«طريق الحرير» الأفريقي: صراع متجدد بين المغرب والجزائر
من أشعل النار في صحراء المغرب العربي؟ ولماذا أصبحت العلاقات بين الجزائر والمغرب تنافسية، على الرغم من وجود امتداد إثني وعرقي وتاريخ مشترك؟
لم تكن حكايات المغرب العربي تنفصل عن التاريخ العربي والأفريقي الذي تشكل على واقع الاحتلال وما بعده، احتلالٌ يصنع الحدود التي لا تراعي بعدًا إثنيًا ولا جهويًا، بل تقسم على أساس سياسي وربما إداري، وفي الغالب بناءً على اعتبارات اقتصادية كما في حالتنا. ومع غياب تحديد دقيق للحدود بين الجزائر والمغرب، قامت فرنسا في 1950 بضم مناطق تندوف وبشار للإدارة الفرنسية للجزائر، وذلك بعد اكتشاف احتياطي المنجنيز والحديد فيها. كان الاتجاه الفرنسي يصب في استخلاص تلك الخامات لصالحها، دون الدخول في حسبة الاحتلال المشترك مع إسبانيا للمغرب، خصوصًا وأن المغرب كان قد أوشك على الاستقلال، بُعيد نفي الملك الذي انحاز إلى ثورة الشعب ضد الاحتلال، حيث نجا الملك بالحكم من أزمة دول ما بعد الاستقلال، التي قرنت التحرر من المحتل بالثورة ضد النظام الملكي كما في الحالة المصرية.
وصبيحة استقلال المغرب في 1956، طالب الملك بضم تلك الأراضي، استنادًا لخرائط قديمة إبان الحكم العثماني للجزائر. تقاعست فرنسا عن مطالبها بسبب رفضها إنشاء شركات اقتصادية تضمن لفرنسا الخام الموجود بتلك الأرض، ووجهتها نحو حل ذلك النزاع بالمفاوضات والدبلوماسية التي تميل للجزائر، في حين أقرت الحكومة المؤقتة للجزائر عام 1961 برئاسة فرحات عباس بوجود نزاع على هذه الأرض، لكن الدولة الجزائرية الوليدة ترى أن الأرض تُكتسب بالتضحيات والدماء، لا بتاريخ قديم ولا بدبلوماسية نشطة ولا بتنازلات سياسية، وأن الجزائر امتلكت هذه الأرض حين ضحت بدماء شعبها من أجل استردادها.
زار الملك حسن الثاني الجزائر في مارس/ آذار 1963، وطلب بن بله الرئيس الجزائري منه تأخير الحديث عن تلك المطالبات، لحين انتهاء بناء مؤسسات الدولة، إلا أن المغرب قام باستفزاز الجزائر بنشر خرائط تفيد ملكية تلك الأرض، بالإضافة للصحراء الغربية وموريتانيا وجزء من مالي. في ذلك الحين كان جمال عبد الناصر الذي دعم ثورة الجزائر واستقلالها عن فرنسا، يحرض ضد المغرب باعتبار أن قضية التحرر من الاحتلال تقتضي إنهاء النظم الملكية في الشرق الأوسط. كانت سياسته الخارجية تقتضي تصدير الحالة المصرية للعالم العربي وربما للعالم الثالث أجمع، التحرر من «الاستعمار» والنظم الملكية، في حين أن شرعية الدولة المغاربية بنيت على ثورة الملك والشعب، مما جعل الملك الحسن الثاني يتجه نحو إقرار دستورية الدولة، فالتضحية الشعبية تقتضي تشارك السلطة.
كان الصراع المغربي مع الجزائر نابعًا بشكل أساسي من رغبة النظام الحفاظ على ذاته، في حين كانت الجزائر تتبنى مفاهيم الثورة التي ألهمت العالم وقتها. اتهمت الجزائر المغرب بدعم ثورة القبائل بقيادة حسين آيت ضد جبهة التحرير الوطنية، انتهى الأمر في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 1963 بمهاجمة الجزائر للقوات المغربية قُرب حاسي بيضة وتنجوب وتينفوشي، أعلنت المغرب الحرب ضد الجزائر لتشتعل حرب الرمال بين الدولتين.
كانت القوات المغربية أكثر جاهزية من الجيش الوطني الشعبي الذي لم يمتلك الإمكانات لحسم الحرب، ووصلت القوات المغربية إلى مناطق تنجوب وحاسي بيضه وحاصرت القوات الجزائرية، ما اضطر مصر لإرسال ألف جندي وقوات لتدعيم الموقف العسكري الجزائري، تبعتها كوبا بإرسال ما يقرب من 700 مقاتل وطائرات عسكرية ومدفعية ومدرعات، كذلك دعمت سوريا تحركات الجزائر ضد المغرب، ووقف الإعلام المصري بجانب الجزائر وأحقيته في تلك الأرض، في حين دعمت فرنسا والولايات المتحدة المغرب لكنها لم تترجم ذلك بدعم عسكري مباشر. طردت المغرب العديد من العمالة المصرية، وسحبت سفراءها من مصر وتونس وطردت السفير الكوبي، انتهت الحرب بوساطة منظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية، خصوصًا مع موقف الجزائر المأزوم عسكريًا، إلا أن الموقف الدبلوماسي كان في صالحها، مما اضطر الأطراف الداعمة للضغط نحو قبول التهدئة في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963.
سميت بحرب الرمال، وتعتبر هذه الحرب تأسيسية لقراءة العلاقات الثنائية بين الدولتين، بالإضافة إلى أنها تفسر خيارات كل منهما في منطقة المغرب العربي، وانحيازاتهم تجاه القضايا التي تشغلهم مثل قضية الصحراء الغربية، وحروب موريتانيا والسنغال في الثمانينيات، وصولًا للصراع على المشاريع الاقتصادية العملاقة، كقصة طريق الحرير الأفريقي الذي تتصارع عليه الدولتان، والذي يقوم على ربط غرب أفريقيا بأوروبا، عبر طريق تجاري يضمن وصول المنتجات الأوروبية إلى تلك المناطق، مع احتماله لنقل الخام من تلك الدول الغنية به إليها عبر مضيق جبل طارق، ومما يستتبعه هذا المشروع من طفرات اقتصادية للبلاد المطلة عليه، والتنمية التي قد تحقق منجزات لكل تلك الدول من خلال دعم التصنيع وتسهيل حركة التجارة، واستغلاله كمشروع قومي وإقليمي سواء للمغرب أو الجزائر.
نناقش هذا المشروع من وجهة نظر كل دولة، من ناحية الأهمية والفرص المتاحة والعقبات التي تواجهها، مع استيضاح موقف موريتانيا التي تلعب دورًا محوريًا في المشروعين.
المغرب: طموح إقليمي
بدأ المغرب بالتفكير مبكرًا في مد الطريق ليمر بإحدى عشرة دولة على ساحل الغرب الأفريقي، لينطلق من موريتانيا ويمر (السنغال، غمبيا، غينيا بيساو، غينيا، سيراليون، ليبيريا، ساحل العاج، غانا، توجو، بنين) حتى يصل إلى لاغوس في نيجيريا. وتأتي أهمية المشروع للمغرب في إطار الطفرة الاقتصادية التي حدثت بعيد استقرار الحكم في المغرب، خصوصًا في عهد الملك الحالي محمد السادس، الذي تميز بالنمو الاقتصادي وتحرير السوق والخصخصة. ومع نمو طبقة من رجال الأعمال والتجار، أصبح أمرًا واجبًا على الدولة لمد النفوذ الاقتصادي إلى تلك الدول خصوصًا مع تراجع إمكانات الاستثمار في أوروبا المتدهورة.
أصبحت تكلفة الاستثمار في أفريقيا أكثر إغراءً، مع تراجع الدور الفرنسي الاقتصادي المتحكم في دول غرب أفريقيا، واشتد التنافس حول تلك المنطقة بين دول إقليمية وعالمية. وبجانب السبب الاقتصادي تأتي أهمية تدعيم ذلك الطريق لسيادة المغرب على الصحراء الغربية، فهو يمثل مشروعًا لتكامل التراب المغربي نفسه. فالمغرب يسيطر على 80% من الصحراء الغربية، في حين تتحكم جبهة البوليساريو في 20%، وتقطع أي تكامل لسيطرة النفوذ المغربي. والمشروع يمكن المغرب من تشكيل قوة دبلوماسية وسياسية إقليمية ودولية بزيادة نفوذ الاقتصاد والصحراء الغربية، والطموح السياسي للملك الجديد شكّل قوة دافعة للمغرب في هذا المضمار.
أما الفرص التي يحظى بها المشروع المغربي، فتتمثل في أن هذا المشروع أضخم من مشروع الجزائر، كذلك أكثر أمنًا من ناحية التهديدات التي تحف المشروع الجزائري، وفي ظل معدلات نمو اقتصادية مغربية قوية، ومن الفرص أيضًا تشكل علاقات قوية بين المغرب والسنغال وبعض الدول في الساحل الغربي.
الجزائر تواصل المنافسة على حلقة الوصل
أتى الملف الجزائري متأخرًا، وذلك مع ما مرت به الجزائر من صراعات داخلية، أدت إلى ضعف موقف الدولة في الملفات الإقليمية كما حدث في العشرية السوداء. كانت الجزائر التي دعمت جبهة البوليساريو قبيل حتى استقلال الصحراء الغربية، بدافع دعم الثورة عام 1973، وأسست للجبهة مقرًا في مدينة تندوف، إلا أن دعم هواري بومدين للجبهة تمثل بالأساس في التضييق على المغرب، وذلك تحت وطأة إرث حرب الرمال وتكرار المغرب مطالبه بتندوف وبشار، حتى أن اختيار مقر الجبهة في تندوف له دلالة، في حين كانت المغرب وموريتانيا تدعيان أحقيتهما بتلك الأرض الغنية بالخامات.
كذلك تمكن المغرب من زيادة سواحله المطلة على الأطلسي، التي يمكن استغلالها في إقامة مشاريع تجارية عملاقة، وتغشت الجزائر أمواج الاضطرابات منذ ربيعها في 1988، فلم تعد فاعلة في محيطها الإقليمي. ومع قدوم بوتفليقة للحكم، أبدت الجزائر منافسة مرة أخرى مع المغرب في ذلك المشروع، وجاء طرح المشروع على أن يمر من الجزائر إلى النيجر ثم لاغوس في نيجيرا، إلا أن تصاعد تهديدات تنظيم القاعدة في العقد الأول من الألفية، أدى إلى إلغاء طرح النيجر على خارطة هذا الطريق، ومع انفتاح موريتانيا على الجزائر في عهد ولد عبد العزيز، أصبحت بوصلة المشروع تتجه نحو موريتانيا لتتنافس عليها الدولتان.
سيمر المشروع من الجزائر إلى موريتانيا، ثم إلى جنوب مالي متجاوزًا السنغال، وصولًا إلى لاغوس في نيجيريا عبر بقية الدول. وقد عقدت نيجيريا العديد من الاتفاقات بين الجزائر والمغرب، فلا أفضلية لأحدهم على الآخر هنالك. وتأتي أهمية المشروع الجزائري في استعادة دورها الإقليمي الفاعل، والعمل كحلقة وصل بين الشرق والغرب، وتسويق نفسها عالميًا بوضعها كجسر للعبور. وتسعى الجزائر من خلال المشروع لتنمية ميناء وهران المطل على البحر الأبيض ورفع أهميته العالمية، ناهيك عن عدم إطلالها على المحيط الأطلسي فيمثل لها هذا الطريق شريانًا اقتصاديًا هامًا، خصوصًا وأن معدلات النمو الاقتصادي وحركته في الجزائر لم تكن مبشرةً كما في الحالة المغربية، بل يعد المشروع حجر زاوية للمرور نحو وضع اقتصادي أفضل، خصوصًا مع اهتمام دول عالمية مثل بريطانيا والصين بتنمية منطقة غرب أفريقيا. بريطانيا على سبيل المثال ستستثمر 40 مليار دولار في موريتانيا والسنغال، لكي تحصل على الغاز المكتشف بين حدودهما. وأخيرًا هذا المشروع يمكن الجزائر من الحفاظ على توازنها في مواجهة المغرب.
وتأتي فرص هذا المشروع كالتالي:
- انفتاح موريتانيا على الجزائر مقارنةً بالمغرب.
- قوة الدبلوماسية الجزائرية الخارجية.
- الثقل النوعي للنظام الجزائري في المحيط الإقليمي.
- عرقلة ملف المغرب، من خلال جبهة البوليساريو المدعومة جزائريًا.
أما العقبات فتتمثل في الاضطرابات السياسية الداخلية، وعدم فرض النمو الاقتصادي الحاجة لذلك المشروع، ودعم بعض الدول مثل السنغال لمشروع المغرب، وأيضًا قدوم الجزائر متأخرةً نحو العمق الأفريقي، و افتتاحها معبر تندوف-شوم مع موريتانيا العام الماضي أغسطس/ آب 2018، لينافس طريق المغرب الذي يمر عبر الكركرات، هذا التأخير أعطى الأفضلية للملف المغربي حتى وقتنا هذا.
موريتانيا بوابة العبور
في عهد الرئيس ولد داداه انحازت موريتانيا باتجاه المغرب في ملف الصحراء الغربية، بالرغم من أن المغرب كان ينظر لموريتانيا عمومًا كجزء من ترابه، وذلك من خلال الاتفاق الثلاثي بين موريتانيا والمغرب وإسبانيا، الذي قضى بتقسيم الصحراء بين المغرب وموريتانيا، لكن تحت ضربات البوليساريو الموجعة انسحبت موريتانيا من الصحراء عام 1979، وفي ظل التوتر الذي ظهر بين موريتانيا والسنغال مع مطلع الثمانينيات، والذي سينتهي بحرب عسكرية بينهما على نهر فاصل بينهما عام 1989، ودعمت المغرب السنغال.
إعترفت موريتانيا بدولة الصحراء الغربية عام 1984، وعلى الرغم من انحيازها ذلك لم يحدث تقارب يذكر بين الجزائر وموريتانيا خصوصًا مع عهد الاضطراب الجزائري. ومع القطيعة المغربية واستقرار الوضع نسبيًا في الجزائر، وقدوم ولد عبد العزيز إلى السلطة، أصبح التقارب الموريتاني الجزائري أمرًا واقعًا، وانعكس على حجم التفاهمات حول قضايا ضبط الحدود وفتح معابر تجارية بينهما، وصولاً إلى تبني موقف موريتاني أكثر ترحابًا بجبهة البوليساريو.
اتسم عهد عبد العزيز بالانفتاح الاقتصادي، وتسليم الدولة ومشاريعها لثلة من رجال الأعمال، مع استقبال استثمارات أجنبية عديدة كان أهمها اتفاق مع الصين لتنمية ميناء نواذيبو، الذي نظرت له المغرب بحساسية مفرطة، وقامت المغرب باستهداف تجارة التهريب القائمة بين الدولتين مستهدفةً من ذلك جبهة البوليساريو، وذلك ردًا على التفاهمات الموريتانية مع الجبهة، وردت موريتانيا باستهداف تجارة التهريب بين المغرب والسنغال.
وخلاصة القول أن موريتانيا تلعب دورًا محوريًا في التنافس الإقليمي حول امتيازات المشروع سواء للمغرب أو الجزائر وإن كانت أقرب للأخيرة، بل يمكن اعتبارها – موريتانيا – هي التي تملك القدرة على حسم تلك المقترحات، خصوصًا مع النمو الاقتصادي الذي استُحدث في ظل نخب اقتصادية تميل كل منها إلى طرف دون الآخر.
سيخدم هذا الطريق أكثر من 381 مليون إنسان في غرب أفريقيا، وفي ظل الطريق المغربي غير المكتمل، ارتفعت الواردات الدولية بنسبة 100% بين عامي 2005 – 2018، كما ارتفعت الصادرات بنسبة 12% في نفس الفترة. تشير الإحصاءات إلى أن معدلات الهجرة في غرب أفريقيا انخفضت من 2.2% من تعداد السكان عام 2005 إلى 1.8%[1] عام 2018، وذلك مع ارتفاع معدلات التنمية الاقتصادية في تلك الدول، على الرغم من تراجعها خلال العام الماضي وبداية تصاعد الهجرة مرة أخرى.
ارتفعت كذلك نسب انتقال السكان من المناطق الريفية إلى الحضر، والتي كانت 37% في عام 2005، لتقفز إلى 47% عام 2018. كذلك فقد غزت العديد من الشركات العالمية تلك الأسواق لتجد فيها متسعًا لتحقيق الربح، وتحويل تلك الأسواق المتعطشة نحو أسواق استهلاكية، وفي المقابل تساهم في رفع القدرات الاقتصادية لتلك البلاد، مما يخفض مشكلات الهجرة، فلا حل لتلك المشكلة إلا بمزيد من التنمية، وهنا تتنبه أوروبا لتلك المؤشرات وتدعمها، لكن بالرغم من ذلك فهي لا تقدم جديدًا للمغرب في ملف الصحراء الغربية، خصوصًا وأن الملف المغربي أقوى وأوثق من الجزائري من الناحية الاقتصادية.
[1] كتيب إحصاءات الأمم المتحدة 2018،صـ 15.