عادل إمام: الفتى الطائر بين الواقع والحلم
عند النظر إلى السينما المصرية منذ بدايتها حتى الآن، لا يمكن بأي حال تجاهل قيمة فنان بحجم عادل إمام، حتى وإن بدأ منحنى وقيمة ما يقدمه في الهبوط منذ سنوات طويلة، عادل إمام ممثل أرخ للضمير المصري في زمن الأزمات، وهادن السلطة في الزمن الذي رأى فيه بداية استقرار الأوضاع، رائد في التقاط أصغر التفاصيل وأكبر الأزمات، حريف في استغلال نجوميته ورعاية أحلام الملايين، حين يقوم بدور الرومانسي يخترق الوجدان واللحظات الحميمة، وحين يقوم بدور السياسي لا يتجاهل السخرية من كل المؤسسات، وحين يتمرّد يتمسك بإرادة عظيمة تكاد تغير التاريخ. الممثل الأهم في إغواء الجمهور المصري وصاحب العُمر الأطول في قلوبهم.
ولد عادل محمد إمام في المنصورة في 17 مايو عام 1940، انتقل إلى القاهرة لظروف عمل والده ودرس في جامعة القاهرة كلية الزراعة، لكن شغفه بالتمثيل جعله يشارك في المسرح الجامعي في السنة الثانية من دراسته ثم العروض المسرحية على التلفزيون مثل: أنا وهو وهي في أوائل الستينيات، وبعدها مسرحية النصابين، إلى أن وصل إلى قمة النجاح المسرحي عبر مدرسة المشاغبين في أوائل السبعينيات.
هدم مفاهيم البطولة
عادل إمام ليس أكثر ممثلي مصر موهبة، بل إنه أقل من الكثير من أبناء جيله، عادل لا يتقمص الشخصية ولا يمنحها روحًا مختلفة، ملامح وجهه ونظراته لا تتغير، وفي نفس الوقت لم يعتمد على مقومات شكلية تجعله بطلًا، ليس وسيمًا ولم يملك قوامًا رياضيًا، لكنه كان بطلًا ولد من رحم الشارع المصري، «أنا فلاح وابن بلد وشوارعي، كنت أحب الشارع جداً» الأمر الذي خلق حالة من الألفة بينه وبين الجماهير عند ظهوره على الشاشة. الجمهور الذي يريد أن يرى أحلامه تتحقق عن طريق شخص يشبههم، رجل الشارع الذي يتميز بالسمار المصري والحزن العميق المختفي وراء الوجه الساخر والملامح المتشققة والكرش الظاهر والظهر الأحدب قليلاً والروح الخفيفة المتحايلة التي تظهر في أحلك الأزمات. كان عادل إمام «صورة صالحة للوضع في جميع البطاقات الشخصية» كما قال عنه الروائي الكبير خيري شلبي.
الشيء الأهم أن عادل إمام عندما يحمل لواء البطولة لا يثير شفقة المشاهد حتى ولو كان مهزومًا، بل إنه في كثير من الأحيان يلجأ إلى العنف «أنا عمي دراعي» والانتقام القاسي مثل نهاية «سلام يا صاحبي» أو المشهد الأهم في مسيرته الأدائية في نهاية فيلم «الغول» حين يوجه ضربة قاتلة إلى رأس فهمي الكاشف «فريد شوقي»، يخلص الناس من «قانون ساكسونيا»، ويجلس بأريحية تامة هاتفًا «فين البوليس، ابعتوا هاتوا البوليس». هذه المشاهد العنيفة والدموية رغم عدم اتساقها مع هيئة عادل إمام فإن العنف فيها مقبول وله معنى، لأن عادل قدّم صورة البطل الشعبي صاحب الحلول الفردية في ذهن المصريين، من لا يشترط فيه أن يملك بنية قوية، وإنما فقط قلب ميت.
الأمر الذي ظهر واضحًا بشكل أكبر في «شمس الزناتي» حين يجمع فريقًا ليساعد سكان الواحة من ظلم المارشال برعي (محمود حميدة)، فريق الأصدقاء الذي جمعه الزناتي لكل منهم ما يميزه، سواء كانت صفة جسمانية أو دهاء كبيراً أو قدرة على التصويب، حتى انضمام عوض «عبد الله محمود» كان نتيجة لإنقاذ الحصان، الوحيد الذي لا يمتلك أي ميزة ظاهرة هو شمس نفسه، البطل الذي لا يخاف ويرى فيه الناس الأمل في أن يصبحوا أبطالًا يومًا ما.
كن ساخرًا… تنجح
أثناء تكريم عادل إمام في مهرجان مراكش بالمغرب، صعد إلى المسرح وتحدث للحضور قائلًا إنه تلقى تنبيهات بألا يكون كثير الكلام لأن حديثه ستتم ترجمته. «أنا أساساً رغاي محبش حد يقاطعني» تنقل المترجمة حديثه إلى الحضور وتنتظر استكماله للحديث، يتنحنح في الميكروفون، وينظر إليها مترقبًا أن تترجم نحنحته فيضحك الحضور جميعًا، هذا الموقف ليس غريبًا على كوميديا عادل إمام، أو الزعيم كما اشتهر، كوميديا عادل إمام كانت مختلفة عن كل ممثلي الكوميديا في عهده أو العهد الذي سبقه، لم يلعب بشفتيه مثل إسماعيل ياسين، ولم يتلاعب بحنجرته مثل أستاذه فؤاد المهندس، ولم يستثمر بدانته أو هيئته الجسمانية مثل يونس شلبي، ولم يعتمد على المظهر ولغة الجسد مثل سمير غانم، لكن عادل إمام كان كوميديًا بالفطرة والسخرية المصرية الأصيلة، امتلك الزعيم – رغم وجهه الجاد – قدرة على إضحاك الجمهور بملامح وجهه رافقتها خفة الدم أو «الفهلوة» المصرية التي تحولت بعد ذلك إلى خروج دائم عن النص وصل إلى الذروة في مسرحياته، خاصة «الواد سيد الشغال».
سخر عادل إمام في أعماله من كل شيء، المؤسسات والمثقفين المتعالين ورجل الأعمال البارزين، سخريته الماكرة كانت متنفسًا للجمهور الذي وجد فيها منبرًا ديمقراطيًا ينادي فيه بعالم أكثر عدلًا حتى ولو كان ساذجًا، بل إن سخريته امتدت للجمهور نفسه الذي شُبه في أفلامه بالرعاع التابعين، الأمر الذي يمكن اعتباره نقدًا سياسيًا مبطنًا بينما اعتبره آخرون إهانة وتقليلًا من الشعب.
خروج عن المألوف
اشتهر عادل إمام كممثل كوميدي في أفلام تهدف إلى إضحاك الجمهور، لكن لأنه «مُمثل ذكي» كما وصفه الرائد (فؤاد المهندس)، قرر عادل أن يغير من جلده في سلسلة من الأفلام المتمرّدة، وهو الأمر الذي لم يكن مألوفًا على أبناء جيله ممن رغبوا في الاستمرار على نفس خط النجاح، هذه الأفلام منها «إحنا بتوع الأتوبيس» رفقة أستاذ كوميديا آخر اسمه «عبدالمنعم مدبولي»، وهو الفيلم المأخوذ من كتاب «حوار وراء الأسوار» للكاتب جلال الدين الحمامصي، والذي يُنظر إليه حتى الآن كتجربة تراجيدية شديدة التأثير والأهمية في حديثه عن الحقبة الناصرية والظلم السياسي والتعذيب في المعتقلات، في نفس الفترة قدّم شخصية اللص التائب «ماهر» في فيلم «المشبوه» الذي كان التعاون الأول مع «سعاد حسني» ثم في تحفته «الحرّيف» قدّم شخصية فارس، المتمرد المراوغ الأهم في السينما المصرية.
في «الحريف» و«المشبوه» كانت شخصيات عادل إمام مذنبة وتستحق اللوم بشكل أو بآخر، تحمل الماضي على عاتقها وتلهث في محاولة للانعتاق منه، كانت أفلامًا محورها الأهم هو الشخصية والنقد الذي وجهته هذه الأفلام للوضع الاجتماعي لم يكن يرغب في خوض معركة حقيقية،لكن في التسعينيات، برفقة وحيد حامد وشريف عرفة، خاضت أفلام عادل إمام معارك حقيقية وأثارت الصخب، بداية من اللعب مع الكبار 1991 ومرورًا بـ«الإرهاب والكباب 1992، والمنسي 1993 وطيور الظلام 1995 وختاما بـالنوم في العسل 1996»، لم تكن أفلاماً تحمل رسائل مبطنة، وإنما كانت تحمل غضبًا شعبيًا واضحًا حتى ولو رأينا فيها اتفاقًا خفيًا مع النظام.
الزمن ينتصر
مع بدايات الألفية جنح عادل إلى الأفلام الكوميدية الخفيفة التي وقفت في صف النظام، حتى النقد الذي وجهته هذه الأفلام كان نقدًا خجولاً يمكن اعتباره موالِ للنظام، بداية من فيلم «أمير الظلام» وانتهاء بفيلمه قبل الأخير «بوبوس»، حتى المسلسلات التي قدّمها لم يكن فيها إبراهيم الطائر البسيط الذي يطمح إلى الهرب، ولا جمعة الشوّان البطل الشعبي والمغامر الوطني.
كان عمارة يعقوبيان هو آخر الأفلام الجيدة التي صنعها عادل إمام، بعدها تعاون مع السيناريست يوسف معاطي في ثلاثة أفلام، مرجان أحمد مرجان و حسن ومرقص وبوبوس، انتمت الأفلام الثلاثة إلى فئة كوميديا الإفيهات السهلة. امتدّت الصداقة والتعاون من السينما لتصل إلى التلفزيون في عدد من المسلسلات كان أوّلها «فرقة ناجي عطا الله» في 2012، وتكرر الأمر في كل عام ليصل إلى ستة أعمال تلفزيونية غاب عنها الإبداع، ولم يكن فيها شيء مميز، أغلق الصديقان الدائرة على نفسيهما وتماديا في مجاراة الخواء.
لم يعد عادل إمام الذي عهدناه، ارتدى عادل الملابس الرسمية، لم يعد ذلك المتمرّد صاحب الدم الخفيف ولا البطل صاحب القلب الميت الذي رأى فيه الجمهور فرصة ليحلم، ترك صفوف البسطاء وانضم إلى رجال الدولة، هزمه الزمن ولم يترك لنا عزاء إلا على شاشات الماضي.