الفنان «محمد شرف»: فتى الاسكتش الأول
عاش طفولته وشبابه بالإسكندرية، أحب التمثيل ولكنه لم يدرسه، تخرج في المعهد الفني التجاري في منتصف الثمانينيات ثم انتقل للقاهرة، المدينة التي تحتكر تسعة أعشار الفرص في مصر. ظل يطارد شغفه بالتمثيل، عشرات الأعمال على المسرح وفي التليفزيون والسينما، من بينها يتذكر الناس دورًا مهمًا لمع فيه في منتصف التسعينيات في «أرابيسك» أسامة أنور عكاشة.
«سامبو» شرير الحارة الشعبية، ولكنه عندما رحل بقلب متعب تذكره الناس بشكل أوضح بأدواره الكوميدية في أفلام الألفية الثانية. أدوار غالبيتها لم يتعد ظهورها بضع دقائق على الشاشة، مشهد واحد، اسكتشات كوميدية خارج سياق الحكاية، ولكنها منحتنا ضحكات ظلت عالقة بأذهاننا حتى استدعيناها كأول رد فعل على رحيل من منحنا إياها.
اليوم نحلل معكم أسباب ارتباطنا وتذكرنا لكل لحظات ظهور «محمد شرف» القصيرة على الشاشة الكبيرة.
كيف يبدأ شرف النكتة: «سامو عليكوو»
يقول الممثل والكاتب البريطاني «ريس شيرسميث» في مقال نشر بجريدة الجارديان: أعتقد أنه من المهم أثناء الكتابة، وخاصة في الاسكتشات الكوميدية، أن تدع جمهورك يعرف وبسرعة ما يفترض أن يجدوه كوميديًّا، دعهم يدخلون لأجواء النكتة بأسرع وقت ممكن. مثلًا «جيد أنا أرى، هذا بلياتشو لا يحب الأطفال، ماذا سيحدث إذن؟»
هذا بالتحديد ما يمكننا رؤيته وبوضوح في كل اسكتشات محمد شرف التي يحفظها الجمهور، الدخول السريع لأجواء النكتة، هذا رجل يقدم شخصيته في ظهورها الأول بشكل كوميدي مفاجئ وسريع في ثوانٍ معدودة. يعلم الجمهور من هذا ويترقب المفارقة التي ستصنع الضحكة.
في فيلم «ظرف طارق» على سبيل المثال يدخل رجل مجهول عقب دقات سريعة ومتتالية على باب الشقة التي يقيم فيها طارق وصديقه معتز، هذا ظهور أول لشخصية رجل يبدو مندفعًا وعنيفًا، بالإضافة إلى أنه يترنح بين لحظة وأخرى، يهتف الرجل «سلامو عليكوو»، يسأله طارق -كما يسأل الجمهور- من أنت؟ وما ماهيتك؟ وماذا تتبع؟ فيرد بأنه «إنسان، كائن يعيش ويتعايش»، كما أنه ينفي تبعيته لأي شيء، «أنا رئيس جمهورية نفسي».
تترك هذه الجملة أثرًا كبيرًا في الذاكرة، بالإضافة بالطبع لحزمة الإجابات غير المتوقعة، يدخل الجمهور في أجواء النكتة، هذه شخصية غرائبية لشخص لا يأبه بأي شيء ولا يمكن توقعه، ماذا سيحدث إذن؟ وحينما يسأله طارق أخيرًا وبعد نفاد صبر عن اسمه يقول: بسيوني مراد الحيوان، يدخل طارق معه لنفس الأجواء ويسأله عن نوع الحيوان؟ وتستمر لعبة الأسئلة والإجابات والأفعال غير المتوقعة طوال هذا الاسكتش.
هذا إذن ملمح دائم في اسكتشات محمد شرف، الدخول المفاجئ الذي يتبعه تقديم شخصيته للجمهور، لا عجب إذن أننا نعرف اسم الشخصية، والذي عادة ما يحمل مفارقة كوميدية في حد ذاته، حتى ولو ظهرت هذه الشخصية لمشهد واحد. فهو «المعلم مشمش» صاحب صالون مشمش الثقافي في فيلم «جعلتني مجرمًا»، وهو اللص الخبير «عنكب» في فيلم «عصابة الدكتور عمر»، وقبل كل هذا هو «حمادة العرة» في «فيلم ثقافي».
يظهر هذا الدخول المميز لمحمد شرف في أكثر من تعاون مع أحمد حلمي بشكل خاص، وكأنه كان يحجز اسكتشًا خاصًّا بمحمد شرف في كل أفلامه. ففي «زكي شان» مثلًا يظهر شرف في مشهد واحد أيضًا خارج سياق الحكاية، حيث يذهب زكي لمواجهة لص اقتحم الفيلا الخاصة بالأسرة التي يعمل لديها، الكهرباء لا تعمل والمشهد يبدأ في الظلام، وفجأة تعمل الأضواء لتظهر شخصية اللص، يناديه زكي وبشكل مباشر للغاية باسم «بيومي الحرامي ابن منطقتي»، هكذا يعرف الجمهور منذ اللحظة الأولى أن هذا اللص تربطه صلة جوار وصداقة مع زكي، ندخل لأجواء النكتة مع هذه المفارقة، ونبدأ في توقع المفارقة القادمة.
وحتى في تعاونه الوحيد خارج هذا السياق مع أحمد حلمي في فيلم «آسف على الإزعاج»، وفي المرة الأولى التي لا يقدم لنا فيها اسم شخصيته في ظهورها الأول، يتحول هذا الأمر في حد ذاته لنكتة، حيث ندرك أن هؤلاء الجالسين على نفس الطاولة في هذا المقهى وبعد ساعات وربما أيام من لعب الدومينو سويًا، لا يعلم أي منهم اسم الآخر، فينادي كل منهم الآخر قائلًا: «يا»، وكفى.
فن صناعة المفارقة: «واحد مصري هيشجع إيه؟»
هذا ما يصنع الضحك، المفارقة وتوقيتها. يؤكد الكاتب ومدرب التمثيل «سكوت سيدسيتا» هذا في مقاله المنشور على موقع Backstage:
وهكذا تظهر المفارقات واحدة تلو الأخرى في اسكتشات محمد شرف. ففي فيلم «الرهينة» مثلًا نسمع عن شخصيته قبل ظهوره، يحكي مصطفى/أحمد عز وهو على متن الطائرة المتوجهة إلى أوكرانيا عن صديقه عماد الذي يملك أموالًا لا تعد ولا تحصى، وسيتكفل بإقامته وعمله بمجرد وصوله، ترتفع التوقعات إلى حد السماء إلى أن نقابل عماد بدخوله المفاجئ كالعادة.
بدلة بيضاء وحذاء أبيض وتيشرت أحمر، أحضان مطارات، ثم يجر عماد مصطفى إلى السوبر ماركت، حيث يشترى كميات ضخمة من الطعام، ثم يطلب من مصطفى مالًا ليدفع مقابل هذا الطعام ويتحجج بنسيانه لبطاقة الائتمان الخاصة به، يسأل مصطفى عماد عن سيارته فيجيب: «فور باي فور يا جدع»، يدخل الجمهور لأجواء النكتة في انتظار اللحظة التي سينكشف فيها نقيض ما اعتقده مصطفى في البداية، تتحول كل المشاعر الإيجابية لأخرى سلبية حينما يصلان لبيت متهدم يقيم فيه مجموعة كبيرة من الشباب المصريين، يكتشف مصطفى النكتة كما يكتشفها الجمهور، ومن هذا الخليط بين اليأس وغير المتوقع يتولد الضحك.
يعتمد شرف وبشكل رئيسي في اسكتشاته على هذه الحرفة في أداء لحظة التحول، والتمهيد لها، قد يستمر التحضير لدقائق كما شاهدنا في الرهينة، وقد يصنع التحول في جملة واحدة.
نعود لمشهده الوحيد في دور بسيوني الحيوان في «ظرف طارق»، والذي يتوسطه فرحة هيسترية لبسيوني أثناء متابعته لمباراة كرة قدم، يتعجب معتز: «ده جون فينا!» يجيب بسيوني مبررًا فرحته: «يعني لينا»، وليختم ذلك بتعليق آخر شهير: «واحد مصري هيشجع مين؟ نيجيريا!»، وبعد كر وفر ومشاجرة كوميدية بين أطراف الاسكتش، نعلم في النهاية من شريط الصوت وبشكل غير متوقع أيضًا أن المباراة لم تكن في الأساس بين مصر ونيجيريا. سلسلة من المفارقات والتحولات إذن.
الكوميديان بين النص والارتجال
قد يرى البعض أن الفضل في كل ما ذكرناه يعود في الأساس لكتاب هذه الأفلام، وإن كنا لا نعرف يقينًا إن كانت هذه الاسكتشات قد كتبت بشكل مكتمل قبل تأديتها، أم كتبت خصيصًا لتلائم طريقة محمد شرف أم اختلط فيها النص بالارتجال.
ولكن الأكيد أن شرف ممثل كوميدي متميز، أبدع في أداء هذه الاسكتشات، وجمع فيها بين الكوميديا الجسدية وكوميديا الموقف، بالإضافة للتلاعب بالألفاظ. ولا دليل على هذه العبقرية والقبول الذي حباه الله به خير من المثال العجيب الذي ذكره الفنان أحمد آدم في مداخلة هاتفية في أحد البرامج على قناة DMC، حينما حكى أنه في أحد المسرحيات تعرض الفنان حسين الشربيني لأزمة صحية قرر على إثرها أن يغادر العرض قبل نهاية الفصل الأول.
حينها لم يجد آدم سوى محمد شرف الذي كان قد أدى دورًا آخر صغيرًا في الفصل الأول ليكمل دور حسين الشربيني الذي كان بمثابة بطولة ثانية، وليؤكد آدم أن شرف لم ينس أيًا من الإفيهات التي كانت مكتوبة لشخصية حسين الشربيني، بل إنه قد ارتجل ما يزيد عليها، وليصبح وللمرة الأولى والأخيرة ربما ممثلًا قام بدورين مختلفين لم يكن أحدهما يخصه في مسرحية واحدة!
رحل شرف إذن وبقيت اسكتشاته وضحكاته، وخرج الرجل الذي عشق الدخول المفاجئ، بنفس القدر من المفاجأة. لم يكتب عنه الكثير في حياته، ولم يقدر حتى رحل كما اعتدنا في مصر.