفضل. لكنه يرى عكس ذلك تماماً، يرى أن إنسان الصيد كان أفضل من إنسان الزراعة وأن مع الزراعة جاء معها الطبقية والفوارق الاجتماعية وكذلك الأمراض والاستبداد.
لكن تحسباً للمصادرة على نقده، حيث يمكن أن يأتي شخص ما ويقول أن حياة الإنسان الحالية أفضل بكثير من حياة الإنسان في العصور الوسطى، وأن إنسان العصور الوسطى كان يرى حالته أفضل من إنسان الكهف وهكذا. فهو هنا يطرح إطاراً بديلاً حول ماذا لو كان استكمل حالة الصيد التي عاش فيها، وهل كان من الممكن أن يكون حالنا اليوم أفضل.
يعتبر الفلاسفة وأصحاب النظرة التقدمية أن حياة الصيد كانت تقليدية قاسية لا يوجد بها استراحة من البحث عن الطعام، وأن الثورة الزراعية أنقذتنا من ذلك البؤس حيث تعتبر الزراعة وسيلة فعالة لإنتاج المزيد من الطعام في فترة وجهد أقل. بل وحتى ذهبوا لأبعد من ذلك، حيث يزعمون أن إنسان الزراعة هو السبب في ازدهار الفن، فبما أن المحاصيل مخزنة أو قطف المحصول يمكن أن يحدث في مدة أقل بدلاً من العثور عليها في البرية، وبالتالي يوجد وقت فراغ كبير استحث الطاقات الإبداعية عند الإنسان. تبدو تلك النظرة جِد منطقية، لكن لا يمكن إثباتها، حيث يجعلنا ذلك نطرح سؤالاً وجيهاً: كيف نثبت أن حياة الإنسان تحسنت عندما استعان بالثورة الزراعية؟
إثباتات علوم الآثار
لإثبات ذلك قام علماء الآثار بتصميم تجارب غير مباشرة، حيث لجأوا إلى الشعوب البدائية التي لا تزال منتشرة كرجال الأدغال في كالهاري، حيث يعتمدون على الصيد في المقام الأول لتوفير طعامهم وغذائهم واتضح من مراقبة نمط حياتهم أن لديهم وقت فراغ كبير وينامون كثيراً ويعملون عدد ساعات أقل من جيرانهم المزارعين، حيث يقضون من 12 ساعة إلى 19 ساعة أسبوعياً لصيد الطعام. وبينما يركز المزارعون على الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية من الكربوهيدرات كالأرز والبطاطا، فإن مزيج النباتات والحيوانات في وجبات الصيادين يوفر كمية أكبر من البروتين وتوازناً أفضل من العناصر الغذائية الأخرى، كما أن التنوع في الأطعمة يعطيهم ميزة إضافية مقارنة بمن مات خلال مجاعة البطاطس في أيرلندا.
كما يخبرنا علم الأمراض القديمة (Paleopathology) أن الهياكل العظمية المستخرجة من اليونان وتركيا تظهر أن متوسط طول الصيادين بنهاية العصر الجليدي كان 5 أقدام و9 بوصات للرجال، و5 أقدام و5 بوصات للنساء، ومع تبني الزراعة انهار الطول حيث بلغ الرجال حوالي 5 أقدام و3 بوصات والنساء 5 أقدام فقط. وبدراسة 800 هيكل عظمي للهنود الحمر من التلال الجنائزية الموجودة في وديان نهر إلينوي وأوهايو لتقديم تصور عن الوضع الصحي في تلك المنطقة نتيجة اتجاه السكان حينها للزراعة منذ 1150 سنة، حيث أثبتت الأبحاث أن السكان دفعوا ثمناً باهظاً نتيجة نمط حياتهم الجديد. بالمقارنة مع الصيادين القدامى، تبين أن المزارعين عندهم زيادة تقارب 50 بالمائة في عيوب المينا التي تشير لسوء التغذية وزيادة بنسبة أربعة أضعاف في فقر الدم الناتج عن نقص الحديد، وثلاثة أضعاف في آفات العظام التي تعكس الأمراض المعدية وزيادة في حالات العظام التنكسية نتيجة العمل الشاق.
وبالنسبة للشق الصحي، كان الصيادون يتمتعون بنظام غذائي متنوع، في حين كان المزارعون يحصلون على طعامهم من عدد قليل من المحاصيل النشوية، وفي المجمل حصل المزارعون على سعرات حرارية رخيصة على حساب التغذية الجيدة، وبذا كانوا أكثر عرضة للمجاعات إذا فشل أحد المحاصيل. أيضاً قامت الزراعة بإنشاء مجتمعات مكتظة، مما ساهم في انتشار الطفيليات والعدوى فأمراض مثل السل والإسهال والحصبة والطاعون كان يجب عليها أن تنتظر الزراعة حتى تنتشر، على عكس مجتمع الصيادين لم يكن بالإمكان انتشار العدوى نتيجة الانتشار المستمر.
جلبت الثورة الزراعية أيضاً الانقسامات والفروقات الطبقية، ففي مجتمع الصيادين لم يكن هناك تركز للسلطة أو الطعام في يد أحد، ولكن كما نقول بالعامية كانوا يقضون “اليوم بيومه”، لكن في المجتمع الزراعي يمكن لطبقة سليمة وتمتلك ثروة من الزراعة أن تنصب نفسها فوق الجماهير المريضة وغير المنتجة وبذلك نشأت الملكية الخاصة نتيجة وجود فئة من المجتمع قامت بتخزين أكبر قدر ممكن من فائض الطعام الذي يعتبر في تلك الحالة ثروة وبالتالي نشأت فكرة السلطة السياسية وكيف يمكن لمجموعة من الأشخاص أن يتحكموا في المجتمع [4]. كما شجعت الزراعة على عدم المساواة بين الجنسين حيث تعامل المرأة على أنها وسيلة للإنجاب مما يستنزف من صحتها.
لكن كيف وقعنا في فخها؟
تتلخص الإجابة في المثل القائل “القوة تصنع الحق”، في المجتمع الزراعي هناك العديد من الأشخاص المتحدين معاً، أما مجتمع الصيادين فقائم على فكرة التفرق والتجوال. هذا ما شكل نوعاً من الضغط عليهم وبذا كان يجب عليهم الاندماج في المجتمع الجديد أو الاشتباك مع المزارعين، وفي تلك الحالة سيعتبرون خاسرين فقوة 100 مزارع سيء التغذية ستكون أفضل من قوة صياد جيد التغذية، ولذا فإن الخيار الأول كان الأكثر عقلانية بالنسبة للصيادين وهذا ما جعل رقعة المجتمعات الزراعية تزداد بمرور الوقت.
الخلاصة
إذا زارنا عالم آثار من الفضاء الخارجي وحاول أن يشرح لأصدقائه تاريخ البشرية باستخدام ساعة 24 ساعة تمثل كل ساعة فيها حوالي 100 ألف سنة من تاريخ البشر، فسيقول إن جزءاً كبيراً من تاريخ البشرية سيطر عليه الصيادون وأننا عشنا صيادين معظم اليوم وأننا في الساعة 11:54 مساءً اخترنا الزراعة، ومع اقتراب منتصف اليوم الثاني، هل ستنتشر معاناة الفلاحين الذين يعانون من المجاعة لتشملنا جميعاً؟ أم هل سنحقق بطريقة ما تلك النعم المغرية التي نتخيلها خلف الواجهة البراقة للزراعة، والتي ما زالت تتملص منا حتى الآن؟
- كتاب أسلحة جراثيم وفولاذ، تأليف جارد دايموند، الفصل الثامن ص191، طبعة الأهلية للنشر والتوزيع
- https://www.history.com/topics/pre-history/neolithic-revolution
- https://www.discovermagazine.com/planet-earth/the-worst-mistake-in-the-history-of-the-human-race
- https://www.journals.uchicago.edu/doi/10.1086/701789#_i36