هناك لا تستطيع أن تحسّ بالشمس تلامس بشرتك، تشتاق إلى الطقس، إلى نسمة الهواء التي تداعب وجهك، إلى الأشخاص..

سكوت كيلي

340 يومًا، ما يقارب 11 ألف شروق وغروب للشمس، 144 ميلًا، تلك هي الأرقام التي قضاها رائد الفضاء الأمريكي سكوت كيلي مسافرًا في رحلته حول الأرض في محطة الفضاء الدولية، ليحقق رقمًا قياسيًا له في ناسا.

للوصول إلى المريخ، لا بدّ لنا من تجهيز العدّة اللازمة للسفر، ولكن أهم شيءٍ وأكثر الأشياء هشاشةً هي جسدنا البشريّ نفسه، لا بدّ لنا من معرفة حدوده وتأثير قضاء الوقت في الفضاء عليه، لذلك كانت مهمة تستمر سنةً كاملةً في الفضاء، للرائد سكوت كيلي.

هذه هي الرحلة الرابعة لكيلي في الفضاء، بعد قضائه ما يُقارب 180 يومًا في رحلاته السابقة مجتمعةً، ينهي الآن 340 يومًا إضافيًا بعودته يوم الأول من آذار/مارس إلى كوكبنا، ليحقق مدةً تزيد عن 520 يومًا، ويكون بذلك حاملًا لرقم أطول مدةٍ قضاها رائد فضاءٍ أمريكي في الفضاء.


كيف بدأت قصة «المهمة: سنة واحدة» إذن؟

المهمة: سنة واحدة

في نوفمبر 2012، قامت ناسا ووكالة الفضاء الروسية (روس كوسموس) باختيار رائدي فضاءٍ من رواد الفضاء المتمرسين للقيام بمهمة لمدة سنة كاملة على متن محطة الفضاء الدولية في عام 2015. تتضمن المهمة جمع معطيات علمية لدراسة الجسم البشري وقدرته على تحمل المهام المتطلبة لاستكشاف نظامنا الشمسي، وقع الاختيار على كلّ من سكوت كيلي وميخائيل كورنينكو.

بعد الاختيار، تمّ تحديد المهام العلميّة للرحلة، والتي تتضمن دراساتٍ متعددة، منها:

الدراسات الصحيّة

يوجد في محطة الفضاء الدولية معدات تمرين حديثة، تتضمن آلة مشي خاصة ومعدات لتمرين العضلات لمنعها من الضمور بسبب ضعف تأثير الجاذبية هناك. كما يؤدي انعدام الوزن إلى تجمع السوائل في القسم العلوي من الجسم، مما يؤدي لوذمة في الوجه وآثار أخرى قد يكون منها مشاكل بصرية نظرًا لارتفاع الضغط داخل الجمجمة مما يغير شكل كرة العين نفسها.

بعد مدة سنةٍ في الفضاء، يعاني المسافر من ضمور في العضلات والعظام بسبب انعدام الجاذبية، ولتقليل هذا الأثر يقوم رواد الفضاء باتباع نظام تدريبٍ معيّن ويستمرون في ذلك حتى بعد العودة إلى الأرض. يقوم مركز جونسون للفضاء التابع لناسا بتقييم ردة فعل الجسم البشري على العيش في بيئة منخفضة الجاذبية لمدة طويلة. تساعدنا هذه المعلومات في التخطيط والتقدير لمهماتنا القادمة في الفضاء السحيق.

الدراسات النفسية

تتطلب الدراسة من رواد الفضاء الاحتفاظ بدفتر مذكرات يقومون بتسجيل ملاحظاتهم ومذكراتهم بشكلٍ يوميٍّ، وذلك لمعرفة تأثير الحياة في الفضاء على النفس البشرية لمدةٍ طويلة، ويقول كثير من رواد الفضاء أنّهم يشتاقون بشكلٍ خاصٍ إلى الأرض، الروائح مما قد يدفعهم للهلوسة بها أحيانًا.

حسب ناسا، فإنّ هذه المهمة ستقوم بإفادة البشرية جمعاء بشكلٍ عظيم، وذلك ليس لطول مدتها فحسب، بل لعوامل أخرى أيضًا.


ليست مجرّد سنة، بل أكثر

كلّ هذه الدراسات ستساعد ناسا في الوصول إلى نتائج قيّمة ومفيدة في رحلاتها القادمة، لكن الأمر ليس بتلك البساطة فعلًا. ربما قضى سكوت كيلي وميخائيل كورنينكو سنةً كاملةً في الفضاء، لكنّ الدراسات والأبحاث عن هذه المهمة ستستمر أكثر من ذلك بكثير، فقد خضع كلاهما لكثير من الفحوصات والاختبارات، كما تمّ جمع عدّة عيّنات من الدم، البول، اللعاب وأكثر من ذلك لمساعدة العلماء وتوفير معطياتٍ أكثر للدراسة. يستمر أخذ هذه العينات خلال وجود الرواد في الفضاء، وستستمر لمدة سنةٍ كاملةٍ أو أكثر بعد عودتهما إلى الأرض.

بينما يقوم العلماء بتحليل المعطيات التي يقدمها كيلي وكورنينكو بمجرد وصولهما إلى الأرض، فإنّ النتائج ستحتاج إلى وقتٍ أطول بكثير، بين ستة أشهر وست سنوات لتظهر هذه المعلومات وتنشر كأبحاث؛ وذلك لأنّ الأبحاث العلميّة تستغرق وقتًا طويلًا، فمعالجة المعلومات التي نتجت عن استقصاءات مستمرةٍ لسنة كاملةٍ ليس بالشيء السهل.


كلّ ما سنتعلمه سيفيدنا في رحلتنا القادمة إلى المريخ

حتى الآن، لدينا معلوماتٌ موثقة عن كيفية تعامل أجسامنا للعيش في بيئة منخفضة الجاذبية لمدة ستة أشهر، لكن لا شيء عن أكثر من هذه المدة حتى الآن.

ستتطلب الرحلة إلى المريخ ثلاث سنوات؛ نصفها في الطريق ذهابًا وإيابًا، ونصفها الآخر على سطح المريخ. لذلك لا بدّ لنا أن نفهم كيف تتعامل الأعضاء البشرية مع العيش في محطة فضائية لمدة أطول من ستة أشهر، ونرى تأثير ذلك على الرؤية والبنية العظمية وغيرها.

هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام تقنيات حديثة كالدراسات الجينية على رواد فضاء قضوا فترةً زمنية طويلةً في المحطة، ويعد سكوت كيلي الأمريكي الأول الذي قضى سنةً كاملةً خارج الأرض بشكلٍ متواصل، كما حصل على لقب الأمريكي الذي قضى أكبر وقتٍ في الفضاء. لكن هذه ليست المرة الأولى التي يقضي فيها البشر سنةً كاملةً في الفضاء؛ أربعة فقط قاموا بذلك من قبل، على محطة الفضاء الروسية مير، وشارك هؤلاء الأربعة بشكلٍ كبير في أبحاثٍ علمية أدّت لنتائج بشرت أنّ البشر يستطيعون البقاء والعمل في الفضاء لمدة سنة وأكثر.

صرّح كيلي في إحدى المقابلات التي تكلّم فيها، عن قدرته للاستمرار 100 يومٍ أو حتى سنة كاملةً أخرى في الفضاء ليكسر الرقم الأطول للإقامة في الفضاء، والذي يحتفظ به رائد الفضاء الروسي فاليري بوليكوف بمدة تصل إلى 437 يومًا متتاليًا، كما أنّه- كيلي- كان أكثر شوقًا ورغبةً في العودة للأرض في مهمته السابقة التي قضى فيها ما يقارب الخمسة أشهر في الفضاء، وربما يعود ذلك إلى قضائه مدةً أطول في الفضاء هذه المرة وبالتالي اعتياده على نمط الحياة الجديد في الفضاء.


حتى في الفضاء، الزهور تتفتح

في السادس عشر من يناير، قام سكوت برفع صور لزهرة الزينيا الموجودة في قسم الخضار والنباتات في المحطة. بدأت هذه التجربة في 16 نوفمبر 2015 عندما قام كيل ليندغرين، رائد الفضاء التابع لناسا، بتفعيل قسم الخضار في المحطة الذي يحوي بذار زهرة الزينيا، وشكل هذا البحث فرصةً للعلماء لدراسة كيف تنمو النباتات في جاذبية شبه منعدمة، ولكن عندما وجد كيلي النباتات في حالةٍ سيئة طلب الإذن بالتصرف بها كما لو أنها في حديقة الباحة الخلفية الخاصة به، ليقرر أوقات ريّها بالماء. وفعلًا نجح سكوت في المحافظة على الزينيا ووثق إنجازه بصورةٍ رفعها على حسابه الخاص على تويتر.


علينا أيضًا ألّا ننسى الخس!

إرسال الإمدادات الغذائية عبر الفضاء مكلفٌ للغاية، لذلك يجب علينا أن نتعلم كيفية زرع غذائنا والحصول عليه على متن مراكبنا الفضائية، لقضاء وقتٍ أطول هناك. أخيرًا قام كيلي وأصدقاؤه بذلك، أكلوا خسًا تمّت زراعته والحصول عليه في الفضاء.

وكما يقول كيلي «قضمة صغيرة للإنسان، خطوة كبيرةٌ في مشروع ناسا للخضروات».


المشي في الفضاء الطلق

قام كيلي بالمشي في الفضاء ثلاث مراتٍ خلال هذه الرحلة، وذلك في أكتوبر، نوفمبر وديسمبر. كان هدف الخروج الأول هو من أجل الصيانة طويلة الأمد للمحطة الفضائية الدولية، وكانت المرة الثالثة الأكثر أهمية، حيث خرج كيلي وزميله تيم كوبرا لصيانة الناقل المتحرك للمحطة، وهو عبارة عن حجرة تسهل تنقل رواد الفضاء وانتقالهم وعملهم.


التوأم الفضائي

تخيل أنّ هناك اثنين من الأخوة؛ توأم، أحدهما قرر أن يصبح رائد فضاء، والآخر، قرر أن يصبح رائد فضاء أيضًا، لكن أحدهما بقي على الأرض بينما سافر الآخر إلى محطة فضائية لمدة سنة كاملة، والتقى أخاه بعد عودته. هل ما زال التوأم المتطابق متطابقًا؟.

هذه إحدى التجارب التي ستجريها ناسا خلال هذه المهمة أيضًا، حيث سيخضع كلّ من الأخوين مارك وسكوت لاستقصاءات متعددة خلال هذه السنة الكاملة، لجمع معطيات عن توأم حقيقي في هذه الحالة الغريبة، والتي تحصل لأول مرةٍ في تاريخ البشريّة.

سكوت ومارك كيلي

مارك كيلي، هو الأخ التوأم لسكوت، وهو الأكبر فعليًا بمدة ست دقائق وربما يزداد هذا الفارق بينهما بعد عودة سكوت. من الجدير بالذكر أنّ مارك رائد فضاء سابق أيضًا، يبدو أن التوأم متشابهٌ في كثير من الأشياء، وليس الشكل الظاهري فحسب.

جمال هذه التجربة يعود لفكرة أينشتاين «تناقض التوأم»، وهي تجربة فكريّة مفادها أن يقوم أحد التوأم إلى الفضاء، بينما يبقى الآخر على الأرض. وبحسب نظرية النسبية، فإنّ الأخ العائد من الفضاء سيعود أصغر من أخيه الذي بقي على الأرض.

لن تدرس ناسا تدفق الزمن، ذلك يتطلب وصول محطة الفضاء الدولية إلى سرعة الضوء للحصول على تأثيرات النسبية، لكن ناسا ستقوم بإجراء عشرة أبحاث لدراسة الجينات، الكيمياء الحيوية، الرؤية، الإدراك وغيرها عند التوأم وتأثير الفضاء عليها.

سيتم حقن كلّ من مارك وسكوت بتطعيم ضد البرد الشائع، وستتم بعد ذلك دراسة تأثير هذا الطعم على الجهاز المناعي لكلّ منهما وكيفية تفاعل الجهاز المناعي في الفضاء واختلافه عن مثيله في الأرض.

وستنظر تجربةٌ أخرى إلى «التيلوميراز»، الحافظات التي تغطي أطراف الدنا البشري، والتي تمّ ربطها (ربط خسارتها وتناقصها) بالشيخوخة والهرم. في الفضاء ستتسرع خسارة التيلوميراز بسبب الأشعة الكونيّة، أو هكذا نعتقد. وبمقارنة التيلوميراز الخاص بالتوأم سيقرر الباحثون عندها إن كانت الأشعة الفضائية تقوم بالتأثير على خلايا المسافرين عبر الفضاء بتلك الطريقة.

تتضمن بعض التجارب الأخرى دراسة الميكروبيوم الموجود في الأمعاء، واختلافه بعد السفر في الفضاء، وتناول الطعام المخصص لرواد الفضاء، وأثر ذلك كلّه على المجتمع الغنيّ الموجود داخلنا. كما تتضمن دراسة أخرى البحث في «الرؤية» وتغيرها بسبب الفضاء، حيث أكد أكثر من رائد فضاء أنّ نظارته لا تعمل عندما يسافر إلى الفضاء.

ستجمع هذه الدراسات، بالإضافة إلى دراسة التأثيرات النفسية لقضاء وقتٍ طويل في الفضاء لتشكيل دراسة متكاملة، قويّة، نفسيّة وطبيّة حيويّة لتقديم صورة متكاملة عن رحلة رائد الفضاء ومعاناة جسم الإنسان خلال تلك الرحلة الطويلة.


التعاون الدولي هو الحلّ

مارك وسكوت كيلي
ميخائيل كورنينكو وسكوت كيلي

ستتم مشاركة المعطيات التي يتم جمعها بواسطة كيلي وكورنينكو بين الدولتين، الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحاديّة. يسرّع هذا النوع من التعاون التطوّر الطبي والبيولوجيّ ويقدّم لنا المعلومات اللازمة لاستكمال استكشاف البشريّة للكون، مخفضًا بذلك التكاليف ومسرعًا الآلية.

ويقول ميخائيل: “كل ّ المشاكل بين دولتينا ستحلّ تلقائيًا لو جلس رئيسا دولتينا في المحطة الفضائية الدولية معًا لمدة أسبوع”.

أخبار رائعة لمحبي الفضاء، وللبشر بشكلٍ عام. بهذه الخطوة أصبحنا قريبين أكثر نحو الحلم بالذهاب نحو الكوكب الأحمر، وربما الوصول إلى مناطق أبعد في نظامنا الشمسي. رحلة سكوت أظهرت أنّ مع الإرادة البشرية والعلم، كلّ شيء قابلٍ للتحقق، نوعًا ما!.

المراجع
  1. ISS year long mission
  2. Astronaut Scott Kelly: 'I Could Go Another Year' Aboard Space Station – See more at: http://www.space.com/32056-scott-kelly-one-year-mission-space-station.html#sthash.K2AUGEh4.dpuf
  3. First Flower Grown in Space Station's Veggie Facility
  4. A Year in Space: 7 Mission Milestones for NASA Astronaut Scott Kelly – See more at: http://www.space.com/32071-year-in-space-scott-kelly-7-milestones.html#sthash.ULLVKnVA.dpuf
  5. NASA to Conduct Unprecedented Twin Experiment
  6. Ten Things to Know About Scott Kelly’s #YearInSpace