ولدت «أغوتا كريستوف» في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1935، في قرية تشيكفاند بالمجر، كانت القرية فقيرة للغاية بلا مياه أو كهرباء، انتقلت للعيش في بلدة كوزبرج لظروف الحرب والفقر وتعرض والدها للسجن.

لأغوتا شقيقان: «يانو» الذي كان يكبرها بعام واحد، و«تيلا» الذي كان يصغرها بثلاثة أعوام. كانت تستغل صغر شقيقها تيلا وتحكي له حكايات من نسج خيالها وتحاول معه بكل السبل لكي يصدق تلك الحكايات. حكت له في مرة أنه ليس شقيقها تمامًا، بل وجدته أمهما في أحد الشوارع وقررت الاعتناء به كطفلها. انهار شقيقها من البكاء وركض بحثًا عن أمه ليسألها والتي غضبت بالطبع على الابنة وقررت معاقبتها لإزعاج الصغير بتلك الحكايات الكاذبة.

كانت الأم تعاقب الابنة بأن تجبرها على الجلوس في أحد الأركان في الساحة الخارجية للمنزل، حيث كان يلمحها الأب غالبًا. الأب كان مُعلمًا، بل كان المعلم الوحيد بالبلدة، كان يجمع الأطفال كل يوم ويُدرِّس لهم، وحين كانت تأتي طفلته المُعاقَبة للجلوس بالقرب منه، كان يمنحها أحد كتبه المصورة ويطلب منها أن تطلع عليه في صمت حتى تنتهي فترة عقابها.

كان يانو شريكها في معظم أخطائها، لذا كانا يُعاقبان سويًا حتى في الأخطاء التي كان لا يشاركها فيها، كان يذهب إلى الأم ويعترف على نفسه بأخطاء لم يرتكبها كي ترسله ليجلس إلى جوار شقيقته.

تحكي أغوتا أنها استوحت علاقة الأخوين التوأم في ثلاثيتها التي ابتدأتها برواية «الدفتر الكبير»، استوحتها من علاقتها بأخيها يانو. تقول إنها بدأت الرواية بمجموعة من القصص التي كانت تحكيها عن طفولتها هي ويانو، فقد كانت تحكي قائلة: «أنا وشقيقي»، ثم اختصرتها إلى «نحن»، فوجدت أن من الأسهل أن يصبحا شقيقين توأمين، كي يسهل الحكي، وربما هذا ما كانت تشعر به تجاه يانو، كانا كالتوأمين بالضبط.

في ثلاثيتها: «الدفتر الكبير والرهان والكذبة الثالثة»، استطاعت أغوتا أن تُربِك القارئ بشكل كبير، فحين تقرأ حكاية التوأم لوكاس وكلاوس، تكتشف بعد كل فقرة أو مقطع أنك غير متأكد تمامًا مما يحدث، حتى تنهي الثلاثية وأنت غير متيقن هل كان هناك توأمان بالفعل؟ هل كانا شقيقين، أم كانا شخصًا واحدًا والشقيق الآخر هو مجرد خيال اخترعه ليؤانسه ويساعده على التغلب على ظروف الفقر والوحدة؟

هل قتل التوأمان أباهما بالفعل ليعبرا الحدود؟ هل عبر أحدهما وترك الآخر لينتظره حتى يعود ويخبره عما وجده خارج هذه الحدود المبهمة؟ هل مات؟ هل عاد؟ هل التقيا بالفعل؟ أم كل هذا كان مجرد هراء وخيال في ذهن البطل أو في ذهن الكاتبة نفسها؟

لم تكتب أغوتا عن شقيقها فقط لكنها استوحت الكثير من شخصية والدها أيضًا، وكتبت عنه في رواية «أمس»، حين وصفته بالمدرس الوحيد الذي يُدرِّس الأطفال، كانت فخورة به في داخل الرواية كما لو كان الأمر حقيقًا، حتى لأنها في إحدى الجمل الحوارية حين يخبرها الفتى أن والده قد مات منذ زمن ترد عليه بإحدى جملها القوية القصيرة:

لا أحب أن يكون أبي ميتًا.

فرّقت الحرب ما بين أغوتا وأسرتها، فبعد سجن والدها، أدخلتها أمها إلى مدرسة داخلية بعيدة. كتبت في أوراقها أنها كانت تشتاق كثيرًا إلى أخويها وبيتها القديم.

دخلت أغوتا المدرسة وهي لا تملك إلا حذاءً واحدًا وسترة وحيدة كانت لأخيها من قبلها، كانت السترة ممزقة من جانبها الأيسر وكانت بلا أزار تحمي جسدها الصغير من نوبات البرد القارسة.

جمّدت الحرب والظروف القاسية التي مرت بها الكثير من مشاعرها وكلماتها أيضًا، فلا أحد يقرأ إحدى رواياتها دون أن تصدمه بالعديد من جملها المقتضبة والقاسية. أغوتا تقتل الأب أو الأم بجملة واحدة وتستأنف الكتابة بمنتهى الهدوء وكأن ما حدث أمرًا عاديًا جدًا، حتى أنها قد تجعلك تعيد القراءة لتتأكد هل ما قرأته للتو كان حقيقيًا أم لا.

وكأنها تصفعك على خدك وهي تحكي الحكاية، ثم تجبرك على متابعة الإنصات إليها دون أن تترك لك حتى الوقت الكافي لتتحسس آلام الصفعة.

إن أغوتا تكتب بنفس الجمود الذي صادفته في العالم من حولها دون قصد. تختصر الأوجاع والآلام في أحرف بسيطة، حيث لم يكن لديها أي متسع للشكوى أو التبرم مهما كانت الظروف.

تحكي ذات مرة، أن حذاءها الوحيد قد تمزق منها، فاقترضت حذاءً آخر من إحدى زميلات الدراسة وحملت حذاءها للإسكافي ليصلحه، لكنها لم تكن تمتلك أية نقود لتعطيها له، فتفكر في الذهاب لأمها لكن الثقوب الكثيرة التي تلمحها في ثوب أمها تمنعها من طلب النقود، قبّلت أمها وودعتها وقررت ألا تعود إليها مرة أخرى.

لقد وصفت أغوتا جزءًا من هذا المشهد في رواية «أمس»:

بالطين الأحمر كنت أنحت جسد أمي، حيث أغرز أصابعي الطفولية لأجعل فيه ثقوبًا، الفم والأنف والعينان والأذنان والفرج والدبر والسرة. كانت أمي مكسوة بالثقوب مثل منزلنا، مثل ملابسي، مثل نعلي، كنت أسد ثقوب نعلي بالطين.

أغوتا تحكي وتكتب بنفس تلك الطريقة المؤلمة، تقترب كثيرًا من مبتغاها وتحمل قارئها معها، وقبيل الوصول بقليل تتركه وتترك كل شيء وترحل بمنتهى البساطة.

 حين بلغت أغوتا الحادية والعشرين من عمرها وبعد زواجها بعام تقريبًا، حملت طفلتها ذات الأربعة أشهر وبدأت في رحلة الهجرة إلى سويسرا. تعرضت لأخطار الاعتقال والمحاكمة بتهمة الخروج من موطنها دون تصريح. نامت في بلدان غريبة وفي أماكن مخصصة للاجئين. جرّبت الفقر والجوع والخوف لتصل أخيرًا إلى مبتغاها وتحصل على منزل آدمي.

في سويسرا وجدت نفسها تبدأ من تحت الصفر كما وصفت نفسها، بأنها أصبحت امرأة أمية لا تجيد القراءة ولا الكتابة باللغة الفرنسية التي يتحدث بها أهل الموطن الجديد. تلك الشابة التي أجادت القراءة في الرابعة وبدأت في كتابة القصائد في الثانية عشرة صارت أمية، واضطرت للالتحاق بفصول لمحو الأمية، حتى أجادت تلك اللغة التي لم تكتب بغيرها بعد ذلك.

ربما كل ما مرت به بالإضافة لكونها مجبرة على الكتابة بلغة أخرى غير لغتها الأصلية كان سببًا في هذا الأسلوب المميز الذي عُرفت به أغوتا، تلك الجمل القصيرة ذات الطابع القاسي، كما لو أنها طلقات من الرصاص.

كانت تلجأ لأبسط الكلمات وأقصر الجمل لتُحمِّلها كل متاعبها ومشاعرها، بالضبط كما لو كانت تُعبِّئ القنابل بحفنات من البارود القابل للانفجار في أي مكان وفي أي وقت.