حققتَ المستحيل: أدهم صبري ينعي نبيل فاروق برسالة مؤثرة
رحلتَ فجأة يا صاحبي..
وربما كانت هذه أول مرة تفعل شيئًا دون استشارتي.
رحلتَ بعدما أبقيت فمك مُغلقًا وكتمتَ سرّي عن العالمين، وها قد آن الأوان أن أكشف لهم عن كل شيء، وعن تلك الرحلة الطويلة والشاقة التي قطعناها سويًا حتى حقّقنا كل هذا النجاح، وإن كنتَ حفظت سيرتي عن الناس صونًا لطبيعة عملي، فيتعيّن عليَّ الآن أن أنشرها لهؤلاء الناس إكرامًا لطبيعة عملك، ولهذا سيتعيّن عليَّ أن أقصّ عليهم كل شيءٍ منذ البداية.
البحث عن بطل
سأحكي لهم عن نبيل فاروق الطالب بالسنة الأولى من كلية الطب في طنطا، والذي تورّط رغم أنفه في عملية مخابراتية رفيعة فتحت له أول أبواب هذا العالم الغامض، بعدما سمع عن رجلين إنجليزيين يُقدِّمان دروسًا في اللغة الإنجليزية لأهل طنطا، وهو ما اعتبرتَه حينها فرصة العُمر لإتقان اللغة من أهلها.
واظبتَ على حضور هذه الدروس بصُحبة عددٍ من المصريين استرعى انتباهَك منهم واحدٌ محدود الثقافة لا يبدو عليه أبدًا أنه حضر لتعلُّم الإنجليزية، أثار شكّك لكنّك لم تهتم به كثيرًا حتى فوجئتَ به يومًا يُقابلك عند باب الكُلية ويُفاجئك بجُملة «الباشا عايزك»، وإذ بالرجل يتّضح أنه مُخبر لجهاز أمن الدولة.
في مقرِّ الجهاز الأمني ذي السُمعة السيئة، حينها، دخلتَ بركبتين تتخبطان في بعضهما وخضعت لاستجواب عسير فوجئت به أن العيون الأمنية المصرية تُتباع الرجلين الإنجليزيين وتشكُّ في تنفيذهما أعمال تجسس، بعد هذا الاستجواب تدخلت جهة أمنية أعلى في مسار القضية، وكانت هذه علاقتك الأولى بجهاز المخابرات العامة المصرية.
خرجت من هذا التعامل مبهورًا بضابط المخابرات السيد (أ. ص) الذي يُجيد 6 لغات ومهارات التنكر بشكلٍ لا مثيل له، وهو ما زرع في نفسك بذرة حُلم راح يُطاردك من حينها، فمادام أن مصر تمتلك عددًا من الأبطال في الظل، فلماذا لا ندفع بجزءٍ من بطولاتهم إلى النور؟
أعلم أن أول خيوط ابتكار شخصيتي في عقلك كانت من روايات الأبطال الأجنبية كشيرلوك هولمز وجيمس بوند وأرسين لوبين، الذين لطالما انبهرت بمغامراتهم دون أن تبهرك سلوكياتهم الأخلاقية التي اعتبرت أنها تتعارض مع كل ما آمنت به من قيم مجتمعنا.
وفي هذه الأثناء كان الممثل عادل إمام طرح مسلسله المخابراتي الشهير «دموع في عيون وقحة» وحقٌّق نجاحًا ساحقًا أثبت لكَ أن المصريين بحاجة إلى بطلٍ حقيقي من عصرهم ونبْت أرضهم وجنسهم، يُدافع عنهم ويحميهم فيلتفّون حوله ويؤمنون به.
عندما بحثتَ مليًّا في ساحة الأدب لم تجد البطل الذي تبحث عنه، فالمصريون لا يعرفون لأنفسهم بطلاً إلا الأجانب المستوردين من الخارج والأبطال التاريخيين الخارجين من سطور كُتب التراث كالزناتي خليفة وأبو زيد الهلالي يفصلهم عن الواقع مئات السنين. كانت ساحة الأدب المصري بحاجة إلى بطل مصري عربي مُعاصر يرتدي ثيابهم ويتحدّث بلغتهم ويحميهم من مخاطر عصرهم.. كانوا بحاجة إلى أدهم صبري.
وبين زملاء دراستك في طنطا، سيطرت الفكرة على عقلك بجنون، وكلما ناقشتَ أصحابك فيها سخروا منك، حتى أن أحدهم ألقى عليك بعبارةٍ مازحة غيّرت حياتك «طب ما تكتبها انتَ..»، وبسبب هذه الجملة قررت أن «تكتبها» بالفعل، وبدأت العمل على شخصيتي أكثر فأكثر ورسمتَ لها خطوطًا عريضًا، ولم يعد باقيًا إلا التنفيذ، وهنا أتت الصدمة.
في العام 1979م،تجاسرتَ يومًا وسافرت إلى القاهرة وعرضت الفكرة على العديد من دور النشر، إلا أن جميعها استهزأت بطالب الطب الذي يُحاول أن يمتهن الأدب دون سابق معرفة، بل ويطرح فكرةً عجيبة عن بطل فردي في سوق كُتب لم تعرف إلا البطولات الجماعية في مغامرات السلاسل، وأشهرها «المغامرون الخمسة» للراحل محمود سالم، وكان أفدح أشكال هذا الرفض ما حدث معك في دار نشر قومية كبرى لم يكتفِ مديرها برفض فكرتك وإنما أمر الأمن بطردك خارج المكتب، وهكذا ضاعت أولى محاولات خروجي إلى النور.
كم قاسيتَ يا صاحبي لتُظهرني علنًا للناس.
خلال هذه الرحلة لم تنقطع صِلتك بصديقك رجل الأمن (أ. ص)، الذي بهرك بخبراته ومهاراته وأدبه الجمِّ، ومن أجله اخترعتَ خصيصًا لقب «رجل المستحيل»، لم تتوقف عن مراسلته ولم يكفَّ عن الردِّ عليك، ولعبت هذه الخطابات دورًا هائلاً في ريِّ بذرة «الرجل الأمني الخارق» في أعماقك حتى أتت اللحظة المناسبة.
في صيف العام 1984م، وبينما كنت تستقلَُ أحد قطارات الدرجة الثالثة المُنطلق إلى مدينة شبين الكوم، بصحبة صديق عُمرك الدكتور محمد حجازي، أردت التسلية على نفسك بأرخص شيءٍ ممكن، وفقًا لحالة الفلس التي أحالت جيوبك إلى صحراء. بقرشين صاغ ابتعتَ عددًا من مجلة اسمها «عالم الكتب» للمرة الأولى في حياتك، وفوجئت بإعلان كبير في غلافها الأخير من المؤسسة العربية الحديثة تطلب فيه كاتبًا لروايات الخيال العلمي للشباب.
في هذه الأيام كنتَ تعيش أسوأ أحوالك كطبيب؛ فبسبب تعنُّت روتيني في وزارة الصحة انقطع راتبك، وعندما افتتحتَ عيادتك الأولى والأخيرة واجهت كسادًا كبيرًا منحك وقتًا كافيًا لتأليف أول أعمالك والتقدُّم بها للمسابقة. للأسف لم أكن أنا بطلها وإنما زميلي نور الدين محمود بطل سلسلة روايات ملف المستقبل، مستلهمًا من بعض الحكايات التي سمعتها من أهالي قنا، إبان عملك بها، وقودًا للكتابة في مجال مجال الخيال العلمي.
كانت المفاجأة أن هذه الرواية التي كُتبت على عجالة في عيادة فارغة على يدي طبيب يُجرِّب حظه وموهبته، نالت إعجاب مُنظِّمي المسابقة، وأرسلوا لك خطابًا رسميًا يُخطرك بالفوز، لتضع قدميك، أخيرًا، على أول الطريق.
نبيل فاروق أديبًا
في صباح يوم الثامن أغسطس عام 1984م، دخلتَ مقر المؤسسة العربية الحديثة، مرتديًا حُلة أنيقة حاملاً حقيبة يدٍ فارغة، وقابلت الناشر حمدي مصطفى لأول مرة، والذي حضر متأخرًا 3 ساعاتٍ كاملة عن موعده إلا أنه منحك استقبالاً حافلاً انتهى بتوقيع عقد أول سلسة خيال علمي للشباب في تاريخ الأدب المصري.
تحول الحُلم إلى حقيقة، وتعاقدت على أولى قصصك، وآن للأفكار التي قضّت مضاجعك طوال السنين الفائتة أن تخرج إلى النور.
وبالرغم من أن اتفاقك الأوّلي مع المؤسسة كان بشأن سلسلة خيال علمي، إلا أن فكرة «رجل المستحيل» لم تتزحزح من رأسك مُطلقًا، ولم تُثنك فرحة التعاقد عن السهر طوال الليل للتفكير في إخراج البطل من تحت الرماد، ولم تنمَ إلا بعد أن توصلتَ للاسم الذي سأحمله للأبد، وهو أدهم صبري، متيمنًا بِاسم صديقك «رجل الأمن»، الذي يبدأ اسمه، أيضًا، بحرفي الألف والصاد، وعشتَ ومُت ومات دون أن نعرف من هو.
ببساطة مُدهشة، وكأنك لم تواجه عنتًا قطُ في نشرها، وافق الناشر حمدي مصطفى على فكرتك وأعطاك الضوء الأخضر لتبدأ العمل عليها، فشرعت فورًا في كتابة عملك الأول.
ما أن وضعتَ القلم على الورق وبدأت في تحويل الحلم إلى الحقيقة، لم يتوقف عن مراوغتك كثعبان تحت الماء؛ واجهتَ تعثرًا كبيرًا، وشعرتَ كما لو أن القلم لا يرغب في التزحزح عن مكانه حتى انطلق كالبرق وأنهاها بأسرع ما يُمكن، وكانت المفاجأة أنها لم ترق للسيد (أ. ص)، بدعوى أنها لا تنتمي لعالم المخابرات الذي لا تعرف عنه شيئًا، ما دفعك فورًا لشراء كل الكتب الموجودة في المكتبات عن عالم الجاسوسية والمخابرات، والتي دفعتك لإجراء المزيد من التطوير على الأجزاء التالية من السلسلة.
لم يكن نسج شخصيتي سهلاً، ملامح الوجه تكفّل بها الراحل إسماعيل دياب رسّام المؤسسة، أما عن سمات الشخصية فلقد جمعتها من 4 ضباط تعرّفت عليهم خلال رحلتك مع الأجهزة الأمنية، مضافًا إليهم تأثرك الجم بشخصية روكامبول (Rocambole)، وهو بطل مجموعة قصصية ألّفها الروائي الفرنسي بونسون دي ترايل بدايةً من العام 1857م.
وبالطبع كنتَ تعلم بأن لي ثأرًا لا يُغفر مع الإسرائيليين، بعدما حاولوا اغتيال والدي الذي عمل دبلوماسيًّا في لندن، وهي ذات اللحظة التي قررت فيها أن يدفعوا فيها الثمن على يدي رجل المستحيل، وفي عصرٍ خلا من وسائل اتصالات فائقة كالهواتف الذكية والأجهزة الحديثة كان اختيارك أن أعتمد على مهاراتي الشخصية في عملي، ولهذا دفع الإسرائيليون ثمن غدرهم غاليًا بواسطة قبضاتي القوية كالمطرقة وركلاتي العنيفة كالصاعقة التي انهالت على رجالهم وأحبطتُ مخططات عملائهم من المغرب وحتى المكسيك ومن أمريكا حتى جنوب أفريقيا.
وعن هذا الصراع والانتقام دارت أغلب مغامراتي، التي بدأت رسميًا في الأول من يونيو عام 1985م، حين صدر العدد الأول من مغامراتي «الاختفاء الغامض»، وتعرّف عليَّ الجمهور لأول مرة.
أدهم صبري بطلاً
مررنا بعامين صعبين يا صاحبي، فبالرغم من سماح الناشر حمدي مصطفى بخروج حلمك أخيرًا إلى النور إلا أنك واجهتَ رفضًا كبيرًا من الجمهور، فأرقام المبيعات كانت في أسوأ حالاتها حتى أنّك طلبتَ من ناشرك التوقف ورفض وأصرَّ على مواصلة الإنتاج وسط حالة الإحباط التي عشتها بعدما أحرقتَ سُفنك منذ لحظات الاتفاق الأولى مع المؤسسة، وقدّمت استقالتك من العمل في وزارة الصحة وودّعت الأطفال المرضى وبكاءهم الذي كان يُمزِّق نفسك غير آسفٍ على التخلّي عن البالطو الأبيض بعدما منّيت نفسك أن الـ500 جنيه التي كنت تتلقاها مقابل كل عدد ستكون كافية لإقامة أود بيتك للأبد، وها قد أصبحت كل الأحلام مهدّدة بالانهيار بسبب تدنّي المبيعات.
وفي النهاية أصاب رهان مصطفى عليك وعليَّ ومع بداية العام الثالث قفز التوزيع إلى أرقام فلكيةٍ بشكلٍ مُفاجئ، ومن 3 آلاف نسخة بلغت المبيعات 300 ألف نسخة، وأصبحت رواياتي مطلوبة في جميع الأقطار العربية، وأصبحتُ نجمًا للتفوق العربي في صراعنا مع إسرائيل بين ليلةٍ وضحاها.
وبالرغم من الاعتراض الدائم من السيد (أ. ص) على رواياتك وتأكيده الدائم لك على أنّك «بتهرّج»، وأنها لا تُعبِّر عن حقيقة عالم المخابرات الذي يعتمد على العقول أكثر بكثير من العضلات إلا أنّك فضّلت المُحافظة على ذات النهج، وتقديمي بصورة رجل المخابرات الذي يستخدم عضلاته دائمًا لحلِّ مشاكله، وهو ما راق بالطبع لأجيال المراهقين الذين تكتب لهم، والذي لا يعرفون إلا القوة وسيلة لحلِّ كل الخلافات.
وبعد 160 عددًا داومت المؤسسة على صدورها لم أتوقّف فيها عن خدمة وطني، آثرتَ أن تُحيلني إلى التقاعد في العام 2008م، وبعد إطلالتي الأخيرة على جمهوري بواسطة قلمك في العدد الأخير الذي حمل اسم «الوداع» آثرت بعده الانزواء بمنُى والتقاط الأنفاس بعد سنوات من الركض والقتال بلا لحظة توقف واحدة.
صحيح أنّك رحلت قبل أن تُحقّق حُلم عُمرك وتراني بطلاً مُجسدًا على الشاشات في فيلمٍ أو مسلسل، إلا أنّي أتعشم أن يدّخر لك القدر مصادفةً أخرى كالتي حدثت لرفيق دربك دكتور أحمد خالد توفيق بعدما فتحت وفاته الباب لاستهلاك أعماله فنيًّا عبر أشهر منصّات العالم المرئية، فهل ينال «رجل المستحيل» مصير رفعت إسماعيل قريبًا؟
رحل مُلهمك السيد (أ.ص) في فبراير 2014م، وها أنتَ تلحق به وتتركني وحيدًا أجاهد يوميًّا كيلا يكتشف شخصيتي أحد، ولن يتخيّل أحد أن ذلك العجوز متين البُنية هادئ الطباع الذي يقضي جُل وقته في شراء الخضروات وتصفّح الجرائد،هو الشاب الذي أفنى عمره في دحر الأعداء دفاعًا عن أمنهم.
أنا أدهم صبري، الذي قفز من الطائرات وقاد الدبابات، الذي حطّم أنوف أعتى الأقوياء وصرع فطاحل المخابرات، الذي قتل نمرًا بيدين عاريتين وأسقط مروحية مصفحة برصاصة مُحكمة، أعلن لكَ أمام جمهورك أنني لا أستحقُّ أبدًا اللقب الذي خلعتَه عليَّ؛ «رجل المستحيل».
لم أخض مثلك حربًا ضروسًا ضد وسط ثقافي مُعادٍ لأحقّق حلمًا أخبرني الجميع أنه مستحيل، ولم أحافظ على القمة 30 عامًا متتالية قدّمت فيها أطول سلاسل الأدب عُمرًا، ولم أمنحك شهرة زاعقة كما منحتني، شتّان بيننا يا صاحبي.. فأنت الأحق والأجدر بلقب «رجل المستحيل» وليس أنا.
كتبتُ لكَ هذا الخطاب من مخبئي الحصين بصُحبة زوجتي مُنى، وإلى أن ألقاك يومًا، أرجو أن تُرسل لأبي السلام.. والسلام.