الأفارقة في «إسرائيل»: مجتمع من العزلة والاضطهاد
بهذه الكلمات لخص شاب إثيوبي حاله وحال أقرانه الأفارقة في إسرائيل، معلنًا أن فَورة الأفارقة في إسرائيل لن تهدأ إلا بحصولهم على المساواة. يؤكد كلامه أن الأفارقة اليهود لا تلبث أن تنتهي نوبة غضب لهم حتى تُولد أخرى. في مايو/ آيار 2015 اشتعلت النيران في قلب تل أبيب، وفي يوليو/ تموز 2019 عادت لتشتعل مرة أخرى. وقبل الحادثين وُجدت حوادث محدودة رأت القوات الإسرائيلية فيها نفسها أمام بوادر ثورة غضب داخلية سوداء اللون.
أسباب الاحتجاج في كل مرة هي اعتداء جندي إسرائيلي على مُهاجر إفريقي، مع اختلاف تفاصيل ومكان الاعتداء. وفي آخر عامين قتل الجنود الإسرائيليين ثلاثة شباب إثيوبيين قتلًا باردًا كما حدث لـ «سلومون تاكا» الشاب الذي فجر قتله الاحتجاجات الأخيرة. قُتل تاكا، 19 عامًا، بحجة أنه ألقى حجرًا على الجندي الإسرائيلي هدَّد حياته.
اتخذت المظاهرات نسقًا متشابهًا إلى حدٍّ كبير، تجمعات صغيرة غاضبة تتجمع في ميدان متوسط الأهمية، ثم تنتقل إلى ميدان «رابين» في قلب تل أبيب. كذلك ينتهي المطاف بالمتظاهرين الأفارقة في كل مرة إلى رفع المطالب نفسها. تبدأ المطالب بإلغاء قانون أقرته إسرائيل في 2012 يُجيز احتجاز المهاجرين غير الشرعيين لمدة عام دون أي تصريح قضائي. كما يطالبون بمنح حق اللجوء لمن يريد، بناءً على بحث شفافٍ من الجانب الإسرائيلي في هذه الطلبات. تمتد مطالبهم إلى الرغبة في الحصول على فرصٍ متساوية مع الإسرائيليين في العمل والخدمات الصحية.
رد الفعل الإسرائيلي لا يختلف عبر السنين، مواجهة شديدة القوة لهذه الاحتجاجات. ففي مظاهرات يوليو/ تموز 2019 اعتُقِل أكثر من 80 إثيوبيًّا. الجانب الإسرائيلي يقول إنه أُصيب 47 جنديًّا من قواته. بعد أن تصل الأحداث إلى الذروة تتراجع إسرائيل خطوةً بمنح المتظاهرين شيئًا رمزيًّا، كما حدث حين ثارت حفيظة الإثيوبيين عندما شكك الحاخامات اليهود في يهوديتهم من الأصل، فسكنَّتهم بأنها سوف تسمح بتسجيل الزواج للمهاجرين الإثيوبيين دون التطرق لمسألة يهوديته من عدمها.
المنطقة الرمادية
بعد الاستجابات الرمزية أو المنح الصغيرة يقول الواقع إن إسرائيل لا تلقِ بالًا لمطالبهم، فهم ليسوا لاجئين في نظر نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بل مجرمين خرقوا القانون وتجب معاقبتهم إما داخل إسرائيل، أو بإعادتهم إلى مواطنهم ليُعَاقبوا هناك، أو بمنع تسللهم من البداية عبر إنشاء جدار فاصل طوله 120 كيلومترًا على الحدود المصرية، كما وعد أنصار اليمين المتطرف الإسرائيلي المشتاطين غضبًا من أصحاب البشرة السوداء. يستهدف الجدار وضع خط فاصل بين صحراء سيناء المصرية والصحراء الإسرائيلية.
سيناء منطقة حدودية، وأي منطقة حدودية لا بد أن تأخذ نصيبها من عمليات التهريب بأنواعها المختلفة والتسلل. ظاهرة التسلل وفق الوثائق الإسرائيلية بدأت بعددٍ من الروس والصينيين والأتراك، ثم تضاءلت نسبتهم لترتفع نسبة المتسللين الأفارقة. على وجه الخصوص السودانيون، والإثيوبيون، والإريتريون. كانوا يفرون من الموت في بلادهم ليستقبلوه على الحدود المصرية الإسرائيلية. الإحصاءات المصرية تقول إن عدد المتسللين قبل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 وصل إلى 25 متسللًا يوميًّا، أما بعدها فالتشديد الأمني ضيَّق الخناق على عملية التسلل، لكن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، يتسحاق أهارونوفيتش، يقول إن عدد المتسللين قد بلغ 700 متسللًا أسبوعيًّا، يدفع المتسلل الواحد مبالغ مالية تصل إلى 25 ألف دولار لمُهربه.
واتساقًا مع وجهة نظره دفع نتنياهو الحكومة الإسرائيلية إلى سن قانون «التسلل» في 2012، إذ أصبح من حق الجانب الإسرائيلي احتجاز المُتسلل لمدة تصل إلى 3 سنوات فور دخوله دون محاكمة أو إذن قضائي صُوري. القانون لم يُطبق بأثر رجعي، وأصبح نافذًا على المتسللين الجدد فحسب، ليضع مزيدًا من التفرقة والشقاق بين أبناء البشرة الواحدة، المتسللون الجدد لا تنتهي رحلة معاناتهم بالوصول إلى الجانب الإسرائيلي كما يحلمون، بل تبدأ رحلة أسوأ تبدأ بالاحتجاز في معتقلٍ صحراوي سيئ الذكر يُدعى «سهرونيم».
اقرأ أيضًا: نتنياهو وانعدام الأمن في إسرائيل
بعد خروجهم من المعتقل يعيش الأفارقة في منطقة رمادية قانونيًّا، فإسرائيل لا تمنحهم حق اللجوء الدولي المُتعارف عليه، ولا هي تضع إطارًا قانونيًّا داخليًّا للتعامل معهم، ويحصلون على تأشيرة «2، أ، 5»، تمنحهم تلك التاشيرة حمايةً مؤقتة من الترحيل تُجدَّد كل 3 أشهر، لكنها لا تمنحهم أي شيء إضافي، لا حق العمل ولا الرعاية الصحية.
أما الذين دخلوا إلى إسرائيل قبل سَن القانون فتقوم إسرائيل بحملات واسعة لترحيلهم، إما ترهيبًا بفرض عقوبات على الإسرائيليين الذين يسمحون لهم بالعمل، أو ترغيبًا بمنحهم إعانات رحيل تصل إلى 3000 دولار، ما يترك الأفارقة بين خيارين: البقاء والتعرض للسجن أو العودة إلى بلدٍ يمكن أن تأكله النزاعات في أي لحظة كإريتريا والسودان وإثيوبيا.
نريد إفريقيا لا الأفارقة
إسرائيل التي تضيق بالأفارقة اليوم، الإثيوبيين خاصةً، هي من تكلفت عناء النقل السريِّ لعشرات الآلاف منهم في الثمانينيات والتسعينيات لتوطينهم فيها. عملية «الاستجلاب» بدأت بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973. إذ اعتبر عوفايا يوسف، حاخام السفرديم «الطائفة الشرقية»، أن طائفة «بيتا يسرائيل» هي طائفة يهودية، عُرفت بعد ذلك باسم يهود الفلاشا، أي الغرباء المنفيون. عارضه في اعتبارهم يهودًا «شلومو جورين» حاخام اليهود الأشكناز، وظلت النظرة الرسمية لهم كيهود درجة ثانية أقل من يهود أوروبا.
وبعد 4 سنواتٍ من التمهيد هاجر المئات من الإثيوبيين إلى إسرائيل عام 1977، ثم وصل 6000 مهاجر/ مُستجلب بين عامي 1977 و1983. في عامٍ لاحق قامت عملية «موشيه»، وفيها جُلِبَ 7000 إثيوبي، وآخر عمليات الاستجلاب الموثقة كانت عام 1991 تحت اسم «عملية سليمان»، استُجلب فيها 15 ألف إثيوبي، ثم وصل العدد عام 2008 إلى107 آلاف إثيوبي.
حملات الاستجلاب تزامنت مع حرص إسرائيلي على التغلغل في إفريقيا منذ ظهور إسرائيل عام 1948. فثالث دولة اعترفت بإسرائيل عالميًّا كانت ليبيريا عام 1948، ثم تلتها جنوب إفريقيا في العام نفسه. الحميمية بين إسرائيل والدول الإفريقية مهمة للغاية لإسرائيل جتى لو اضطرت أحيانًا لشراء هذا الود بالمال، فإفريقيا تقدم لإسرائيل ما هو أعظم من المال؛ الاعتراف الدولي والمساندة في الأمم المتحدة، وكسر العزلة التي تشعر بها إسرائيل جراء العداء الشعبي العربي لها. كذلك فإن القرن الإفريقي يمثل منفذًا مهمًّا لعبور النفط العالمي والوجود الإسرائيلي في تلك المنطقة يجعلها قادرةً على التحكم في سلم وحرب المنطقة، كما تعد إفريقيا سوقًا حيوية لتبادل الألماس الدموي بالسلاح الإسرائيلي.
اقرأ أيضًا: بين المقاطعة والتطبيع: قصة العلاقات السودانية الإسرائيلية
لكن رغم هذه المصالح المشتركة فإن إسرائيل حرصت منذ اللحظات الأولى لليهود الأفارقة على فصلهم عن المجتمع الإسرائيلي لتسلبهم فرصة التكيف والتأقلم، وجرى تسكينهم في مراكز «استيعاب» مُقسمين حسب الجنس والسن ودرجة القرابة، ولتتضح مدى معاناتهم يمكننا مقارنتهم بمُستجلب روسي مثلًا. إذ يُسْتَوعب للروس على أساس فردي، ويُمنح كل فرد مبلغًا ماليًّا للبداية، ودعمًا حكوميًّا يتمثل في مجانية السكن والتعليم، وإعانة حكومية لإيجاد فرصة عمل.
العنصرية في الدم
الأفارقة تمنحهم إسرائيل أقل معدلٍ للأجور فيها، فتجني الأسرة الإثيوبية دخلًا أقل بـ 35% من الأسر الأخرى، وتوضع العراقيل في طريق الشباب الإثيوبي الراغب في إتمام دراسته الثانوية والحصول على فرصة الالتحاق بالجامعة، فلا يحصل على شهادة إتمام المرحلة الثانوية إلا 50% من الشباب الإثيوبي، مع العلم أن التعليم الثانوي الذي يتلقاه الإثيوبيون يختلف جذريًّا عما يحصل عليه الإسرائيليون. فالإثيوبيون يتلقون التعليم المهني فقط، معزولين في مدارس مستقلة. وبمجرد قبول مدرسة إسرائيلية لطالب إفريقي ينسحب المدرسون اليهود ويُخرج الآباء أبناءهم عقابًا للمدرسة. كل ذلك عزز من عزلة الأفارقة، وزاد عليهم صعوبات التأقلم وصعوبات التعليم.
كما واجهوا حملاتٍ عنصرية متفرقة، كالتي حدثت في 2006 حين رفضت بنوك الدم والمستشفيات الإسرائيلية قبول الدم الذي يتبرع به إثيوبي دون فحصه حتى بحجة مواجهة «الإيدز». بعض هذه الحملات نالت نقطةً أخطر، التشكيك في يهوديتهم من الأساس، فالحاخامات اليهود رأوا عادات الإثيوبيين أشبه بعادات العلمانيين اليهود، فطالبوا بإعادة تهويدهم، وأجبروا 7000 إثيوبي للخضوع لهذه المراسم، لكن بعد سنواتٍ من البحث تبين للجانب الإسرائيلي أن 1100 مُستجلب لم يكونوا يهودًا من الأصل، وادعوا اليهودية هروبًا من بلادهم.
حاول الإثيوبيون مواجهة هذه الحملات العنصرية بصورة مختلفة، التكتل والبحث عن التمثيل البرلماني. ونجحوا عام 1991 في إنشاء كيان «اتحاد منظمات المهاجرين الإثيوبيين». ثم نجحوا في الوصول إلى الكنيست عبر مقعدٍ وحيدٍ، لكنهم اعتبروه بدايةً لشيءٍ أكبر. الإسرائيليون من جانبهم يرون هذا المقعد شيئًا ضخمًا،وأمرًا مشينًا للحياة السياسية الإسرائيلية. وبات اسمهم في الأوساط الشعبية يهود الكوشي، أي العبيد، وأُطلق اللقب تحديدًا على أبنائهم سود البشرة في المدارس الإسرائيلية، لتبدأ بذلك معاناة يهود الفلاشا منذ سنوات حياتهم الأولى.
وجودهم خطر
في البداية ظن الإثيوبيون خاصةً، والأفارقة عامةً، أن مواكبة الحياة الإسرائيلية هي الحل لكسر عزلتهم. لكن بعد سنواتٍ مريرة أدرك الأفارقة أن هذا الإفقار المُمنهج والإقصاء المتعمد يعني أن إسرائيل باتت تخشى من مجرد وجودهم. فأعداد الأفارقة في تنامٍ مستمر حتى توشك أن يصل إلى نصف مليون فرد، بينما هم 170 ألف حاليًا. إسرائيل تخاف التغيير الديموجرافي الذي يمكن أن يحدثه الأفارقة عبر المدى الطويل، حتى إن حصلوا على الجنسية وكانوا يهودًا متطرفين. حُجة «تهديد الهوية اليهودية الديموقراطية للدولة» هي نفسها التي تُستخدم لتأجيج الكراهية ضد الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.
الحل المبدئي كان التهجير، لكن بسبب الخوف من أن تُصور إسرائيل بالدولة التي تحرق الأقليات، وهي التي تقوم باجترار التعاطف العالمي بسبب الهولوكوست، قررت إسرائيل حلًّا وسطًا. ترحيلهم إلى بلد وسيط، ليس إسرائيل وليس بلادهم المضطربة، الاختيار وقع على رواندا. وفي يناير/ كانون الثاني 2015 وقع بول كاغامي، رئيس رواندا آنذاك، اتفاقًا مع الجانب الإسرائيلي يقضي بأن تستقبل رواندا اللاجئين والمتسللين مقابل مبلغ مالي ضخم.
لذا يُعد من الصعب التفاؤل بإمكانية الوصول إلى حلٍّ حقيقي لأزمة الأفارقة أو يهود الفلاشا ما داموا داخل إسرائيل. وإذا وسَّعنا نظرتنا للوضع الراهن، فسنجد إسرائيل حكومةً وشعبًا تلفظ بلا هوادة طائفةً تنتمي إلى الدين نفسه، أتقنت اللغة نفسها، تساهم بشكل مباشر في أعمال بناء إسرائيل، يمكنها أن تصبح يهوديةً متطرفةً أكثر من المتطرفين أنفسهم مقابل الجنسية الإسرائيلية. والمُبرر هو الخوف من تأثيرهم على المدى الطويل في تغيير التركيبة السكانية لإسرائيل. فلا نحتاج كثيرًا من الفراسة لندرك مدى استخفاف الجانب الإسرائيلي بحل القضية الفلسطينية عبر إنشاء دولتين أو عبر احتواء الفلسطينيين في دولةٍ إسرائيليةٍ كبيرة. أو كما قال بعض المتفائلين العرب مؤخرًا بأن إسرائيل لا تدرك إمكانية التغيير الديموجرافي المستقبلي، لذا يمكن القبول بسيطرة إسرائيل مؤقتًا على فلسطين، ومن ثم يقوم الجيل الفلسطيني الناشئ بطعن إسرائيل من الداخل.