قد نُطلق عليها قصة لم تكتمل، ولكن مع الاعتراف أن حبكة القصة تخطف الانتباه دائمًا. إنها قصة عن ثدييات برية قديمة شقّت طريقها مجددًا نحو مياه المُحيط بدلًا من البقاء على اليابسة، لتتحول لما نعرفه اليوم باسم الحيتان. ومن أجل القيام بذلك، خسرت ساقيها، وتكيّفت كل أنظمتها الحيوية مع الحياة البحرية، على عكس ما حدث منذ ملايين السنين مع باقي الكائنات، عندما زحفت الحيوانات الأولى للخروج من البحر إلى اليابسة.

ما زالت بعض التفاصيل مُبهمة ويجري البحث فيها، ولكننا نعرف على وجه اليقين أن هذا التطور العكسي بالعودة إلى الماء حدث بالفعل، وذلك بفضل وفرة من الحفريات الوسيطة التي تم اكتشافها خلال العقود القليلة الماضية.

وفي ورقة بحثية جديدة نُشرت في دورية PLOS ONE، كشف الباحثون، الدكتور فيليب جنجريتش عالم الحفريات وأستاذ الجيولوجيا في جامعة ميشيجان، والدكتور محمد سامح عنتر مدير عام محميات المنطقة المركزية بالفيوم، والدكتور إياد زلموط العالِم في هيئة المسح الجيولوجي السعودية، عن حفرية جديدة، في محمية وادي الحيتان بالفيوم، تمثل فصيلة جديدة من الحيتان الأوّلية، وهي خطوة هامة في تطور انتقال الحيتان من اليابسة إلى الماء.

وفي تصريح لإضاءات، قال د. جنجريتش:

تشتهر محمية وادي الحيتان بهياكل حيتان الباسيلوسورس، وهي أول حيتان مائية بالكامل تسبح من خلال حركة الذيل. بينما يشمل اكتشافنا الجديد هيكلاً عظميًا لحوت أوّلي أكثر بدائية. وعُثر على الحيتان الأوّلية للمرة الأولى في جبل المقطم بالقاهرة، ولكن أفضل عينات نعرفها جاءت من باكستان. الحيتان الأولية عادةً ما تسبح من خلال حركة أقدامها، ولكن الفصيلة الجديدة من وادي الحيتان تعتبر حلقة وسيطة بين الحيتان الأولية والباسيلوسورس.

الحوت الجديد «Aegicetus gehennae»

قبل نحو 40 مليون سنة، كان حوت الباسيلوسورس «Basilosaurus» يسبح في المحيطات القديمة، وتكيّف بشكل كامل مع البيئة المائية، مستخدمًا زعانفه القوية، وجسده الطويل المرن. لكن ما كان غريبًا بالنسبة لحوت مائي مثل الباسيلوسورس أنه ما زال محتفظًا بأقدام خلفية صغيرة وضعيفة، مع أنه لم يتمكن من المشي على الأرض، هذه الأقدام هي ما تبقى من ماضيه التطوري، التي امتلكها أسلافه سابقًا عندما كانوا على اليابسة.

يتتبّع السجل الأحفوري لتطور الحيتان مسارات انتقال الأسلاف الذين عاشوا على اليابسة إلى الحيتان التي تعيش في المحيط. الحيتان الأوّلية «Protocetids» هي مجموعة من الحيتان القديمة والتي عرفنا أنها عاشت في العصر الإيوسيني (من 56 إلى 34 مليون سنة) في أفريقيا وآسيا والأمريكيتين. بينما الحيتان الحديثة المائية بالكامل تستخدم ذيولها لدفع أنفسها في المياه، إلا أن معظم الحيتان الأوّلية كانت شبه مائية (برمائية) وتسبح باستخدام أقدامها.

حوت جديد وادي الحيتان
فقرات الصدر والعنق لعينة من الحوت الجديد «Aegicetus gehennae»
Gingerich et al., 2019

في هذه الورقة البحثية، يصف الباحثون نوعًا جديدًا من الحيتان الأوّلية، يُطلق عليه «Aegicetus gehennae». تم اكتشاف الحوت الجديد في عام 2007، في محمية وادي الحيتان في الصحراء الغربية بمصر، وهو يعتبر أصغر الحيتان الأوّلية المُكتشفة، التي يرجع تاريخها إلى ما قبل حوالي 35 مليون سنة، كما أن الهيكل العظمي المُكتشف شبه كامل، مما يجعله من بين أكمل الحفريات المحفوظة على مدار الزمن.

مقارنة مع الحيتان السابقة، يملك الحوت الجديد جسمًا وذيلاً أكثر استطالة، وأقدامًا خلفية أصغر، ويفتقر إلى اتصال قوي بين أقدامه الخلفية والعمود الفقري. وتشير هذه التغيرات الجسدية إلى أنه كان حوتًا مائيًا بشكل كامل أكثر من أسلافه، ولم يعد يسبح باستخدام طاقة الأقدام، بل من خلال حركة تموجيّة اعتمادًا على قوة الذيل، كما لم يعد قادرًا على استخدام أقدامه للمشي على اليابسة.

يماثل شكل جسم الحوت «Aegicetus» أجسام الحيتان القديمة الأخرى المعاصرة في زمنه، مثل حوت الباسيلوسورس. ويبدو أنه تكيّف جيدًا على السباحة من خلال حركة تموّج منتصف الجسم والذيل، وهو ما يشبه إلى حد ما الطريقة التي تسبح بها التماسيح اليوم.

وعند سؤاله عن أهمية اكتشاف هذا النوع الجديد في عملية تطور الحيتان، أجاب د. جنجريتش:

أهمية هذا الاكتشاف هو أنه حلقة وسيطة بين الحيتان التي تسبح من خلال طاقة القدم foot-powered والأخرى التي تستخدم طاقة الذيل tail-powered. وهو ما يدل على أن عملية التحول من السباحة بالقدم إلى السباحة بالذيل حدثت من خلال استطالة العمود الفقري والذيل. كانت وسيلة السباحة الجديدة من خلال حركة تموّج مرنة للجسم الممدود والذيل القوي.

وفي حديث مع الباحث عبد الله جوهر، من مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية، صرّح لإضاءات:

هذا الكشف الجديد من بين أهم الاكتشافات العلمية في محاولة فك لغز تطور الحيتان بالعودة إلى الماء مرة أخرى، وهذه الحفرية من بين أكمل الحفريات التي تم تسجيلها في حفريات الحيتان المُكتشفة.

وادي الحيتان يزخر بأحجار رشيد

قبل سبعة وثلاثين مليون سنة، في مياه عصور ما قبل التاريخ، في محيط التيثس «Tethys Ocean»، مات وحش بطول خمسين قدمًا، يشبه السحالي العملاقة، وغرق في قاع المحيط.

على مدى آلاف السنين، تراكم غطاء من الرواسب على عظامه، تراجعت مياه المحيط، وتحول قاعه إلى صحراء، ثم بدأت الرياح في إزاحة الحجر الرملي والصخري من فوق العظام. وببطء تغير العالم؛ تغيُّرات في قشرة الأرض دفعت الهند إلى آسيا، لترتفع جبال الهيمالايا. وفي أفريقيا، وقف أسلاف الإنسان الأوائل على أقدامهم الخلفية للمشي. بنى الفراعنة الأهرامات، ازدهرت روما، ثم سقطت روما. وفي خضم كل هذه الأحداث، واصلت الرياح عملها وتنقيبها الدؤوب عن هذه العظام.

كان هذا الوحش الذي اكتشفناه هو في الأصل حوت الباسيلوسورس، والصحراء التي كانت محيطًا مليئًا بالمياه هي جزء من الصحراء الغربية في مصر، نعرفها الآن بمنطقة وادي الحيتان، وهي محمية طبيعية عالمية تابعة لمنظمة اليونسكو.

يعمل الدكتور فيليب جينجريتش منذ ما يقارب الثلاثين عامًا في استكشاف هذه المنطقة الزاخرة بالألغاز وحفريات الحيتان. على مدى هذه السنوات، اكتشف مع زملائه حفريات قديمة لأكثر من ألف حوت، وما يزال هناك الكثير والكثير لم يُكتشف بعد.

وعند سؤاله عن أهمية محمية وادي الحيتان في علم الجيولوجيا والحفريات، أجاب:

وادي الحيتان هي واحدة من أهم المناطق التي تحتوي على كنوز جيولوجية وحفرية في العالم، وهي تستحق بالكامل أن تُصنّف كموقع للتراث العالمي تابع لليونسكو. وقد أثمرت عن كثير ممّا نعرفه عن تطور الحيتان في أواخر العصر الإيوسيني، وليس لدي أي شك في أن كثير من النتائج الجديدة سوف تظهر مع استمرار عملية البحث هناك.

وعند سؤال الباحث عبد الله جوهر عن أهمية محمية وادي الحيتان في الاكتشافات القادمة، أجاب:

وادي الحيتان تحمل الكثير من الكنوز، وهي أفضل منطقة تراث طبيعي في العالم، وبها الكثير من الحفريات التي بإمكانها حل الكثير من الألغاز عن تطور الحيتان، ومساعدتنا في فهم عمليات التطور بشكل عام. مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية لديه الكثير من الاكتشافات الهامة بوادي الحيتان في المستقبل القريب.

الحفريات الكاملة مثل الحوت الجديد «Aegicetus gehennae» يمكن اعتبارها كحجر رشيد، لكن في هذه الحالة في فهم تطور أسلاف الحيتان وليس في فهم اللغة الهيروغليفية؛ هي تخبرنا بصورة أكثر شمولًا حول كيفية انتقال وتطور هذا الحيوان من اليابسة إلى الماء، أكثر من الحفريات المجزأة أو الصغيرة. ووادي الحيتان أثبت أنه غني بصورة هائلة بأحجار رشيد التطورية.