لاجئو أفريقيا: تونس تدفع ثمن عنصرية «قيس سعيد»
تشهد الساحة السياسية في تونس، تطورًا كبيرًا مؤخرًا، ليس فقط على مستوى الشأن المحلي خصوصاً مع حملة الاعتقالات التي يشنها النظام الحالي برئاسة «قيس سعيد»، ولكنها امتد على الصعيد العلاقات الدبلوماسية مع دول الجوار الأفريقية.
وخلال الأسابيع الماضية، شنت قوات الأمن التونسية حملات اعتقالات موسعة في صفوف اللاجئين من المهاجرين غير النظاميين جنوب الصحراء؛ بشكل أثار انتقادات واسعة بين الساسة في البلاد، وتصاعد موجة العنصرية ضد أصحاب البشرة السوداء.
تطورات الأمر، وصلت إلى حد إقدام عدد من الدول الأفريقية على إجلاء رعاياها من تونس، مع استمرار التصريحات التي وُصفت بالعنصرية من مسؤولي البلد العربي، ليبقى السؤال: كيف بدأت القصة، وكيف وقعت تونس في تلك الأزمة؟
فتيل الأزمة
في 21 فبراير / شباط الماضي، أشعل الرئيس التونسي فتيل الأزمة، عندما أجرى اجتماعًا عاجلًا لاتخاذ إجراءات ضد توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى بلاده.
ورأى سعيد أن توافد تلك الأعداد، تسبب في جرائم عنف وممارسات غير مقبولة، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن هناك ترتيبًا إجراميًا تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وأن هناك جهات تلقت أموالًا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين.
ولم يكتف الرئيس بتلك التصريحات، إذا دعا إلى العمل على كل الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والتطبيق الصارم للقانون المتعلق بوضعية الأجانب في تونس ولاجتياز الحدود خلسة، مؤكدًا أن من يقف وراء هذه الظاهرة يتّجر بالبشر ويدّعي في نفس الوقت أنه يدافع عن حقوق الإنسان.
وسارعت الأجهزة الأمنية بدورها في تنفيذ تعليمات سعيد، حيث انطلقت في حملات موسعة، لإلقاء القبض على المهاجرين غير النظاميين في ولاية القصرين غرب البلاد، وذلك بعد 24 ساعة فقط من البيان الرئاسي.
وجاءت تلك الخطوة من الرئيس التونسي، بالتزامن مع مطالبات من الحزب القومي في البلاد، الذي أصدر وثيقة في وقت لاحق تحت عنوان «مشروع الاستيطان الأجصي وإزالة تونس من الوجود»، حيث تشير الأجصي إلى الحروف الثلاثة الأولى من أفريقيا جنوب الصحراء.
وطالب الحزب المؤيد للرئيس، الحكومة بطرد المهاجرين غير الشرعيين وإيقاف العمل بكل الاتفاقيات والمعاهدات، التي تفرض على الدولة التونسية «استقبال المهاجرين غير الشرعيين وتوطينهم بحجة أنهم لاجئون».
تأييد اليمين المتطرف في أوروبا
لاقى موقف سعيد تأييدًا أوروبيًا من قبل اليمين المتطرف، حيث أبدت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ملوني، استعدادها لمواصلة دعم تونس ماليًا، إلى جانب المساعدة في حل أزمة اللاجئين وفق مقاربة متكاملة للظاهرة.
وسبق ملوني، وزير خارجيتها أنطونيو تاياني، الذي بدوره أجرى محادثات مع وزير الخارجية التونسي نبيل عمار، في شأن الدعم الإيطالي لدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي وعدد من الدول الغربية بهدف حشد الدعم لتونس.
الأمر لم يختلف كثيرًا في فرنسا، حيث استغل زعيم حزب استرداد فرنسا اليميني المتطرف، إريك زامورا، موقف الرئيس التونسي، وعلق في تغريدة له عبر «تويتر»، قائلًا: «بدأت البلدان المغاربية نفسها في دق ناقوس الخطر في مواجهة تصاعد الهجرة، هنا دولة تونس تريد اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية شعبها. ما الذي ننتظره لمحاربة الاستبدال العظيم؟».
أزمة دبلوماسية
موجة التأييد تلك في اليمين الأوروبي المتطرف، قابلتها موجة غضب كبيرة من الجانب الأفريقي، إذا أسرعت بلدان مثل: مالي وساحل العاج وغينيا الاستوائية، في تسهيل إجراءات إجلاء رعاياهم بسبب ما وصفوه بالوضع الخطير في تونس.
وأدانت مفوضية الاتحاد الأفريقي، ما وصفته بـ«خطاب الكراهية العنصري» الذي يمكن أن يسبب أذى، في بيان لها أصدرته بعد أيام من تصريحات الرئيس التونسي، التي أشعلت فتيل الأزمة.
وقال رئيس المفوضية موسى محمد، إن الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي ملزمة بمعاملة جميع المهاجرين بكرامة، من أي مكان أتوا منه، والامتناع عن خطاب الكراهية العنصرية الذي يمكن أن يعرض الناس للأذى، وإعطاء الأولوية لسلامتهم وحقوق الإنسان.
الموقف الأفريقي لم يتوقف عند هذا الحد، إذ نقلت مجلة «بلومبيرغ» الأمريكية، عن متحدثة باسم الاتحاد الأفريقي، إن مؤتمر مكافحة التدفقات المالية غير المشروعة في أفريقيا، والمقرر عقده في منتصف مارس الجاري بتونس، تم تأجيله دون تحديد البلد المستضيف.
وامتدت الأزمة الدبلوماسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية «نيد برايس»، في تصريحات صحفية: «إن الولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ إزاء تصريحات الرئيس التونسي في شأن الهجرة والتقارير عن اعتقالات تعسفية، وحث السلطات التونسية على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بحماية حقوق اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين».
مقاطعة اقتصادية
ولأن المصائب لا تأتي فرادى عادة، فإن الأزمة الدبلوماسية أصبح لها تبعات اقتصادية واضحة، بعدما أعلنت مجموعة البنك الدولي تعليق المناقشات مؤقتاً مع تونس حول إطار الشراكة على المدى المتوسط بين 2023 و2027.
وأشار البنك الدولي، في بيانه الذي نشرته «رويترز»، إلى أن رئيس مجموعة البنك الدولي وجه رسالة داخلية للموظفين حول الأحداث الأخيرة في تونس، التي تثير قلقًا عميقًا لمجموعة البنك الدولي وموظفيها.
على جانب آخر، دشن عدد من النشطاء الأفارقة حملة لمقاطعة البضائع التونسية المختلفة في بلدان جنوب الصحراء، وذلك ردًا على الموقف التونسي من المهاجرين غير النظاميين، وذلك في الوقت التي تريد فيه تونس زيادة صادراتها إلى تلك البلدان بنسبة 5% في عام 2025، مقارنة بـ3% فقط في 2022.
محاولات لاحتواء الأزمة
وأمام تلك الضغوطات، لم يجد الرئيس التونسي بدًا من اتخاذ خطوات من شأنها محاولة احتواء الأزمة، التي شملت عدة تسهيلات للمغتربين الأفارقة داخل البلد الشمال أفريقي.
وتضمنت تلك التسهيلات، إعطاء الطلبة بطاقات إقامة لمدة سنة مع إمكانية التجديد الدوري لوثائقهم في آجال مناسبة، إلى جانب تمديد وصولات الإقامة المؤقتة من 3 شهور إلى 6 أشهر، إلى جانب تسهيل عمليات المغادرة الطواعية بعد التنسيق مع السفارات الدبلوماسية لكل جالية.
كما اشتملت القرارات التي نُشرت في بيان رئاسي، على إعفاء الأفارقة من دفع غرامات التأخير المستوجبة في حالة تجاوز مدة الإقامة وذلك عند المغادرة الطواعية، إضافة إلى تعزيز المساعدات الاجتماعية والصحية والنفسية اللازمة، وحماية المقيمين من أي تجاوز في حقهم.
وبالتوازي مع تلك القرارات داخليًا، حاول سعيد استخدام أدواته الدبلوماسية، حيث حرص خلال الأيام القليلة الماضية، على التواصل مع عدد من رئيسي غينيا بيساو والسنغال، في محاولة لتوضيح تصريحاته، التي اعتبر أنها ضُخمت بشكل بعيد عن حقيقتها.
كما استضاف الرئيس التونسي مفوضة الصحة والشؤون الإنسانية والتنمية الاجتماعية، ومفوض الشؤون السياسية والسلم والأمن، في القصر الرئاسي بقرطاج، وذلك في محاولة أخرى لتصحيح الصورة، عقب البيان الذي أصدره الاتحاد في خضم الأزمة.
قد يكون الرئيس التونسي محقًا فيما يخص حماية حدود بلاده من المهاجرين غير النظاميين، إلا أن تصريحاته في هذا الشأن أوقعت بلاده في أزمة دبلوماسية امتدت تبعاتها لمقاطعة اقتصادية، فهل تنجح محاولاته من أجل احتواء تلك الأزمة؟