حكايات يوسف تادرس: مغامرة في منطقة الأمان
في روايته «حكايات يوسف تادرس» يخوض الكاتب عادل عصمت مغامرة سردية تفصح في بدايتها عن مسلكه لدرب غير مألوف، وتتكشف ملامح المغامرة بالتدريج عبر صفحات الرواية حتى تتركنا النهاية بين انطباع وسؤال، أما الانطباع فهو أن الكاتب غامر بحساب والتزم حدود الأمان طوال رحلة بطله، وأما السؤال فيدور حول أولويات انحيازات الأدب.
تتبع الرواية قصة حياة يوسف تادرس المواطن المصري المسيحي الذي يروي لنا بنفسه مراحل حياته منذ ميلاده الغرائبي، مرورًا بطفولته المحافظة، ثم مفترق طرق مرحلة البلوغ والجامعة وحياته المتلاطمة فيما بعد بين مطرقة الطائفية وسندان قيود المجتمع العام والخاص.
تقتفي الحكايات أثر البناء الأسطوري للشخصية، وتحمل كذلك الكثير من التراث الشعبي والديني، فيوسف يولد في ظروف عائلية خاصة ويعاين الموت مبكرًا، ثم يطرق أبواب الغربة مكانًا وأشخاصًا، قبل أن يذوق من مرارات العيش وآلام الفشل، وألوان الخذلان المختلفة، حتى يتوصل إلى الخلاص الذي بحث عنه دومًا.
عبر تتبع حكايات يوسف تادرس يقتحم النص تطوّر الطائفية في المجتمع المصري، ويبتعد النص عن الظواهر الصاخبة للطائفية، فهو يرصد تمددها الصامت القبيح، والمسكوت عنه داخل المعاملات اليومية بكل فروعها. يستعرض النص كذلك نموذج العائلة المصرية العتيد بخبايا صراعاته وتعقيدات علاقة الآباء بالأبناء ونزاعات الميراث والنزاع العتيق بين تحقق الفرد في مواجهة تحقق العائلة، ويقدم النص مرثية هادئة لجيل ما بعد الانفتاح والذي خضع مجبرًا لواقع اجتماعي واقتصادي وأد كل أحلامه، وفكك منظومة قيمه، وأعاد تشكيل حيزه الجغرافي والمعنوي بكثير من الجور.
علاقة يوسف بالرسم كانت ركنًا أساسيًا في تشكيل منطق أحداث الرواية، وتنوع الأصوات بداخلها أيضًا. من خلال علاقة يوسف بالرسم فإنه يطرح أسئلة عن الله، الحياة، الشغف، الحب، العائلة، الآخر، الوطن. يستكشف يوسف العالم عبر الرسم، يبحث ذاته، يكتشفها، يفقدها أحيانًا، ويكرهها أحيانًا أخرى، يتصالح معها أحيانًا ويبحث عن التخلص منها أحيانًا أخرى.
تبنت الرواية القالب الكلاسيكي من ناحية الحبكة والشخصيات. فأما الحبكة فقد جاءت في شكل رحلة البطل المسلسلة زمنيًا من ميلاد يوسف حتى نهاية الأحداث. هيمنت شخصية يوسف تادرس على النص في مجمله، فظهرت كل الشخصيات الثانوية في شكل انعكاسات وظلال لصراعات يوسف بين محاولة الهروب من الواقع الخانق والبحث عن الذات طيلة صفحات الرواية. لعل ولع يوسف تادرس بالنور وظلاله يفسر مساحات الشخصيات الأخرى في هذا النص، فالشخصيات الثانوية لا تكاد تشعر بها بمعزل عن تأثيرها في يوسف.
اتسمت لغة النص بمزيج من القوة والسلاسة أعطى السرد حيوية وأصالة طيلة صفحات الرواية. وقد قدم الكاتب جهدًا مميزًا فيما يتعلق بلغة المحادثات، وذلك أنه لم يكتب بعامية صريحة ولا بفصحى بعيدة عن أجواء النص، إنما قام بتفصيح العامية ، فتشعر لأول وهلة أنك تقرأ محادثة بلغة كلاسيكية، ولكن في النهائية تكتشف أن الحوار وإن كتب بمفردات فصيحة فإنه اتبع منطق وترتيب العامية، وتحلى بروحها، بل اختلط بها في بعض المواضع، فتجد يوسف يسأل: «مالك؟» ويتلقى الإجابة: «كنت مريضة». تكرر تبادل استخدام العامية والفصحى في المحادثة نفسها في بعض أجزاء الرواية، هذا التبادل أعطى مزجًا بين حالتي الحلم والواقع، ومنح بعدًا آخرًا السرد كما في هذا الحديث من سناء ليوسف:
«يا خبر! أنا نمت»
«حلمت بك مرة ثانية« «لا يمكن، أنا كائن غريب، حلمت بك وأنت معي، تخيل؟»
على غرار المجهود اللغوي المميز، فإن مجهود الكاتب البحثي فيما يتعلق بمبادئ الرسم وتقنياته جاء على درجة عالية من التميز ساعدت على تأصيل أجواء النص وطرد أي مواضع للإقحام أو التكلف، بل إنه يتيح للقارئ فرصة الانغماس في تفاصيل اللوحات وتذوق تفاصيلها، وبذلك قدم النص وجبة فنية مزدوجة.
أحد أهم ما ميز الرواية هي المغامرة الناجحة لكاتب مسلم في كتابته عن المجتمع القبطي بشكل نجح في رسم صورة متعددة الألوان عبرت عن كل الآلام، والتطلعات، والصراعات، التي يكابدها الأقباط في مصر.
الالتزام بمنطقة الأمان كان السمة الغالبة على صراعات الرواية. فعلى الرغم من البدايات الصاخبة للصراعات كأزمة يوسف وجانيت، والتي لمحت إلى إشكالية الانفصال في الزواج الكنسي، أو قصة الحب مع سناء، فإن نهايات الصراعات كانت مخملية متصالحة مع الواقع منساقة معه، وهي وإن كانت تظهر كتابة حذرة تتلافى المواجهة لكنها تعزز من أجواء مرثية جيل ووطن، وتظهر بشكل حاد حقيقة أن الجميع ضحايا لآلة سلطة متعددة الأذرع وأقوى من الكل.
في الحقيقة يقدم الكاتب تساؤلًا مهمًا من خلال روايته، وهو تساؤل يخص دور الأدب في خوض المواجهات المباشرة، فهل يجب على الأدب طرق أبواب الصراع بقوة والانخراط في مواجهات مضنية، أم أن الأدب يمكنه الاكتفاء بالكشف عن جذور الصراع وتعرية الأسئلة، وترك مساحات شاسعة لدى القراء من أجل الاشتباك مع الواقع والمشكلة.
صدرت الرواية عن دار نشر «الكتب خان» عام 2015، وفازت بجائزة نجيب محفوظ الممنوحة من قسم النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة لعام 2016.