بعد محاولة الانقلاب: تركيا نحو الديمقراطية أم السلطوية؟
في هذا المقال نحاول أن نوفر قراءة نستطيع من خلالها أن نفهم ونلفت النظر إلى بعض التغيرات والسياسات الجذرية المؤثرة التي جرت على الساحة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التركية، والتي بسببها تشهد تركيا الآن حالة من التوتر غير مسبوقة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وهنا نناقش بعض التغييرات التي طرأت على الساحة منذ محاولة الانقلاب وإلى الآن، وهذه القراءة تلتزم بدراسة جوانب هامة من حقبة ما بعد محاولة الانقلاب بشكل نقدي، مع عدم إنكار ما حققه العدالة والتنمية من تقدمات داخليًا وخارجيًا منذ ظهور الحزب على الساحة السياسية في بداية الألفية الجديدة.
أولاً: التحول الأم «تغيير شكل النظام»
أهم هذه التغييرات كان التحول في شكل النظام السياسي من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. هذا التحول الذى كان مُبررًا في بداية الأمر بهدف «احتواء الحالة الحرجة وتحقيق الاستقرار»، ولكنه في الحقيقة ومع مرور الوقت تبيّن أن هذا التحول كان بمثابة حجر الأساس وهدف في حد ذاته، بل وكان العامل الأهم في كل التحولات التي جرت في الفترة السابقة؛ من تآكل للحياة الديموقراطية وغضب شعبي وإشعال نيران الثنائيات واستقطاب للمجتمع (سياسي بدرجة أكبر)، بالإضافة إلى القدرة على التحكم في كل كبيرة وصغيرة في مؤسسات الدولة بما فيها السلطة القضائية، وإحداث خلل في نموذج «الفصل بين السلطات الثلاث»، وتقييد حرية التعبير، وغيرها من النتائج التي لعب بطولتها «التحول من نظام برلماني إلى نظام رئاسي».
الأهم في الأمر، أن هذا التحول قد أتاح الفرصة للتحول السيكولوجي للشعب، فنغمة وسردية الحاكم السلطوي الذي ضم كل المهام والصلاحيات واختزلها في شخصه، وأن السيادة لم تعد بيد الشعب بل بيد الفرد وما يدور في فلكه، وشكل الحكم الذي يعتمد على شخص واحد، أي حكم الفرد، هذه سرديات هامة جدًا أثارها النمط الجديد للحكم، السرديات التي كانت تُكرِّرها الجهات المعارضة من قبل على استحياء أصبحت الآن هي «السردية المهيمنة» التي يتغنى بها المؤيد والمعارض، بالإضافة إلى أنها قد تستمر إلى أقرب فرصة انتخابية. بالإضافة إلى أن هذا التغيير وما نتج عنه قد تجلى في باقي المتغيرات التي سيتم ذكرها لاحقًا.
ثانيًا: تحول خطابي وخطاب اضطراري
حدث تحول من الخطاب المحافظ إلى الخطاب القومي الذي من الممكن وصفه بـ «الخطاب الإجباري». فبعد تحالف العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية وتشكيل تحالف الأمة، صار لابد من تفعيل عناصر خطابية جديدة، تعد مستحدثة بعض الشيء على الحزب الحاكم، بالإضافة إلى أن هذا الخطاب مع هذا التحالف كان استثنائيًا وفريدًا من نوعه بعد أن شهدت الساحة التركية ولأول مرة تحالف «إسلامي محافظ-قومي»، تلك «الخلطة الحزبية» كان تفعيلها هو أحد نتاجات محاولة الانقلاب الفاشلة كنوع من التنوع وعدم الانغلاق الأيديولوجي، لكسب شعبية أكبر وقاعدة تصويتية أكثر فاعلية، كما أنها شهدت تحولاً جادًا في شكل الصراع، من الصراعات الحزبية الفردية إلى الصراعات التحالفية.
ثالثًا: القضاء
طبقًا لمراقبين وخبراء أتراك فإن المؤسسة القضائية شكّلت أهم الهيئات التي شهدت تحولاً جادًا منذ محاولة الانقلاب، فقد تلا محاولة الانقلاب تغير واضح في دور القضاء واقترابه من القيادة الحاكمة، بل وتحكم القيادة متمثلة في شخص الرئيس التركي أردوغان في العديد من المهام القضائية.
هذا التحول الراديكالي في آلية اتخاذ القرار القضائي كان بسبب خوف النظام من تمركز عناصر غير موالية له، قد تفرز معارضة جديدة تُقدِم على محاولات أخرى لاختراق مؤسسات الدولة.
بعد محاولة الانقلاب الفاشلة تم عزل ما يقرب من 4500 قاضٍ ونائب عام من مناصبهم، بعد اتهامهم بالتعاون مع جماعة كولن. وطبقًا للإحصائيات فإن الفترات بين عامي 2016 و2018 شهدت تعيين أكثر من 4 آلاف قاضٍ ونائب عام، فيما وصل العدد في عام 2019 إلى قرابة 9 آلاف قاضٍ ونائب عام.
وبحكم التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وغياب السلطة الرقابية، فإنه ومن المرجح أيضًا أن حزب العدالة والتنمية ورئيس الجمهورية أردوغان قد لعبا دورًا فعالاً في عمليات التعيين، بعد إحالة العديد من مهام التعيينات إلى رئيس الجمهورية شخصيًا، مما فسره الكثير من الكُتَّاب والمحللين الأتراك على أنه عهد جديد من «التحزب والتسييس القضائي»، مما جعل مصداقية الحزب الحاكم ورئيسه محل شك في مواطن عدة.
وبناءً على المعطيات السابقة، فإن العديد من المؤيدين والمعارضين قد اتهم أردوغان بالزج بالسلطة القضائية في طريق مظلم، بسبب نزع الاستقلالية من عمل القضاء، بعد تحكم الرئيس شخصيًا في التعيينات والإقالات. أيضًا عدم التعامل بشكل «حيادي» تجاه العديد من القضايا التي تخص معارضي النظام، فضلاً عن أن هذا الأمر قد سهّل عملية الترقيات والمكافآت المادية التي جرت على مدى السنوات الأخيرة دون أي رقابة، هذا بالإضافة إلى إضفاء الطابع السياسي الأمني على الأمور القضائية، وأمننة كل معارض باعتبار أي معارض يمثل خطرًا على الأمن القومي، وهو ما تجلى في قضايا تخص الصحفيين المعارضين للنظام، ناهيك عن العديد من أعضاء أحزاب المعارضة الذين تم اتهامهم بإحداث فوضى داخل مؤسسات الدولة واتهامات بإهانة الرئيس ومقدسات الدولة وتعاونهم المسبق مع منظمة كولن، غير العديد من أعضاء البرلمان ورؤساء البلديات الذين قد تم فصلهم من مهامهم لاتهامهم بالموالاة لـ منظمة الـ PKK.
وتم اعتبار هذه القرارات سياسية من الدرجة الأولى، غير أن المحاكم ظلت ترفض إجراءات الطعون تارة، وتحكم لصالح الحزب بعد اتهامه في قضايا فساد وإهدار مال عام تارة أخرى. ومؤخرًا، فقد نالت الجامعات نصيبها من هذه الخلخلة القضائية، مثل ما نرى اليوم الحكم الصادر ضد جامعة إسطنبول شهير، بعدم إمكانية الجامعة في التصرف في المعاملات البنكية الخاصة، بعد التحفظ عليها تمامًا ومن ثَمَّ إغلاق الجامعة بشكل كلي بمرسوم رئاسي، وذلك بعد تعديل قانون الجامعات بحجة عدم القدرة على تسيير أمور الجامعة قانونيًا وماليًا وإداريًا. على الجانب الآخر، يُرى أن هذا القرار قد أخذ طابعًا سياسيًا بسبب الخلافات بين الرئيس التركي وأحمد داوود أوغلو، بعد إنشاء الأخير حزب المستقبل. إذن فهذه المؤشرات عن آلية عمل القضاء قد سبّبت صدمة لرجال السياسة والقانون من المؤيدين والمعارضين.
رابعًا: البيروقراطية «الولاء أم الكفاءة»
نال هيكل البيروقراطية التركية نصيبه من التغيير الجذري، في شكل تعيينات داخل المؤسسات الحكومية التي كان لها دور فعال في التمهيد لـ محاولة الانقلاب، ومن ثَمَّ تعزيز مصطلح «التعيينات على حسب القرابة والولاء» لا الكفاءة والاستحقاق.
ففي أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة، زاد معدل الإقالات داخل الهيكل البيروقراطي الحكومي وبين موظفي الخدمة المدنية. وطبقًا لآخر التقارير، تم إقالة أكثر من 18 ألف موظف حكومي وتعيين أكثر من 125 ألف آخرين، موالين لحزب العدالة والتنمية.
وهو ما جعل المعارضة تقول بأن الدولة التركية قد أصبحت تمتلك «نظام دولة الحزب»، بعد أن وصل الحزب إلى حالة من «التحزب الحكومي» داخل البيروقراطية ومن خلال تعيينات الخدمة المدنية بشكل لم يكن له مثيل في السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية.
خامسًا: الصحافة والإعلام
حدثت تغييرات واسعة في ملكيات المؤسسات الإعلامية والصحافية، بجانب تعليق عمل بعض الصحف والمنصات الإعلامية، وغلق بعضها، مما فتح الباب على مصراعيه لإحداث تغير في الخطاب الإعلامي لصالح الحزب الحاكم، وانعدام الشفافية في الخطاب الإعلامي، مما أثر سلبًا على «الأسس الديموقراطية».
بعد 15 يوليو/تموز 2016، نالت الصحافة المرئية والمسموعة نصيبها من التغييرات الجذرية التي قد شهدتها تركيا إلى يومنا هذا. فطبقًا للإحصائيات، فإن أكثر من 200 مؤسسة إعلامية قد تم غلقها بقرار حكومي بعد اتهامها بالتعاون مع جماعة كولن، فيما تم غلق بعضها بعلة معارضة الحكومة واتخاذ الرئيس أردوغان كموضع للسخرية.
هذا بالإضافة إلى العديد من التعيينات الجديدة في مناصب إعلامية هامة، فضلاً عن الخطاب الملحوظ الذي تنعدم فيه أقل قيم الحيادية، ناهيك عن الخطاب الإعلامي المتستر على العديد من الزلات الحكومية الواضحة، غير النفقات الهائلة والدعم المالي الهائل للمنصات الإعلامية القريبة من النظام الحاكم مثل قناة TRT، التي قد لقت دعمًا يُقدَّر بالملايين، مما استفز الشعب عامةً ونخبةً. ومؤخرًا يبحث الرئيس التركي قانونًا يستطيع من خلاله تحجيم عمل مواقع التواصل الاجتماعي والسيطرة عليها.
سادسًا: فلسفة السباق الانتخابي
حدث تحول جذري في آلية وفلسفة السباق الانتخابي بالتحول من نظام تخوضه الأحزاب منفردة إلى «سياسة التحالفات». هذه التحالفات أثارت انشقاقات عدة داخل الحزب الحاكم وشكوكًا حول نية وخطاب الحزب المستقبلي.
هذه الانشقاقات كانت أحد العوامل الهامة في ظهور التحالف الجديد مع حزب الحركة القومية، الذي عمل على زيادة الاستقطاب السياسي والفكري داخل المجتمع. هذا الاستقطاب والتحول الحاد في خريطة الأصدقاء والأعداء داخل الساحة التركية سبّب صدمة للعديد من الأصوات الهامة داخل الحزب، مما مهّد لتشكل أحزاب جديدة خرجت من عباءة العدالة والتنمية، مثل: حزب المستقبل، وحزب الديموقراطية والتقدم.
في الماضي تسبّب النزاع الداخلي في حزب الفضيلة في تشكيل حزبي العدالة والتنمية من ناحية، وحزب السعادة من ناحية أخرى. وعلى نفس النمط، وبعد كل هذه التحولات السابقة التي أدت إلى إشعال حالة من الغضب داخل الحزب تجاه كوادر فعّالة ومؤثرة أو عناصر شبابية كانت تدين بالولاء للحزب، فإنه من المحتمل أن نرى السيناريو يتكرر مرة أخرى، ولكن الأيام القادمة ستثبت لنا ما إن كان الفصيل المعارض قادرًا على استكمال المسيرة أو أن الانشقاقات قد تُسجِّل نهاية رحلة «الإسلام السياسي»، أو أن التحالفات القائمة قد تكون قادرة على إحداث الاتزان المطلوب، عن طريق الحفاظ على القواعد التصويتية القديمة بغض النظر عن الأحزاب الصاعدة مؤخرًا على الساحة.
سابعًا: الجيش والسياسة
من أبرز ما طرأ من تحولات هيكلية مؤسسية، كان عزل العديد من القيادات القديمة في الجيش صاحبة النفوذ داخل الحياة السياسية. فبعد محاولة الانقلاب الفاشلة تم عزل عشرات الآلاف من عناصر الجيش، الأهم من هذا أن أكثر من 40% ممن تم إقالتهم كانوا جنرالات وقيادات عليا في الجيش.
بعد التحول إلى النظام الرئاسي، تم دمج هيئة الأركان العامة التركية (التي كانت تعمل بشكل مستقل من قبل) إلى وزارة الدفاع التركية، فضلاً عن ضم الجيش والحكومة ومهامهما في جسد واحد. هذا الإجراء كان من أهم الإجراءات التي ساعدت على تقليص دور الجيش المستقل، وإدماج العديد من مهامه في يد هيئة واحدة هي جزء من مجلس الوزراء، وهي في النهاية تأتمر وتنتهي، وتُقبل أو تُرفض قراراتها وتحركاتها العسكرية، من قِبل رئاسة الجمهورية، مما أحدث تغيرًا واضحًا في طبيعة العلاقات المدنية العسكرية ودور وتمركز مؤسسة الجيش داخل الخريطة السياسية.
ثامنًا: ملف المهاجرين السوريين
من الواضح أن الضغط العددي للمهاجرين السوريين الذين وصل عددهم ما يقارب 4 ملايين قد أغضب الشعب التركي، سواءً المعارضين أو حتى المؤيدين للقيادة الحالية، كماليين وإسلاميين. فقد أصبحت قضية رأي عام وجدال مفتوح.
وقضية المهاجرين السوريين أصبحت هي ما يجمع الجميع تحت راية واحدة، وهو ملف تلعب عليه جميع التوجهات بالنظر إلى أنه ملف يؤثر في كل العناصر داخل تركيا، وليس الحزب الحاكم وحده من يتأثر.
بعبارة أخرى، ملف المهاجرين السوريين هو بمثابة ملف يمثل «خطرًا على الأمة»، وفق وصف بعض السياسيين والكُتَّاب الأتراك. فيما اعتبرهم البعض فرصة لإسقاط حزب العدالة والتنمية، خاصةً بعد خسارة الحزب أهم الولايات في انتخابات المحليات.
ومن ثَمَّ أدركت القيادة أنه لا بد من تغيير وإعادة ترتيب الأولويات بما يخص الملف، لذلك كان من المتوقع أن نرى بداية اتخاذ إستراتيجية مستجدة في ملف «اللاجئين والمغتربين» بعد عدة ضغوطات من المعارضين والمؤيدين.
فسلوك الدولة تجاه الملف بدأ ناعمًا، ثم تطور إلى مرحلة تطبيق القانون بشكل أدق، بعد العديد من التسهيلات، ثم في مرحلة لاحقة صار يتم تطبيقه بشكل تعسفي، وصفه البعض بـ غير الإنساني، خاصة في مرحلة ما بعد انتخابات الإعادة على عمدة إسطنبول.
فقد تم ترحيل أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إلى داخل سوريا، أو إلى ولايات على الحدود التركية السورية، مع العلم أن الترحيلات لم تشمل المخالفين فحسب، بل شملت طلابًا وأرباب أعمال وأسرًا، كان من المتوقع أن يتم التعامل معهم بشكل مغاير لما حدث. مما أوحى إلى البعض بتخلي الحزب عن قيمة «المهاجرين والأنصار» وكذلك سياسة الباب المفتوح، وبداية التعامل مع القضية من منطلق سياسي، غلب عليه الخطاب الشعوبي.
ختامًا
ليس هناك نظام يخلو من المميزات أو العيوب، فالنظام الرئاسي قد يعمل على الاستقرار الداخلي، ولكن هذا لا يدوم طويلاً إذا غابت «القيود»، فالثقافة السياسية غير المتماشية مع بنية النظام السياسي في تركيا سواء في الحقبة العلمانية أو في حقبة العدالة والتنمية، تجعل البعض يرى النظام الرئاسي (ذا الصلاحيات الواسعة) أمرًا غير مقبول، وبحاجة إلى إعادة النظر فيه.
لذلك فإن هذه القيود، أي عدم التماشي والتوازن بين الثقافة السياسية وشكل النظام والمؤسسات، بالإضافة إلى عدم التوازن بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية قد تجعل من النظام الرئاسي نظامًا يجعل السياسة أقل أخلاقية، لذلك فإنه لا بد من إحداث توازن، عن طريق تفعيل دور السلطة التشريعية في النظام الحالي، أو العودة إلى النظام البرلماني.
فيما يرى آخرون أن فترة ما بعد الانقلاب كانت بمثابة إظهار تماسك قيادي وطني، عمل على توحيد المهام والمسئوليات من أجل تفادي صدمات أخرى مشابهة، أو أي عمليات إعاقة أمام المؤسسات التقليدية وأفرادها.
في نهاية الأمر، كل التغييرات المذكورة سابقًا، تعد هامة في جوهرها وفي جذورها، وعلى الجميع مراقبتها والترصد لمستقبلها ومآلاتها، كونها مفاتيح «مُختلقة» لملفات تؤثر على المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة التركية في الأجلين القريب والبعيد.