جماليات المعاناة في فيلم «Close Up»

ضمن قائمة ضمت ألف فيلم وفيلم عليك أن تشاهدها قبل الموت، أخذ فيلم إيراني مُنتَج عام 1990 مكانه بينها. ويُختصر الفيلم عادة بمواقع المراجعات الفنية وفي المقالات النقدية بأنه قصة لشخص يُدعى «حُسين سابزيان» انتحل شخصية المخرج الإيراني «المعروف محسن مخملباف»، وافتضح أمره وخلال أيام سيُقدم للمحاكمة. تبدو القصة عادية، حسنًا إذ قلت لك إن عرضها استغرق ساعة ونصف سيتحوّل الفيلم في ذهنك من عادي إلى مُمل.

ولكن للقُرب سحر لا يُدرك عند الاختصار. الأمر الذي تهمله عند رواية المُلخص، قد يحمل في الحقيقة تفصيلة مجازها أقوى من ألف قصة ضخمة. هكذا كانت قصة الفيلم مُعجزة، تُعجزك عن الاختزال. لأن في الحقيقة إذا أردت أن تحكي عن الفيلم فإنك لن تذكر الانتحال بشكل رئيسي، بل ستتحدث عن تفصيلة دقيقة جدًا، وهيّ وجه «حُسين سابزيان» الذي خفي بين طياته معاناة دولة كاملة، وكشفها «Close Up»

النفاذ إلى مسام الأمور اليومية

في خريف عام 1989 قرأ المخرج الإيراني «عباس كيارستامي» تقريرًا بمجلة «سوروش» باسم «القبض على مخملباف الزائف». لم يمرر «كيارستامي» الأمر كالآلاف ممن قرءوه، ولكنه شعر بشيء خاص نحوّ القصة والمذكور بها، مما دفعه إلى تعطيل إنتاج فيلمه حينها، من أجل تقصي حالة «سابزيان».

أحاط بالواقعة نوع من الغموض، أسئلة كثيرة لم يجد لها «كيارستامي» إجابة. لماذا ينتحل شاب شخصية مخرج مشهور، ولا يجني من وراء جريمته إلا مبلغ زهيد وهو 1900 تومان إيراني؟ بدا الأمر مثيرًا. ولكن الغريب حقًا هو ذكر التقرير أن تبرير المنتحل «سابزيان» لما قام به، هو هيامه بالسينما.

عطيّة الله لقومه المفتونين

ترتكز عملية خلق الفيلم، على صفة واحدة وهي الافتتان، وثلاثة أبطال وهم «حسين سابزيان» خالق القصة، الشغوف بالسينما والفن. والصحفي «حسين فرازماند» شديد الحماس للسبق الصحفي والعمل الصحفي المدوي، وهو ما يظهر بوضوح خلال محادثته لسائق السيارة الذي نقله صُحبة ضابطين لبيت عائلة «الأهناخ» المُتعرضة للاحتيال.

تحدث «فرازماند» خلال الطريق دون توقف. حكى عن القصة المدوية التي بصدد الانكشاف على يده، تابع الحديث لا لحماس من حوله، لكن لحماسه، أن تلك القصة تأتي في حياة الصحفي مرتين، ويجب عليه الاهتمام بها. ذكر شوقه إلى اللحظة التي تصل فيها قصته إلى المطبعة ويسكب الحبر على الورق لتولد قصته في اليوم التالي بالأكشاك والمكتبات تسلب عيون المارة والقراءة. وهو تمامًا ما حدث.

المُعلم، وصاحب القدم الأولى في مسيرة السينما الإيرانية التي يعرف عنها الناس والمهرجانات الدولية، «عباس كيارستامي» يهتم بهذه القصة ويصبح هو ثالث المفتونين. يصبح هو يد الله التي ستجازي افتتان سابزيان وفرازماند بالخلود، وتُمنح فيلمًا عليك مشاهدته قبل الموت.

يأخذ «كيارستامي» خيط القصة وهو التقرير ويسعى خلفه بحميّة ووداعة. يزور عائلة “الأهناخ” ويطالبهم بصنع فيلم حول الواقعة والمشاركة فيه بشخوصهم ويحصل على موافقتهم بعد تردد شديد تحدث عنه «كيارستامي» شخصيًا، ثم يذهب للمُنتحل والبطل «حُسين» ويقابله للحصول على بعض المعلومات، تلي تلك المقابلة أخرى للقاضي يطالبه فيها بإمكانية تصوير المحاكمة والتعجيل بموعدها للتناسب مع جدول التصوير الذي أعده كيارستامي، يُلاقي رجاء المخرج بالموافقة.

«Close Up» هو عطية الله للمفتونين، يقول «سابزيان» إن السينما أضاعت عمله وسرقت عُمره خلال مقابلة تمت بعد تصوير الفيلم بـ6 سنوات. أختلف قليلًا مع «سابزيان» المُحب، أقول إن مساهمته والخلود، مكافأة طيبة.

ربكة التصنيف

لا تخلو مراجعة للفيلم من التباس حيال تصنيفه، هل هو وثائقي أم درامي؟ كل أبطال الواقع هم أبطال الفيلم، والأماكن كذلك واحدة، حتى أن بعض المشاهد صُوِّرَت حيّة مثل مشاهد المحكمة. وما يزيد الأمر فردانية هو تصالح كيارستامي مع العديد من الأخطاء الإخراجية المتعارف عليها. يصنفه أغلب النقاد أنه خليط درامي وثائقي «Dracoumentary» إلا أن لفتة أخرى يجب أن ننتبه لها، ثنائية الحقيقة والخيال في السينما وتأثير كل منهم على الآخر.

يبدو «Close Up» حالة مثاليّة لعرض الفكرة، يأتي المشهد الأطول من الفيلم، مشهد المحاكمة، حقيقيًا وحيًا ولكن بتطعيمات كتابية من جانب كيارستامي، أشياء خفية رأى «كيارستامي» إنها تُزيد جمال الحقيقة عند الخروج للشاشة. يعد فيلم «Close Up» تدليلًا على أن السينما قوة ناعمة، وكثيرًا ما تكون طيبة الأثر.

يستغل «كيارستامي» السينما للتأريخ، والعرض، والشك بظواهر الأمور. يُشيّد من خلال الشك تجربته ويوزع هداياه الربانية. ينتفع «سابزيان» من هذا الشك، يستغله ليظهر زاوية أخرى لشخصه، يصير فيها الجاني المجني عليه. يجعلك تصدقه وترغب في احتضانه، بالرغم من عدم اتزانه، وتعقيد شخصيته، واعترافه بالإثم.

يتدخل الفيلم في تغيير الواقع، يعجل بموعد المحاكمة، ويلفتّ نظر القاضي لخصوصيتها لسبب ما. يجعل الفيلم من «سابزيان» ممثلًا كما تمنى، ويمنح عائلة «الأهناخ» زيارة حقيقية من المخرج «محسن مخملباف»، ويهدينا ساعة ونصفًا من السلوى.

تنجح التجربة الفريدة، ينتهي الفيلم بنجاح توثيق قضية وحالة المنتحل «سابزيان»، وتنجح الدراما في إظهار معاناة الإنسان «حسين سابزيان»، وإهداء المشاهد في النهاية وردة لن ينساها.

نسائم كيارستامي

وعند التساؤل هل نجح السيد «كيارستامي» في صناعة فيلم يكشف معاناة «سابزيان»؟ تأتي الإجابة، بالطبع نعم. لكنني أُفضل الاعتراف بأنه نجح فيما هو استثنائي وزائد على العادي فيما يخص قصة «سابزيان»، نجح السيد «كيارستامي» في بيان جمالية هذه المعاناة، استنبت من يابسة تشوه شخص «حُسين»، وردة فائض عطرها. لن أحكي عن «كيارستامي» كمخرج صاحب الخطوة الأوسع والأكبر أثرًا في تاريخ السينما الإيرانية بشكل داخلي وخارجي، لكني سأحاول التقاط نسائمه العابرة في فيلم «Close Up».

كعادته في أكثر من فيلم منها «طعم الكرز»، يبدأ المخرج فيلمه بمشهد من داخل سيارة، يكشف عن الشوارع من منظور واقعي ومتكرر، من خلف زجاج السيارة، يدير الحوار بين الصحفي والسائق بالكاميرات أيضًا، يستعين كيارستامي بسؤال المارة عن الطريق واقعيًا لأنه أمر حقيقي يتكرر، ولكن فلسفيًا يستغل هذا الأمر لبيان كم أن الإنسان خائب، لولا البحث، ودائمًا ما تنقصه المعلومة.

يصل سائق العربة والصحفي المتلهف «فرازماند» وضابطان، إلى مكان بيت «الأهناخ»، جاءت البداية مشوقة. شخص ما يدعي أنه المخرج الشهير. شك أهل البيت بأمره وتوصلوا إلى «فرازماند» الصحفي ليأتي يتأكد هل هو منتحل؟ وفي حال كان تتدخل عناصر الشرطة. بعد دقيقة من غياب الصحفي، يخرج لاستدعاء الشرطيين.

أنت الآن على قمة جبل التشوّق، هل سنشهد مشهد مطاردة، أم سيرهن المنتحل أحد أفراد العائلة، لكن كاميرا «كيارستامي» ترفض الدخول. لا نحصل على إجابة، يهدينا «عباس» أكثر مشهد مُربك في أفلامه، بدلًا من لحاق الكاميرا بهم تظل مع السائق الذي يدير سيارته، ثم يخرج منها يصل إلى كومة من ورق الأشجار المتساقط ويستخرج منها بضع وردات، ويجد بين الكومة علبة رشّ من صفيح، تنحدر من الكومة وتحتل المشهد لمدة دقيقة.

هذا اللاشيء الذي يأخذك إليه «كيارستامي» بدلًا من ترك الأحداث تتداعى في مسارها الطبيعي، الهدوء الذي يجبرك عليه والذي تتخلله إسقاطات طيبة، هو نسمة كيارستامية، تحدث المخرج في برنامج تلفزيوني عن ذلك الأمر، عن غوايته صيد المشاهد الجميلة التي لا تتعب المُتفرج، مَشاهد اللاشيء، وذكر أشهر مثال من أفلامه، مشهد علبة الصفيح.

خلال رحلتي خلف الدقيقة التي قد تحسبها حشوًّا من المخرج، وجدت تدوينة بعنوان «لماذا عنت لي سينما كيارستامي الكثير؟ مشهد طويل لعلبة صفيحية» حكت التدوينة عن خصوصية «كيارستامي»، جرأته، وطيّه لعنق ما نُريد. نريد الإثارة، ولكنه يعطينا الصفيحة العادية، التي لا تنفجر مثلًا وتأخذ القصة اتجاه آخر، بل تجري حتى ترتطم بالرصيف، فتتوقف، لأنها مجرد عُلبة.

يقول المخرج الفذ إن السينما لا تعتمد على الإجابات فقط بل المتفرّج أيضًا يجب أن يُكمل الفيلم بخياله، يصير جزءًا منه. يكُمل «كيارستامي» خلال مقال له قائلًا: «أنا أؤمن بذلك النموذج من السينما الذي يمنح جمهوره احتمالات أكبر، ومتسعًا من الوقت». يشبه في مقالته السينما بأحجية الكلمات المتقاطعة التي نصنعها نحن أيضًا، فنحبها.

نسمة «كيارستامي» وتيمته الغالبة، هل الجماليّة «Aesthetic». تخدير المشهد ليكون مفعمًا بالمحبة. تنتهي من مشاهدة فيلم «كلوز آب» محملًا بالرقة والوداعة، لا تحمل الكره لأي شخص، يُظهر شيئا آخر في كل زاوية، ابتسامات الخيبة في وجه سابزيان، الاقتراب المتدرج من ملامح وجهه، كلمات أبناء الأهناخ الحادة في بداية جلسة المحكمة، التي ترق هويدًا هويدا. شاهد فيلم كيارستامي، كل شيء يدفعك لمزيد من الرقة والحب والعطف على حُسين سابزيان المُذنب.

بلاغة مشاهد النهاية

في لقطة لا أحب الحديث كثيرًا عنها، لأنها في بلاغة تعجز عن الوصف. يخرج «سابزيان» من السجن، ليجد المخرج «محسن مخملباف» أمامه. ينهار «حُسين». يتألم ويبكي في لحظة صدق عارم يجتاح روحه. يعتذر وينتحب. ينهار بشدة وتسقط رأسه على كتف مخملباف. يهدأه المخرج، ويركبان الدراجة النارية للمخرج ليتوجها إلى بيت «الأهناخ».

يُفقد الصوت لمشكلة كما قال «عباس» في المرة الأولى، إلا أن السبب الرئيسي لفقدان الصوت هو أن «مخلباف» لم يكن صادقًا في حديثه على عكس «حُسين» المفتون ببطله الرجل الطيب الذي صوّر مأساته في أفلامه. يتوقف المخرج بحُسين، كي يشتريا وردًا لعائلة الأهناخ. يصلان والورد بيد «حُسين». والأرض خالية من كومة الأوراق المتساقط التي وُجدت بالمشهد الأول، فقط الورد. وهو بيد «حُسين».

رحلة كاملة لساعة ونصف، تجعل «حُسين» المُذنب أمامك وردا جميلا، لا كومة قمامة. يفتح الأب الباب للمخرج ومعه «حُسين»، يستعطفه «حُسين» من أجل الغفران والمسامحة. ويقول له «مُحسن مخملباف» هذا «حُسين آخر».

يصف الكاتب المصري «محمد المصري» هذا المشهد قائلًا: «واحد من أكثر المشاهد السينمائية «طيبة» في التاريخ»، تتجلَّى عظمة العمل الحقيقية «كيارستامي» حقق حُلم وشغف «سابزيان» السينمائي بصناعة فيلم عنه وجعل الواقع يَخلق السينما والسينما تُغيّر في الواقع وتجعل كُل الأحلام مُمكنة.

هل تنتهي الأفلام؟

يسأل الكثير عن «حُسين»، ليجدوا أنه توفي. ولكن هناك تفصيلة خفية وراء وفاته. في الثانية والخمسين من عمره اتصل به المخرج «عباس كيارستامي»، طلب منه الحضور من أجل فيلم وثائقي آخر ينوي المخرج القيام به. خلال طريق حُسين للقاء، أصابته أزمة ربوّ. استمر في الفراش مدة أربعة شهور قبل أن يمضي إلى الموت. في هذه المرة بالفعل دمرت السينما حياة «سابزيان» وليس مجازًا كما قال في أكثر من مناسبة. انتهت أنفاس «عباس»، ولكن حكايته موجودة.

في عام 2007 نشر المخرج الإيراني «عباس كيارستامي» ديوانًا باسم «ريح وأوراق»، ضمت واحدة من قصائده هذه السطور:

يتماهى كل شيء. وتتشابه قصيدة المخرج الإيراني، مع كلمات لحُسين سابزيان في المحاكمة، حيث قال:

يبدو أن أثر الفيلم لم ينته عندنا، لكنه امتد إلى قلب المخرج الذي ظل سابزيان جزءًا منه.

فشل الفيلم في إيران عند عرضه. وأحيي عند إعادة عرضه في باريس، كان مختلفًا ومُبهرًا. في أواخر التسعينات أختار نُقادا أمريكيين في مجلة «Film Comment» الشهيرة، «كيارستامي» كالمخرج الأهم خلال هذا العقد من الزمن. وفي وقت مقارب اختار خبراء فنيين من إيران في مجلة «Film international» فيلم «Close Up» ليكون في نظرهم الفيلم الإيراني الأفضل على الإطلاق.

شاهدت «Close Up» أكثر من مرة. لا أَمَل. في كل مرة أدرك إنه خلق شيئًا جديدًا في السينما، وفي كل مرة ينتهي الفيلم، أجد وردة مبعثرة في قلبي تدعوني إلى الأناة والرقة.