مسلسل «After Life»: هل ينقذنا الألم؟
أكثر من مرة هذا الأسبوع فقط أصادف أخباراً عن موت الأحباء. الموت شيء عادي ومتوقع في هذه المرحلة التي يمر بها العالم، الموت حولنا جميعاً في كل مكان. الموت قريب جداً، ربما يطل برأسه الآن من خلف كتفي ليقرأ ما أكتبه ويسخر مني منتظراً أن أنتهي من الكتابة ليتم مهمته. الموت قاسٍ جداً، ليس عندما تكون أنت زبونه، ولكن عندما يأخذ من تحبهم بعيداً. الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء، تلك حقيقة واقعة؛ ولذلك فهذا هو الوقت المناسب تماماً للحديث عن مسلسل After Life.
بعد الحياة
زوج محب يفقد زوجته جراء السرطان، يقرر أن يستخدم كل طاقته في أن يزدري الحياة والبشر، يعتقد في امتلاكه لقوة خارقة تمكنه من اللامبالاة بكل شيء، والسخرية من كل ما ومن يضايقه حتى لو بشكل عابر، يستخدم في تعاملاته لغة وقحة وعنيفة ولا يهتم بالكياسة مطلقاً، وتختفي تماماً شخصيته اللطيفة لتحل محلها أسوأ نسخة منه، ساخرة ومتألمة ومؤلمة، ويحتفظ دوماً بباب خلفي يمكنه الخروج منه عندما تسوء الأمور، فهو يعرف أنها مسألة وقت حتى يجرؤ على الانتحار، الانتحار الذي لا يمنعه عنه سوى أن الكلب الذي يمتلكه لا يستطيع فتح علبة الطعام وحده.
المسلسل بطولة وكتابة وإخراج الكوميديان الإنجليزي ريكي جريفيه، في دور توني الزوج المكلوم الذي يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يدفع الحياة بعيداً عنه ويعيش مع ذكرياته عن زوجته الراحلة، يشاهد فيديوهاتهما معاً ويبكي، ويستيقظ يومياً على فيديوهاتها التي صورتها له قبيل موتها لتحثه على أن يعيش بعدها وتحاول إنقاذه من نفسه حتى وهو على الجانب الآخر.
يذهب توني إلى عمله المحبط الممل الذي لم يحاول أبداً أن يطور نفسه فيه لأنه كان يكتفي بسعادة واحدة، هي سعادته مع زوجته، والتي عندما فقدها اكتشف أنه لا يمتلك أي شيء آخر، ويقابل أشخاصاً لا يكرههم ولكنه لا يستطيع أيضاً أن يحبهم وهو حزين، يتفاعل مع كل من يقابله بسخرية شديدة، ويفصح عن ألمه طوال الوقت بلا شكوى ولكنه يقر واقع أنه حزين وأن العالم بلا قيمة وأنه يكره البشر والأشياء، يحاول تكوين صداقات ويحاول دخول علاقة عاطفية، ولكن ألمه الشديد يقف عائقاً أمامه.
المسلسل مكون من موسمين مع أخبار مؤكدة عن أن ريكي دين جريفيه يكتب الآن الموسم الثالث، ومتاح على شبكة نتفلكس بموسميه.
هل يوحدنا الألم؟
في المسلسل يعاني توني من الحياة معاناة حقيقية، فهو يبكي وحيداً في حين أنه وسط الناس يسخر منهم ببساطة، توني لا يضحك، طوال الموسمين لم يضحك توني أبداً، ربما ابتسامة خفيفة ولكن الضحك الذي يجدد القلب لا يستطيعه توني، يتعامل مع الناس بفظاظة شديدة، ورغم ذلك فالكل يقدر ألمه، عندما تشاهد توني لا تتعجب من سلوكه ولا تستنكره، لا يمكنك أن تصفه بالمبالغة، لأنه يجبرك على التعاطف معه، ليس عن طريق الشكوى ولكن عندما ترى هشاشته، الألم الذي يحمله في صدره يجعله هشاً جداً، فتحبه رغماً عنك.
كل شخصية في المسلسل تحمل ألمها الخاص، قريب توني الذي يحاول أن يستعيد زواجه الموشك على الانهيار، صديقته العاملة بالجنس التجاري التي ينبذها الجميع في حين أنها عطوفة وذكية، ساعي البريد الفقير غير الاجتماعي، زملاؤه في المكتب، كل منهم له قصة خاصة، وكلها قصص تحمل ألمها بداخلها، كل الشخصيات على اختلاف خلفياتهم ونمط حياتهم يتألمون، لذلك يتفهمون ألم توني ويحبونه رغم أنه تغير وأصبح أكثر حدة وفظاظة، ربما لأنهم يرون أنفسهم فيه بشكل أو بآخر.
الألم يوحد البشر، ربما لذلك بالتحديد العالم في هذا الظرف الاستثنائي يتفهم بعضه جيداً، أياً كانت لغتك وجنسيتك وحالتك الاجتماعية وما قاسيته من ظروف فأنت تشترك مع الآخرين الآن في الخوف، تعرف شخصاً أو أكثر أصيب بالمرض الذي يعاني منه الكوكب، ربما فقدت أحد أحبائك، أنت تعرف بالتحديد ماذا يعني الألم، تعيشه كما يعيشه شخص على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، لا تشترك معه في أي شيء، ورغم ذلك بإمكانك أن تعرف بالتحديد كيف يشعر الآن في هذه المرحلة من حياته.
الألم حقيقي.. المسلسل خيالي
عندما تبحث عن مسلسل أفتر لايف على الإنترنت سوف تجد الكثير من المشاهدين يتساءلون ما إذا كان المسلسل مبنياً على أحداث حقيقية أو كتاب سيرة ذاتية أو القصة الشخصية لريكي جريفيه، المشاهدون من حول العالم وجدوا أن ما يرونه على الشاشة حقيقي جداً لدرجة أنهم يتساءلون، هل يسرد هذا الرجل واقعاً أم أن كل هذا الألم وليد خياله، وتجد في أكثر من تصريح للكاتب والمخرج والممثل ريكي دين جريفيه يقول إن المسلسل لا يحكي قصته ولا حتى قصة عايشها، رغم أنه لا بد أن يضمن لمحة شخصية عاشها أو شعر بها في كل أعماله.
توني ليس حقيقياً، ولكن ألمه حقيقي يمس الجميع، ربما تشاهد المسلسل وأنت في علاقة عاطفية مستقرة، متزوج وتحب زوجتك، ولكنك عندما تشاهد الألم الصادق على الشاشة تشعر بوخزة في قلبك، ماذا لو فقدت هذا الحب؟ ماذا لو أصبحت فجأة في مكان توني؟ هل أنت جاهز لهذا الفقد المريع؟ عندما تشاهده يجتر أحزانه أمام فيديوهاته مع زوجته الراحلة، تتساءل رغماً عنك هل الذكريات التي كانت تجعل قلبك يرقص فرحاً وأنت تعيشها بإمكانها أن تكون خنجراً مغروساً حتى المقبض في نفس القلب؟ عندما ترى توني يدفن وجهه في كفيه وينشج بصوت عالٍ تجد نفسك تتساءل رغماً عنك، هل الحياة عادلة؟ هل كل هذا الألم ضروري؟
تدهشك حقيقة ما يحدث على الشاشة بعد الحياة، بعد السعادة والصخب، رغم أن كل هذا انتهى بغتة وبأسوأ طريقة ممكنة، ورغم أنه خلف وراءه دماراً حقيقياً إلا أن الحياة لا زالت تجد طريقها رغم كل شيء، لا زال توني رغم حزنه الكبير وألمه المستمر يساعد أصدقاءه، لا زال يجلس بجانب المرأة العجوز على كرسي الحديقة أمام قبر زوجها ويشكو لها نفسه والحياة، ولا زال يريد علاقة عاطفية مع تلك المرأة اللطيفة صغيرة الحجم كبيرة القلب.
ما تراه في المسلسل يناسب هذا الوقت الصعب الذي يمر به العالم، حيث يحيطنا المرض والموت وتهديدات الفقر والبطالة جراء الوباء العالمي، ورغم ذلك لا زالت الحياة ممكنة، لا زال البشر رغم الخوف يتزوجون وينجبون ويشاهدون المسلسلات ويتفننون في صنع الطعام ومواجهة الخوف بكل الوسائل الممكنة، ورغم كل ما يحيط بالعالم من رعب، وجنباً إلى جنب مع أخبار الوفيات المتجددة والبحث عن أسرَّة العناية المركزة في ظل انهيار الأنظمة الصحية حول العالم والتي تحتل أخبارها حوائط التواصل الاجتماعي، ترى كثيرين يشاركون لقطات لطيفة لأطفالهم، وصوراً لأطباق شهية، واقتراحات لأفلام جميلة للمساعدة في تهوين الأمور، وتدرك فجأة كما يدرك توني في آخر مشاهد الموسم الثاني أن الحياة تستطيع أن تجد شقاً لتنبت عبره، وربما ببعض الصبر والمجهود تزهر مجدداً.