الساعة 1:40 بعد ظهر يوم الأربعاء، 27 يونيو عام 2007، سقط بشكل غامض من شرفة شقته في الطابق الخامس، ببناية ستيوارت بشارع كارلتون هاوس تيراس، في حي وستمنستر القريب من ميدان البيكاديلي في لندن، رحل بشكل مأساوي وشائعات العمالة لإسرائيل ما زالت تحوم حول اسمه؛ وليس هناك طريقة للموت أيسر من هذه؛ لتؤكد ظنون تورط الرجل في عمل سري ما دفع به إلى تلك النهاية المأسوية.

لكن القاهرة استقبلت جثمان أشرف مروان استقبال الأبطال، وتم تشييعه في جنازة عسكرية حضرها جمال مبارك وجميع أفراد النخبة الحاكمة في مصر، مشهد مهيب يعبر بالطبع عن تقدير الدولة لدور الرجل الوطني، وتكلل هذا التكريم بخطاب نعي من رئيس الجمهورية، للتأكيد على وطنية الفقيد وعطائه لوطنه، مبارك الذي لم يتمكن من حضور الجنازة لوجوده في قمة أفريقية في أكرا بغانا، قال عن مروان في نعيه «لقد كان رجلًا وطنيًا مخلصًا لبلده ونفذ مهمات وطنية». هكذا كانت نهاية مروان في الأوراق الرسمية بالقاهرة.


زعيرا يكشف هوية الملاك

«إيلي زعيرا» مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق

عندما خرجت مذكراته للنور في مطلع التسعينيات، أطلق إيلي زعيرا – مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق- خيطًا في الهواء يمكن الإمساك به وربطه بخيوط أخرى ظهرت فيما بعد؛ للتكهن بأن المصدر الذي أبلغ تسفي زامير -رئيس جهاز الموساد الأسبق – بموعد حرب أكتوبر قبل اندلاعها بـ24 ساعة كان هو نفسه أشرف مروان، الذي لمح إليه زعيرا في كتابه بعنوان «المنبع»، وكانت كل الخيوط التي نسجت المعلومة المؤكدة عن علاقة أشرف مروان بالموساد الإسرائيلي، مصدرها الرئيسي إيلي زعيرا الذي اتهمه تسفي زامير رئيس الموساد وقت الحرب بخرق أولى الوصايا العشر في سلك المخابرات وطالب بمحاكمته.

لاحقًًا نشر المؤرخ الإسرائيلي أهرون بريغمان مقالا وثلاثة كتب لمح خلالها إلى علاقة مروان بالموساد، وكان إيلي زعيرا هو مصدره الرئيسي بالطبع، وفي 21 ديسمبر عام 2002، نشرت صحيفة الأهرام المصرية، حوارًا مع المؤرخ الإسرائيلي أهرون بريغمان، سئل فيه بشكل مباشر، عما إذا كان الصهر الذي تحدث عنه في كتابه «تاريخ إسرائيل» هو أشرف مروان؟ فأجاب، بنعم، لتحدث هذه الإجابة بالتأكيد دويًا هائلًا في قلب العاصمة المصرية، لم يقابله سوى إنكار من مروان نفسه وأفراد عائلته، دون وجود أي رد رسمي حتى الآن سوى خطاب نعي مبارك الذي أكّد فيه على وطنية أشرف مروان.


تسويق إسرائيلي لخيانة مروان

«يوري بار جوزيف» مؤلف كتاب (الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل)

حاول يوري بار جوزيف في كتابه الملاك نسج قصة محكمة حول عمالة أشرف مروان للموساد الإسرائيلي، السردية كُُتبت باحترافية صحفي وضابط سابق عمل كمحلل استخبارات بوحدة الأبحاث بجهاز الاستخبارات الإسرائيلي «أمان»، بالإضافة إلى خبرته الأكاديمية كأستاذ للعلوم السياسية بجامعة حيفا، رواية بار جوزيف تقوم بالأساس على دحض الرأي القائل بعمالة أشرف مروان المزدوجة، بتقديم رواية تنتصر لتصور الموساد الإسرائيلي الذي ادّعى خلالها الكاتب الإسرائيلي أن مروان كان على علاقة وثيقة به، وليس من شك في هذا الادعاء، خاصة أنه لا يوجد نفي للعلاقة من أي جهة، إلا أن طبيعة هذا الاتصال وخلفياته هي التي ُتحدث كل هذا الجدل الدائر، هل كان مروان جاسوسًا يعمل لحساب إسرائيل؟ أم كان عميلًا مزدوجًا وجزءًا من خطة الخداع المصرية إبّان الحرب؟

لم يكن الرجل الذي شيّع جنازته المصريون في 1 من يوليو 2007 وطنيًا مصريًا على الإطلاق، بل كان أكبر خائن في تاريخ أمتهم.

بهذا الوصف القاسي لأشرف مروان في المقدمة التي استهل بها يوري بار جوزيف كتابه «الملاك»، قطع الرجل بخيانة مروان حتى قبل أن يسوق الأدلة التي تؤكد منطقه، اندفع بار جوزيف بعد ذلك إلى تقديم تصور كامل من خلال الكتاب عن تفاصيل جاسوسية أشرف مروان، بداية من دوافعه النفسية، وانتهاء بقطع علاقته بالموساد عام 1998 بعد شعوره بتهديد من الكشف عن هويته.

بار جوزيف حاول أن يغلق أي باب يؤدي إلى احتمالية عمالة أشرف مروان المزدوجة، حتى إنه نجح في خلق تصور ذهني في عقل المتلقي عن أشرف مروان، يوحي بأنه شيطان عاش حياته بأكملها يتآمر، بدءًا من لحظة زواجه بمنى جمال عبد الناصر، مرورًا بعمله مع الموساد بدافع كسب المال، والانتقام من عبد الناصر، الذي لم يكن يظهر له الإحترام اللازم، بالإضافة إلى اتهامه في قضايا فساد بمصر في عصر السادات، وتورطه في تجارة السلاح، وصولًا إلى عمله في مجال المال بلندن الذي لم يخل من الصراعات والتآمر أيضًا.

السيرة الذاتية التي ساقها بار جوزيف عن الرجل، تكفي لأن تكون على أتّم الاستعداد لتقبل منطق خيانته، حتى لو لم تكن الأدلة والقرائن مقنعة بقدر كافِ، أو أنها أقرب لسرد حكايات لجنرالات إسرائليين لم تعتمد على وثائق البتة، في الأغلب يبدو كتاب الملاك جزءًا من حملة دعائية ضخمة لتسويق انتصار مخابراتي إسرائيلي على مصر، ربما حدث عكسه، يعزز هذا التصور أيضًا تصوير فيلم إسرائيلي يجسد قصة كتاب (الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل) ليتم بذلك توثيق الرواية الإسرائيلية عن جاسوسية أشرف مروان في السينما؛ الأكثر فاعلية وتأثيرًا؛ ليكون الفيلم الذي سيعرض في أغسطس 2018 الجزء الأهم من الحملة الدعائية الضخمة التي بدأتها إسرائيل بنشر الكتاب.


رواية إيلي زعيرا.. الوجه الآخر من الحكاية

كان هذا الجزء الأخير الذي اختتم به إيلي زعيرا الفصل الذي تحدث فيه عن خطة الخداع المصرية من كتابه «حرب يوم الغفران»، زعيرا الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية «أمان» وقت حرب أكتوبر ، هو أول من أشار إلى أشرف مروان في كتابه تحت اسم (المنبع)، وقد وصفه بأنه «كان تتويج نجاح خطة الخداع المصرية»، هذا التصور تحاول إسرائيل طمسه الآن بكتاب الملاك، والفيلم الذي أنتجته عنه، ولكن الخداع المصري سيظل يلاحق الجنرالات الإسرائليين ليذكرهم دومًا بالهزيمة المذلة التي لحقت بهم يوم عيد الغفران، نتيجة مفاجأة سببها تقصير مخابراتي زريع، استعرضه زعيرا بالتفاصيل الدقيقة في كتابه.


الملاك يخفي الحقيقة

حسب اعتقادي فإن ما تم إخفاؤه من معلومات عن (الوكالة) بشأن هدف زيارة السعودية ولقائه مع الملك فيصل، وما تم إخفاؤه عن (الوكالة) من معلومات عن اللقاء المصري السوري في الإسكندرية في أغسطس، وكذلك القرار الحقيقي والوحيد عن موعد الحرب ضد إسرائيل، ووصول معلومة في نفس الوقت تفيد أن السادات قد أرجأ الحرب إلى نهاية العام، كل ذلك يشهد على أن (المنبع) كان تتويج نجاح خطة الخداع المصرية.

استشهد زعيرا في استعراضه لخطة الخداع المصرية بأهم الإجراءات التي اتخذتها القيادة المصرية على الأرض، والتي ذكر الفريق الشاذلي جزءًا كبيرًا منها في كتابه «مذكرات حرب أكتوبر»، إلا أن أهم ما سرد في هذا الفصل؛ المعلومات التي أخفاها المنبع عن الموساد، وعلى رأسها تفاصيل زيارة السادات للسعودية في أغسطس 1973، والتي أطلع خلالها السادات الملك فيصل على الخطة، وأخبره بأن الحرب قريبة جدًا، لكنه لم يحدد التوقيت، كان يجلس بجوار الرئيس في هذا الاجتماع السري مرافق وحيد، لم يكن هذا المرافق سوى أشرف مروان، الذي لم يخبر إسرائيل بنوايا السادات المؤكدة عن الحرب.

وفقًا لرواية زعيرا، هناك معلومة أخرى في بالغ الأهمية، أخفاها مروان عن أصدقائه في الموساد أيضًا، وهي المباحثات التي تمت بين القيادات العسكرية المصرية ونظيرتها السورية في القاعدة البحرية بالإسكندرية من 21 إلى 23 أغسطس 1973، وهي المحادثات التي قد توصلت إلى اتفاق على توقيتين محتملين للحرب: من 7 إلى 11 سبتمبر، من 5 إلى 10 أكتوبر، رجل مثل مروان يعمل جاسوسا لدى الموساد الإسرائيلي كما حاول أن يؤكد يوري بار جوزيف ذلك، لماذا يخفي عن الإسرائليين معلومات بهذه الخطورة، كانت ستغير من تصورهم عن نوايا السادات بشكل كامل؟!

أشار زعيرا إلى قاعدة مهمة في كتابه تُضعف من منطق سردية الملاك، حيث أشار إلى أن «من أسس العمل المخابراتي تهجين المعلومات من مصادر مختلفة» وهي القاعدة التي ربما غابت عن يوري بار جوزيف وهو يجلس إلى مكتبه يخط كتابه؛ حيث اعتبر أن المعلومات التي قدمها مروان متفردة، وخصوصًا معلومة توقيت الحرب، الذي أخبر بها تسيفي زامير أنها الساعة السادسة مساء، وذلك قبل اندلاعها بأقل من 24 ساعة، في حين أنه علم بموعدها يوم 15 سبتمبر كما أوضح إيلي زعيرا، بينما تَدَافُع معلومات أخرى ومشاهدات على أرض الواقع تضعف من معلومة أشرف مروان، خصوصًا أنها معلومة وحيدة أمام كم من المعلومات التي تناقضها تمامًا، بكل تأكيد هذا التضارب الواضح في المعلومات أربك القيادة الإسرائيلية في الساعات الأولى من الحرب، مما مكّن المصريين من تحقيق انتصار خاطف كسر كبرياء إسرائيل وأجلسها مرغمة إلى طاولة المفاوضات، وهذا أيضًا يرجح كون دور أشرف مروان تتويجًا لنجاح خطة الخداع المصرية، ولكن يبقى تساؤل مهم؛ أين الدولة المصرية بأجهزتها من تلك الروايات عن الحرب التي انتصرت فيها؟ هل يعقل أن تكون إسرائيل دائمًا هي الراوي؟!

المراجع
  1. يوري بار جوزيف، «الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيلي»
  2. إيلي زعيرا، «حرب يوم الغفران»
  3. مي سمير تكتب: "الملاك".. إسرائيل توثق علاقتها بأشرف مروان فى فيلم سينمائي
  4. أشرف مروان… "الملاك" الذي أنقد مصر أم إسرائيل؟