عاصمة إدارية أم ملجأ للنظام: عقلية الكومباوند تحكم
عصر الكومباوندات
الكومباوندات، هي جمع لكلمة «كومباوند»، وبالإنجليزية تعني مجموعة المباني المتشابهة، والتي لها طابع مميز، فتجدها أنيقة المظهر، وبها مساحات خضراء ساحرة للعين، ومريحة للنفس، شوارعها ممهدة لسير السيارات، وحتى مطباتها، مصنوعة بمواصفات عالمية.
ويعتبر الكومباوند حصادا اقتصاديا للعشرين عاماً الأخيرة في مصر والتي أدت إلى تراكم رأس المال في أيدي طبقة واحدة. وهذه الطبقة كانت تعيش غالباً في أحياء القاهرة الراقية، لكن هذه المناطق فقدت رونقها أمام إغراءات الكومباوند، ومن ثَمَّ حدث نزوح جماعي من جانب الأثرياء نحو الحياة داخل الكومباوندات التي تتركز في المدن الجديدة.
وقد مرّت فكرة الكومباوند بمراحل كثيرة حتى وصلت إلى وضعها الحالي، حيث ظهرت بالشكل المتعارف عليه الآن في عهد مبارك، وتحديداً في بداية التسعينيات من القرن الماضي، في الساحل الشمالي، وكان تابعاً للقطاع الحكومي. وفي عام 1997، تم إنشاء أول كومباوند للقطاع الخاص في مدينة الرحاب، وبعد ذلك حدثت طفرة كبيرة في إنشاء الكومباوندات في مدينتي 6 أكتوبر، والشيخ زايد، والتجمع الخامس، وجميع المدن الجديدة.
ومن الجدير بالذكر أن عدداً كبيراً من مسئولي نظام مبارك أقاموا داخل كومباوندات على أطراف القاهرة. ولا شك أن البحث عن الرفاهية والخوف كانت محركاتهم الأساسية للبحث عن هذه الأماكن، خاصة أن مثل هذه الشخصيات لا تكون قادرة على العيش داخل أحياء مزدحمة بالسكان، أو أماكن تفرض عليهم الاحتكاك المباشر مع الناس. لذا، انسحبوا خلف أسوار منازلهم العالية.
وقد كتبت صحيفة «USA Today» اﻷمريكية في تقريرٍ لها حول الكومباوندات الجديدة في مصر، أنها تعزز الصراع الطبقي، ﻷنها غالباً ما تخدم الطبقة الراقية من ذوي الوظائف الرفيعة في الدولة، في حين أن المدن الجديدة – التي يعتبرها الكثيرون حلاً لأزمة الإسكان – تخلق مجتمعات معيبة، تفتقر لحلول سكنية لغالبية الشعب المصري.
وإذا حاولنا تفسير ذلك التوسع الحالي وغير المسبوق تاريخياً – رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد – في إنشاء الكومباوندات، سنجد أن الدولة ربما تكون «الراعي الرسمي» لهذه الفكرة، ليس من منطلق كونه مشروعا اقتصاديا، قد يُدر أرباحاً – عن طريق عمليات الفساد – للمسئولين الحكوميين فقط، ولكن كبناء اجتماعي، ترغب الدولة في ترسيخه، وإقناع الشعب المصري بأن ثمة تحولاً جرى في المجتمع المصري، حيث توارت الطبقة الوسطى، وأصبح هناك مجموعة من فاحشي الثراء في مقابل جموع غفيرة من أبناء الفقر المدقع، وأن الفصل بينهم هو الحل الأمثل للجميع.
كومباوند «العاصمة الجديدة»
في 14 مارس/آذار 2015، تم الإعلان عن إنشاء عاصمة إدارة جديدة لمصر، تصل استثمارات المرحلة الأولى بها إلى حوالي 45 مليار دولار، وتقع على بعد 45 كيلو مترا من وسط القاهرة، على طريق العين السخنة على مساحة تُقدر بـ 700 كيلو متر مربع، والمرحلة الأولى منها مساحتها 135 كيلو مترا مربعا، وذلك في تصميم حديث الطراز على غرار مشاريع مدينة دبي.
وقد تم الإعلان أن هناك 35 شركة مصرية متخصصة في أعمال الإنشاءات والمقاولات تشارك في أعمال هذه العاصمة، وستكون مقراً للوزارات والهيئات الرسمية والسفارات بمصر، إلى جانب قصر الرئاسة والبرلمان، وكذلك مقراً للشركات ومؤسسات القطاع الخاص، وتضم كذلك منتجعات ومراكز تسوق حديثة وأحياء سكنية راقية. وكان من المقرر أن يستغرق بناؤها من 5 إلى 7 سنوات وهو بمثابة مركز جديد يضم أماكن والحكومة وحيا دبلوماسيا على أعلى مستوى.
وتم الإعلان عن أن العاصمة الجديدة ستكون بها أكبر حديقة على مستوى العالم، ومطار دولي جديد وحديقة ترفيهية 4 أضعاف مدينة «ديزني لاند»، ونحو 1.1 مليون وحدة سكنية و40 ألف غرفة فندقية، وستعتمد على الطاقة الجديدة والمتجددة، وأنه سيتم توفير كافة أشكال المواصلات بها، سواء النقل الجماعي أو مترو الأنفاق أو القطارات الكهربائية فائقة السرعة.
عاصمة للشعب؟
مؤخراً، أعلن الدكتور مصطفى مدبولي وزير الإسكان، عن قرب موعد بدء حجز وحدات العاصمة الإدارية الجديدة (شقق وفيلات)، مشيراً إلى أن الحي السكنى الأول يضم نحو 25 ألف وحدة سكنية سيتم طرحها على مراحل، وتستهدف الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة.
وكذلك كشفت المهندسة رجاء فؤاد، نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية لقطاع التخطيط والمشروعات أن سعر المتر بالحي السكنى الأول بالعاصمة الإدارية لن يقل عن 10 آلاف جنيه كحد أدنى، في ظل اتسام وحداته بارتفاع مستوى التشطيبات الداخلية والخارجية وكبر المساحات وتميز المواقع.
وما سبق دفع معظم خبراء العقارات إلى القول بأن تخطي سعر المتر في وحدات الحي السكنى 10 آلاف جنيه سعر مبالغ فيه ولا يتناسب مع الطبقة المتوسطة ولا فوق المتوسطة، وستكون المدينة في مستوى الطبقات العليا فقط، وبالتبعية سيكون نمط الحياة بها أعلى من المدن العامرة. خاصة وأنه وفقاً لهذه الأسعار، فستكون قيمة الوحدات السكنية بين مليون و500 ألف جنيه و2 مليون جنيه في حدها الأدنى.
إجراءات أمنية خاصة
مؤخراً تم تداول أخبار عديدة حول إجراءات تأمين العاصمة الإدارية الجديدة وأُشيع أنه يتم بناء سور ضخم حول العاصمة، أو ما تم إنهاؤه منها بالفعل، يبلغ ارتفاع ذلك السور حوالي 7 أمتار بطول 100 كيلو متر، وأن تكلفة بناء السور وحده هي 3 مليارات و200 ألف جنية. إضافة إلى شبكة واسعة وضخمة من الأنفاق المُجهزة تحت الأرض.
وهو الأمر الذي نفاه محمد عبد المقصود، رئيس جهاز العاصمة الإدارية الجديدة، قائلًا: «ده كلام فارغ، العاصمة الإدارية على مساحة ١٨٠ ألف فدان، مين المجنون الذي يتصور أنه يمكن بناء سور حول هذه المساحة الضخمة». ولكنه تابع: «السور قد يكون في منطقة بقلب العاصمة، أو حول محطة للكهرباء أو المياه، أو حول منشأة ما».
وبعيداً عن الجدل حول قضية السور، يبدو أن هذه المدينة الجديدة تشهد تدابير أمنية خاصة لم تعهدها أي مدينة مصرية سابقاً.
حيث تحوي على «مركز السيطرة الأمني»، وهو مركز تحكم وسيطرة تابع لوزارة الداخلية، يقوم بأعمال السيطرة والتحكم والتأمين والحماية للأرواح والممتلكات العامة والخاصة من خلال استخدام تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في السيطرة على جميع عناصره الشرطية بالعاصمة الإدارية الجديدة.
ويتابع المركز جميع الأحداث في جميع الأماكن في الزمن الحقيقي لها من خلال كاميرات مراقبة (6500) كاميرا مرحلة أولى، ومستشعرات تحكم تنقل الأحداث من خلال شبكة بيانات تغطي كل أنحاء المدينة؛ وتعرض هذه البيانات على شاشات عرض مزودة بتطبيقات نظم المعلومات الجغرافية وتطبيقات إدارة الحوادث ثلاثية الأبعاد.
ويتم تخصيص عدد مناسب من متلقي البلاغات: «نجدة، حماية مدنية، مرور، أمن عام، إدارات أخرى»، طبقًا للزيادة السكانية بالمدينة وتتنوع الأنشطة بها، كما يقوم مركز السيطرة الأمني بالتنسيق مع الجهات الأمنية الأخرى بالمشاركة في البيانات والمعلومات بغرض تنسيق الأعمال الأمنية.
تعتيم إعلامي
ليس خفي على أحد أن الإعلام المصري – منذ يوليو 2013 – يتبارى في استعراض إنجازات النظام السياسي الحالي، عن طريق تسليط الأضواء على مشروعاته الاقتصادية وتحركاته السياسية، معتبراً إياها إنجازات في حد ذاتها، بغض النظر عن تداعياتها أو مدى فعاليتها.
ولا يمكن إنكار أن هذا الشو الإعلامي متسق تماماً مع رغبات النظام السياسي، الذي بنى شرعيته الأولى على الأزمة، ولم يستطع إلى الآن تخطي هذه المرحلة إلى شرعية الإنجاز، فتوقف ليُغير تعريف «الإنجاز»، وأطلق هذا المسمى على كل «لا فعل» يقوم به، فعدم انهيار الاقتصاد المصري إنجاز، وعدم انتشار الفوضى إنجاز، وعدم خروج المصريين كلاجئين إنجاز، وعدم سقوط الدولة إنجاز.
وقياساً على تعامل الإعلام مع مشروع تفريعة قناة السويس، بالحديث عن تفاصيله ليل نهار، فإن هناك حالة من التعتيم الإعلامي حول تفاصيل العمل وحجم الإنجاز الإجمالي في مواقع إنشاء العاصمة الإدارية، وكل ما يخرج على شاشة التليفزيون هي تقارير أُعدت بعناية ودقة، لمقدمي برامج مُنحازة بشكل واضح للنظام المصري، وهي تقارير يغلب عليها الإبهام في الحديث ومواقع التصوير. وبالطبع تخلو هذه التقارير من أي إشارات إلى التكلفة الحقيقية لهذا المشروع، أو عوائده على المواطن المصري البسيط.
ويبدو أن هذه الحظر قد امتد إلى العاملين فيها، فبالنظر إلى ضخامة عدد الشركات العاملة هناك، وبالتالي امتلاء مواقع العمل بجيوش من الأيدي العالمة، مما جعل كل فرد منّا يحتك في دوائر معارفه بفرد أو اثنين على الأقل من العاملين هناك، فإن أحدا لم يجرؤ على تسريب صور أو فيديوهات من مواقع العمل، حتى على صفحات التواصل الاجتماعي على سبيل التسلية أو الفخر.
وهو الأمر الذي يمنح ثقلا نسبيا لهذه الشائعات المنتشرة حول سور المدينة الضخم، وشبكة الأنفاق العملاقة التي تُبنى تحتها.
باب الخروج
وفقاً لما سبق، يبدو واضحاً أن الدولة ليست بصدد إنشاء عاصمة بديلة للقاهرة أو مدينة لاستيعاب الزيادة السكانية، ولكنها تؤسس عاصمة تجارية ومركزًا للمال والأعمال، ومنتجعا جديدا لذوي النفوذ والسلطة.
ولذلك تركز حملات الدعاية لشركات الإنشاء الخاصة في العاصمة الإدارية على استقطاب الفئات التي تسعى إلى حياة مترفة آمنة، داخل مدينه مراقبة بأحدث الوسائل منذ الخروج من البيت إلى العودة له.
فهناك مليارات تُصرف لصالح شريحة محدودة في المجتمع، في ظل أزمة مالية واقتصادية خانقة، باتت تطارد رجل الشارع في مأكله ومشربه وملبسه، وحتى في وسائل مواصلاته، والعجيب أن المواطن البسيط هو من يتحمل فاتورة إنجاز هذه الأعمال.
أخيراً، يجب أن ننتبه إلى فسلفة النظام في إنشاء هذه المدينة، على هذا النحو من الرفاهية وإجراءات الأمن والوقاية، والتي تنبع بالأساس من عقلية الكومباوند، هذه العقلية التي تبحث عن حياة الترف بغض النظر عن مدى تعاسة من حولهم، ولذلك فهناك دائماً أسوار عالية تقي من هم بالداخل شرور الخارج وغضب أهله، بل وتوفر لهم ملاذا آمنا، يمكن من خلاله إدارة الحرب – الحتمية – مع من هم في الخارج.
ولك أن تتخيل أنه إذا اندلعت انتفاضة أو ثورة جديدة – وربما ثورة جياع – فلن يكون هناك فرصة للنيل من رجال الدول أو مؤسساتها داخل هذه «القلعة»، فموقعها جعل وصول المظاهرات أو الجموع الغاضبة إليها مغامرة مستحيلة في هذه الصحراء المكشوفة.
وإذا لم يكن هناك مفر من تسمية هذا المشروع الضخم بمسمى «العاصمة»، فلتكن عاصمة النظام.